تدخل الجزائر وبعد انتخاب الرئيس وتنصيبه، مرحلة جديدة هي في الواقع معركة مختلفة تماما عن معركة الاستقلال الثاني للجزائر والذي تحقق بفضل ثورة فبراير التي أتاحت الغطاء لإنقاذ الدولة من طرف “عصبة حاكمة” اختطفت البلد اقتصاديا وسياسيا، اقتصاديا حيث رهنت المال العام إلى رجال أعمال مزيفين، وسياسيا حيث رهنت الإرادة العامة إلى سياسات اعتباطية تفتقد للبعد التحرري والسيادي.
لقد امتدت المرحلة الأولى من 22 فبراير إلى غاية 12 ديسمبر من سنة 2019، حيث كانت فترة اجتثاث لما يشبه ورم تعاظم حجمه وخطره بمرور أربع عهدات كاملة لم ترتبط فقط بشخص الرئيس بقدر ما ارتبط بما يشبه أوليغارشيا وضعت يدها على مقدّرات الأمة وإرادتها وحبست أنفاسها لخُمس قرن.
ولما كانت الأفكار يمكن أن تُخذَل، ولكن لا تموت، فإن الداء حمل في باطنه الدواء؛ لقد ظن الناس أنّ الترياق يجب أن يأتي من خارج الورم، لكن التاريخ، كما الطب، يُفضّل دائما أن يوفر مصل العلاج من الداخل، وهكذا كان، فقد كان المصل فكرة مخذولة استعادت أنفاسها وتجسدت في أشخاص من داخل المنظومة الحاكمة كان لهم القول الفصل في نصرة الحركة الشعبية بالشوكة المطلوبة وبالخبرة اللازمة في المرحلة الجارية.
أفراد وجماعات عاشت داخل النسق لكنها لم تكن راضية عنه تماما وأضمرت دائما إرادة ما مختلفة هي إلى روح الشعب وتاريخه أقرب منه إلى روح العُصبة، بفضلها حصل الاستقلال الثاني للجزائر، استقلال بعدّة معانٍ:
- استعادة للجزائر بعد اختطاف عشرين سنة من طرف عُصبة فاسدة.
- التحرر من التبعية المطلقة لمستعمر قديم بعد ظهور جيل تخلى عن عقيدة الولاء لفرنسا.
- الخروج من تهديد تفكك الدولة وانهيارها لأنه كان الخيار الأخير في مواجهة شعب ساخط على الأوضاع.
هكذا كانت المرحلة الأولى من الثورة الشعبية، اجتثاث ظاهر للفساد ورجاله، وتحرر الإرادة من المعوقات الرئيسة التي كانت تقف سدا منيعا أمام أي سعي للتنمية والنهوض بالدولة والأمة؛ لكن ماذا بعد؟ وماهي المهمات التي تنتظر الجزائر والجزائريين من وراء الانتصار الأولي المهم الذي تحقق؟ وهي أساسا مهمّات السلطة الجديدة وعلى رأسها الرئيس الجديد؟
لا شك أن ما ينتظر الجزائريين هو أهم وأصعب وأطول مما تمّ إنجازه في سبيل تحقيق المطالب العميقة بعد تحقق المطالب المباشرة؛ فواضح أن فساد النظام لمدة عشرين سنة لوحدها إضافة إلى الاختلال الذي أحدثته فترة التسعينات، ترك آثره الواضح على “السيكولوجية الاجتماعية” للشعب بمختلف شرائحه:
- بدءًا من الشعور العام الذي ساد عند عموم الشعب من عدم الثقة في السلطة الحاكمة.
- وانتهاءً إلى فقدان الشعب الثقة في نفسه حيث عدم ثقة الجميع في الجميع.
