تحرير الإرادة العامة هي بداية التغيير الإيجابي

“أخبار اليوم” ترصد آراء أساتذة حول “إصلاح المجتمع” (*)
تزداد الأخطار والأزمات والمشكلات في جل المجتمعات لسبب أو لعدة أسباب، وساعد في ذلك عامل أو عدة عوامل.. سألنا أساتذة عن شروط الإصلاح ومناهجه وأولوياته، إن نرد تغييرا إيجابيا في المجتمع.
هل كل ما في المجتمع يحتاج إصلاحات؟ وهل يبدأ من الأسرة أم المدرسة أم المسجد أم وسائل الإعلام والصحافة أم المؤسسات الثقافية والفنية أم من جميعها وغيرها؟ وما أولويات الإصلاح؟ وما المناهج الناجحة التي تثمر بناء مجتمع واعٍ راشد قادر على المشاركة في الحضارة الإنسانية؟.

د. محمد عبدالنور “أستاذ جامعي”
مسار خروج المجتمع من أزمته شاق وطويل
للإصلاح مداخل عدة تعمل كروافد تصب في النهر ليصل إلى مصبه الأخير؛ بالتأكيد توجد أولويات، سأحاول تحديد الأهم فيما يلي:
1. فكرة مشتركة جامعة تتمثل في رغبة الخروج من الكساد الحالي، وذلك ما يدفع إليه 2. الشعور بتفاقم الوضع والشعور بضرورة العمل للخروج منه، 3. التفكير الصحيح والعمل الصائب للخروج إلى حل أفضل.
لذلك فإن مسار خروج المجتمع من أزمته شاق وطويل، فبداية ستجد أن كتلة كبيرة من المجتمع لا رغبة لها أصلا في الخروج من الأزمة، حتى لو تذمرت وأدركت جيدا عمق الأزمة، إلا أنها تنكص وتتهرب من الرغبة في التغيير لعلمها أنه عليها أن تتسلح بالإرادة والتسلح بالوسائل للخروج، بل وتجد فئات تدعو إلى استمراء الوضع، مثل القول بأن الأمر لا يزيد عن ضرورة الاندراج ضمن حضارة الغالب، أو حتى بالتنظير للنزول إلى أدنى منه، بالدعوة إلى الاكتفاء بالاستمتاع باللحظة والغياب عن الشأن العام؛ وهذه هي المعضلة الأولى التي تقوم على تبلد الشعور.
أما الشعور بالأزمة وضرورة الخروج منها ودق ناقوس الخطر المحدق والمنبئ بانهيار المجتمع أو زواله، فيعترضه عدم الصدق في المسعى، إذ تتقاذفه أمواج الفساد، وتتجاذبه المصالح الآنية والشخصية؛ أعني أنه ليس كل من شعر بالمشكلة وضرورة الخروج منها سيكون قادرا على علاجها وتشخيصها عمليا أو نظريا، فذلك يوجب إدراك أن الخطو نحو الضوء سيعترضه الكثير جدا من الظلام في الطريق، أعني المعيقات والمثبطات، وأن ضريبة تلزم لذلك وأولها التضحية بالمصالح والأصدقاء، وحتى السمعة، وتحقيق هذا الشرط يقتضي كدحا أخلاقيا صارما لا تضمنه إلا الحياة الروحية التي تكابد المثل، وإلا فإن النكسة ستحصل عند أول عائق.
أما الثالث فهو الأشق والأصعب، لأنه متعلق بالتحرر من المعيقين السابقين، وهو التسلح بالنظر العلمي الحاد والدقيق، ونحن في لحظة أصبح فيها العلم حبيس قاعات الدرس والصحف الأكاديمية لا يكلف نفسه عناء التفكير الواقعي ولا الصدح بالحق، فالعلم الحي يتطلب تكوينا متينا يضاهي علم السابقين ويتجاوزه في الفهم الدقيق لتعقيد هذا العالم سيكولوجيا وتكنولوجيا، وإحالته إلى صوره الرياضية الأولى، واستيعاب مضامينه المتشعبة، وهذا ما يغيب في منظوماتنا التكوينية، حتى العصامية اليوم أصبحت من النوادر فضلا عن داء التهافت على الاعتراف العلمي الدولي الذي لا يمنح أوسمته إلا بتحيز مسبق.
وعليه فإذا كان لنا أن نحصر أولويات العمل فهي أربع:
إزالة الجليد عن الشعور المتبلد بالذات وبالعالم، أو قل إحياء النفوس، وإحياء النفوس بمخاطبة عقولها وشعورها بما تدرك وتفهم لتصل إلى نتيجة وحيدة مفادها أن أفضل العمل هو الإقبال والإقدام بلا إحجام، وأمثل طرق الإحياء مخاطبة الضمير الديني، خاصة بلفت أنظار المدارك للدين الأتم الواصل بين أدنى الشعائر وصولا إلى أرقى الشأن العام، بلا تجزئة للدين، وخاصة الدين الملتبس بالهوى والاطمئنان الوثني للأبائية والنفس المخلدة.