أما التأثيرات السلبية على “السلوك الاجتماعي” العام لكل قطاعات الشأن العام كانت أمضى أثرا:
- بدءًا بالقوانين التي تركت أثرها على السلوك العام في مختلف المجالات، حيث:
- قوانين يصممها المشرعون حسب المصالح الفئوية أو قوانين لحظية للمتنفذين.
- قوانين يطبقها المنفذون انتقائيا حسب مستويات النفوذ والمحسوبية بمنطق المحاباة.
- والبرامج التربوية التي لا تضمن تكوينا فرديا تضاهي مستويات التكوين العالمية، خاصة ما تعرّضت له البرامج التربوية المستحدثة من تدنّ واضح في فاعلية التكوين وكفاءته:
- تضعضع مستوى التكوين في المواد العلمية لما تعرضت له المقررات من استنزاف البعد البديهي فيها وأصبحت قائم على نظام ملفات تخصصي يخضع لمنطق واضعي المقررات، خاصة الرياضيات، ذات الأهمية القصوى في التكوين التربوي، لما طالها من تحريف لبعدها التربوي والتدريبي وتحولها إلى رموز يعسر تفكيكها على غير دارسها ومدرّسها، فما بالك والدارس هنا صبي لما يبلغ الحلم بعد!
- هشاشة تحصيل اللغات بما فيها اللغة الوطنية فضلا عن اللغات الأجنبية التي تعتبر كفاءة مفتاحية في اقتحام سوق الشغل والاقتصاد العالمي، وهو ما أدى إلى ظهور أجيال غير قادرة على تحقيق فعل قراءة سليم لأبسط الجمل والعبارات.
- فقدان مشتركات سلوكية أساسية فيما يتعلق بآداب التواصل بين الشرائح الاجتماعية حيث أوكل ذلك ضمنيا للجماعات الاثنية والمحلية ما يحدث خللا سيكولوجيا عميقا في وحدة البنية الاجتماعية العامة للشعب.
- وكذا هشاشة التنمية المحلية لمعيشة المواطن من حيث:
- تدني المستوى الاقتصادي بما هو فقدان القدرة الشرائية والفقر وما ينتج عنه من نتائج ثقافية وأخلاقية سلبية.
- غياب سياسات حقيقية تضمن اكتفاء غذائي محلي ووطني حاضرا ومستقبلا، حيث الاعتماد على الاستيراد بشكل أساسي حتى مع إمكان توفر الاكتفاء الذاتي من الانتاج الوطني.
- تدني مستويات شبكات الطرق، مع وتيرة ضعيفة في الإنجاز، وأحادية في نوعية الطرق، أي الاكتفاء بالطرق السيارة دون غيرها من وسائل النقل بالقطارات والنقل الجوي وغيرها، فضلا ضعف البنية التحتية الموجودة من حيث الجودة وتغطية جميع المناطق.
كل ذلك، سيؤثر على المخيال العام للشعب الجزائري من حيث إدراكه لواجبات السلطة الحاكمة نحوه فهو لا يتصورها خادمة له بقدر ما يجد فيها سببا يَحُدّ من حريته ولا يقدّر كفاءته ويقتطع من أمواله دون مقابل ملموس، فهو سيبقى حاملا في ذهنه تلك التصورات السلبية عن السلطة بحيث يعسر تغييرها بسهولة.
كل ذلك، جعل من الوضع الاجتماعي اليوم يعيش حالة من “فقدان المعايير” بما هو عدم قدرة المواطن على التمييز بين السليم والفاسد على مختلف الأصعدة، وهو ما سمّاه ابن خلدون بفساد معاني الإنسانية الناتج عن التربية المتعسفة، وهو ما يمكن إسقاطه على الحكم الفاسد والمستبد وما ينتج عنه من فساد في معاني الإنسانية أيضا، لذلك كانت المهمّة الأولى هي إصلاح الفساد من وجهين اثنين:
- الأول: الفساد الفعلي الذي مرن عليه الأشخاص الذين كان القرار في يدهم واستشرى في دوائر الإدارة البيروقراطية، والمتمثل في الغرق في الاحتفالية الموسمية والابتعاد عن علاج الهموم اليومية للمواطن، ذلك أن الانطلاق في تعبيد طريق ثانوية أو تزويد الطرق العامة بالإنارة العمومية مثلا قد يستغرق نصف عقد من الزمن، فضلا عن الانجاز بدون معايير أو بمخالفتها.