التمرين الخلقي على حمل القضية والالتزام لها مهما حدث ومهما كلف الأمر، وخاصة الوعي بأن الغلو في الحق والتضحية بالنفس والنفيس من أجله، لا يتيح بأي حال التعدي والاستهتار بالحرمات والكرامات، فالجهاد في الإسلام ليس بطرا ولا قطع طريق إنما تمييز حاد بين الحق والباطل، وقبل ذلك وبعده توطين النفس على الإقدام وعدم انتظار المخلص والمهدي على شاكلة: اذهب أنت وربك فقاتلا.
التكوين في العلم السببي الذي لا يحدّث إلا بقرائن المنطق والدليل، والابتعاد عن القول الميتافيزيقي وبيع الأوهام، وإعادة تشكيل القيم والتقاليد الفكرية والعلمية في مدارس التكوين والأكاديميات التي تضمن الحدود الدنيا للتكوين في العلوم الأدوات، وتأسيس الاستقلال في العلوم الغايات التي تكفل الأناة العلمية والإبداع الفكري الذي يضمن تصميم الخطط الصماء والفعالة للتقدم ومغالبة الخصوم.
والجامع بين العناصر المتقدمة جميعها هي الإرادة، الإرادة الفردية التي تستحيل إرادة جماعية، وأساسها نبذ الاتكالية وإلقاء اللوم على الأغيار وانتظار المخلّص، فهذه الذهنية هي أكبر عائق في سبيل أي تحرر ونهوض ممكن، فإيقاظ الإرادة باختصار هي إعادة النفس إلى سويتها الفطرية، أعني نبذ الكسل والتظاهر بما في غير الباطن وإنكار الذات، وذلك يكون أولا بالتنشئة السوية، والتنشئة السوية للنشأ تستحيل دون سعي المربين لتزكية نفوسهم والارتباط بعالم المثل، فالتعلق بالمثل هي المفتاح لفك مغاليق النفس المخلدة إلى الأرض.
إن عنوان أي تغيير إيجابي أو نهوض هو تحرير الإرادة، والإرادة هي جماع الروح الجماعية التي إذا تم تفعليها لم يقف في طريقها أي عائق، بشرط ما تقدّم من تنبّه إلى الوجه الآخر للعناصر الأولوية المتقدمة الذكر، فإيقاظ الشعور لا يعني الفوران والحماس دون روية واصطبار، والمبدأ الخلقي ليس تخليا عن منطق المناورة والمكاسب الظرفية المتدرجة، وأما العلم السببي فهو ليس الاندراج ضمن النمط السائد والتخلي عن التدخل في الظروف التي تتطلب الحسم؛ ذلك أن أخطر ما يُغفل عنه هو الوجه الآخر لكل عنصر، أو قل الإدراك الغافل لكل عنصر، والذهول عن تعقّد المبادئ وتعقد العالم أيضا، فهو ليس بالبساطة التي يدرك بها.
وإذا كان لي أن أحدد المجالات الفعلية ذات الأولوية فهي لن تخرج عن أربع مؤسسات:
المؤسسة الدينية التي يجب أن يوكل إليها أمر تربية النشأ بتعزيز التلقين، تحفيظ نصوص الوحي وترسيخ المبادئ السلوكية من مصادر الدين.
المؤسسة السياسية التي يجب أن تتولى أولويات تحقيق الأمن بشموله: العسكري والغذائي والصحي والثقافي، والتخطيط لتعزيز القوة داخليا وخارجيا.
المؤسسة الأكاديمية التي يجب أن تتولى التكوين العلمي بمختلف مراحله، وذلك بما هو عناية بالتربية الفكرية والعقلية وإخراج الإنسان من المعرفة الغريزية التسليمية إلى المعرفة الكسبية الاستدلالية.
المؤسسة الثقافية التي تعمل على صهر المكونات الثقافية للجماعة ودمجها في خدمة مشروع واحد وإزالة كل الأسباب المهددة لوحدة الجماعة.
(*)- آراء أساتذة حول «إصلاح المجتمع»، عبر صحيفة «أخبار اليوم»؛ العدد 4567؛ الصادر يوم السبت 4 ذو القعدة 1443 هـ الموافق 4 يونيو 2022 م، الصفحة رقم 13.
داخل حوارات
أبريل 2025
د ن ث أرب خ ج س
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
27282930  

الأرشيف

إحصائيات الموقع

167183
اليوم : 65
الأمس : 117
هذا الشهر : 4359
هذا العام : 15895
مشاهدات اليوم : 274
مجموع المشاهدات : 506428
المتواجدون الآن : 3