- الثاني: الفساد الرمزي، بما هو تحقير الذات الفردية والاجتماعية وفقدان الثقة في تحقيق الإصلاح والنهوض واستبعاده، بحيث لا يستأنس الفرد من نفسه قدرة على الإنجاز فضلا عن تسليمه بإمكان تحقيق ذلك من طرف آخرين غيره، وهو الفساد الذي استشرى في نفوس الغالبية العظمى من الشعب، وقد عملت على ترسيخه برامج التربية وسائل الإعلام والسياسات العامة.
أما إصلاح الفساد الأول فيكون بعزل الأشخاص عن دوائر التشريع والتنفيذ وصناعة القرار وتطعيمها بالنزاهاء والأكفاء، وهنا لابد من الوقوف مليا في المسألة، ذلك أن عزل العصبة الحاكمة لم يطل إلا الرؤوس، وبقي من هو على ديدن الفساد، وطبيعيا أن يعملوا على إعادة إنتاج المرحلة السابقة بما هو استعادة “فكرة” كانت فاعلة رغم عدم صحتها، وذلك ما سيجعل من الفساد فكرة تقاوم من أجل البقاء عبر أشخاصها وبما لهم من أفضلية الخبرة والاستيعاب لقواعد اللعبة في دوائرهم الإدارية، وهو ما يجعل منهم قوة تفاوضية لابد من الانتباه إليها واعتبارها لاحتوائها والتغلب عليها، وتلك هي الثورة المضادة الجارية.
ومن ثم فإن على القوة الإصلاحية أن تستوعب الموضوع وتناور في سبيل ذلك على المستويات المركزية والمحلية، وهنا يحصل وسيحصل أخطر صراع لأن الإدارة هي الحلقة التي عبرها يمر كل إصلاح وتنمية فإن تغلّب فيها الفساد فلن يحدث أن تغيير وسيستعيد الفساد عنفوانه، الفساد بما هو عرقلة لمشاريع الصالح العالم ونهب الأموال واختلاق العراقيل البيروقراطية في سبيل الإصلاح.
وإصلاح الفساد الثاني فيكون أولا بإصلاح التربية والإعلام والسياسات، من خلال إعادة صياغة المقررات التربوية والنظام التربوي بما يتلاءم مع نفسية التلميذ الجزائري وبما يهيئه لمسؤوليات المستقبل وفقا لأهداف وطنية محددة وخاصة بالتركيز على الاستقامة والكفاءة، وإصلاح الإعلام أولا بضمان برامج ترفع من أهلية وكفاءة المواطن النفسية والفعلية بتقديم مادة إعلامية ذات مستوى عال وكذا فتح المجال أمام الحرية المسؤولة.
وثانيا وهو الأهم هو تحقيق التقدم الفعلي بعجلة التنمية العمرانية وتحسين مستوى المعيشة: تغذية وصحة وتعليما، بما هي الأولويات الظاهرية التي من دونها لا يمكن للمواطن البسيط أن يصدّق بوجود تغيير فعلي، التحسين المادي الظاهري هو أول الطريق لإصلاح النفوس واستعادة الثقة المفقودة.
وحينها فقط، يصبح الحديث عن انبعاث الإيمان بالوطنية أمرا ممكنا، وعندها فقط أيضا سيكتشف الناس أن التصورات التي كانوا يناضلون من أجلها لم تكن إلا أيديولوجيات مزيّفةّ، وتصبح الإيديولوجيا الوحيدة والجامعة هي الالتزام بمواطنة صالحة ووطنية نافعة تدر بالثمار اليانعة والخيرات الوفيرة التي ينعم بها المواطن الفرد في الوطن الجامع الذي يحتضن الأمة، ذلك ما سيمكن النفس الاجتماعية من استعادة سويتها النفسية تدريجيا والتخلص من تحقير الذات وفتح آفاق إمكان العودة إلى التاريخ وصناعته محليا ووطنيا ودوليا.
أخيرا، فإن مرحلة ما بعد 12 ديسمبر 2019 هي المرحلة الأهم، لأنها مرحلة إنجاز المهمات الأصعب، فأولا الإنجاز فيها سيكون صامتا بعيدا عن كل صخب، حيث المرحلة الأولى هي التي عرفت الفوران والصخب، بينما المرحلة الثانية هي مرحلة أكثر عقلانية وهدوء، وما يتحقق فيها من تقدم أو تأخر يكون هو المقياس الحقيقي للنهوض أو للتراجع؛ هكذا نكون في المرحلة الثانية من ثورة فبراير تماما كمرحلة غداة الاستقلال بعد ثورة نوفمبر، ولكي تنجح المرحلة الثانية لابد من تحديد الأولويات والانتباه لها كما حاول هذا المقال بيانه، وهو ما نلخّصه كما يلي:
أولا: أن يكون المبدأ والشعار هو أولا استعادة السلطة لثقة الشعب.
ثانيا: أن تكون الغاية الأولية استعادة اللحمة بين أبناء الشعب بما هي التفاهم على المنطلقات (الوحدة بمنطق الجغرافيا) والقصود (المصلحة العامة التي تشمل الجميع).
ثالثا: فتح ورشة لتقييم التشريعات والقوانين في مختلف المجالات وإيكالها إلى أكفاء نزهاء مستقلين مدركين الواقع ومتحررين من إكراهاته.
رابعا: اعتماد برنامج استعجالي لإعادة هيكلة النظام التربوي والبرامج التربوية من الخبراء والكفاءات المهمّشة والمهجّرة.
خامسا: اعتماد سياسة تيسير “تعليم اللغات” لكل شرائح المجتمع خاصة للناشئة من خلال فتح باب الاستثمار فيها والتركيز على طاقم تعليمي متقن للغة متحدث أصيل لها.
سادسا: فتح اعتمادات للتكوين التربوي للمربّين (أمهات وآباء خاصة) تركّز أساسا على أساليب التواصل والتدريب عليه: التحاور وطرق الإقناع بالرأي والاستماع للآخرين مع حفظ حدود المراتب والمكانات.
سابعا: الانطلاق المستعجل في عملية تحسين المستوى المعيشي للمواطن بدءا بالطبقات الهشة من خلال زيادة الدخل أو بدراسة الأسعار، ومتابعة ذلك بالاستثمار في مجال التثقيف والتربية الأخلاقية، وتوظيف خريجي الجامعات في متابعة تحسين المعارف والانضباط الأخلاقي.
ثامنا: تخصيص ميزانيات مهمة عاجلة في سبيل تشجيع التوجه نحو قطاع الزراعة والبرامج المحفزة على التوجه إلى التخصصات الزراعية في الجامعات والتكوين المهني، وإنشاء خطط مرحلية لتحقيق الاكتفاء الغذائي المحلي والوطني.
تاسعا: تخصيص ميزانيات مهمة وعاجلة لتصميم وإنجاز شبكات الطرق السيارة شاملة لكل المناطق وطنيا، والتخطيط المتوسط المدى لدعم الطرق السيارة بشبكات نقل القطارات والطائرات.
عاشرا: تشجيع الصناعات المتعلقة بالزراعة والنقل والصناعة ذات الحاجة الحيوية والصناعات العسكرية والتخصصات المرتبطة بها لتحقيق الاستقلال الفعلي على المدى الطويل.