إن أي مجتمع يبني قُبيل دخوله الحضارة “نظاما فكريا” يطابق “النموذج الأصلي” لحضارته، وذلك في إطار عملية التجذّر في المحيط الثقافي الذاتي، ومعنى ذلك أن يتولى النظام الفكري الناشئ ضمن إنسانية ما تحديد جميع خصائصه المميزة له عن بقية الإنسانيات الأخرى.
يفترض بن نبي أن الفكرة المسيحية التي أخرجت أوروبا من الحضارة ذات يوم هي نفسها الفكرة التي بها استعادت عنفوانها الحضاري، فقد سبقت الفكرة الدينية عصور التنوير والنهضة في أوروبا ورافقتها أيضا، بداية من حركة التجديد الديني الواسعة النطاق والتي مثّل ذروتها توما الأكويني، وصولا بعد ذلك إلى حركة الإصلاح البروتستانتي مع لوثر وكالفن، فقد عُنيت الأولى بالوصل بين العقل والوحي وعُنيت الثانية بإعادة تأسيس العلاقة السوية بين الإنسان والغيب، فكانت جهودا مستمرة اشتركت في مقاومة الإكلروس الكهنوتي المسيطر على الشأن الديني والدنيوي في أغلب الشعوب الأوروبية.
وتأكيدا على الدور المركزي لـ”الفكرة الدينية” في قيام الحضارة، ينبه بن نبي إلى أن استعادت التراث الفلسفي اليوناني قام على أساسين اثنين هما:
أولا، تحفيز الفكرة المسيحية للعقل عن طريق التجديد النظري، والإرادة عن طريق الإصلاح العملي، حيث انطلق الجهدان من داخل الفكرة المسيحية حُبًّا في تكريسها بأكثر الطرق فعالية، أعني أنه مهما بدا من نقد وتجاوز للقديم النظري والعملي في الدين، إلا أن القصد الجوهري للجهود هو الحفاظ على الأصول بما يقتضي التمييز بين العرضي والجوهري بالقدر المستطاع، وهنا تحديدا تقع مفارقة الجهد المنطلق من قواعد روحية متينة تجعل من خدمة الدين مسلّمة المسلّمات مقابل سعي حثيث للتجديد والتغيير، فهي وثوقية إيجابية لابد منها حتى ينطلق البناء ويُستتَم، ذلك الذي شمل أكبر الفلسفات والفلاسفة الذين كانوا في أغلبهم سليلي عائلات دينية، لم ينكصوا عن تدينهم واستمروا على التدين إلى النهاية، ولكنهم بحثوا لهم عن أجوبة للإشكالات التي يضعها الدين أمامهم.
ثانيا، الحضارة الإسلامية التي أتاحت لقاء الأوروبيين بالتراث اليوناني تذليلا وتيسيرا، وهذا يؤكد ما أشرت إليه من فكرة الإنسانيات المتعاقبة التي تتولى مهمة الشهادة على الناس، وأن السيادة الحضارية تقتضي المرور بالحضارة الآيلة للأفول، على أن الأمر لا يتجاوز “الانتهال” الذي يكون مرفوقا بوعي كامل بأهمية البعد الذاتي ومطابقا النموذج الأصلي، وأن الغاية هي بناء نظام فكري خاص، والخصوصية هنا ليست انغلاقا على الذات بقدر ما هي انتخاب لنموذج من بين نماذج أخرى تكون الخصوصية نتاجا طبيعيا له، إذ يمكن بعد ذلك سحبه على بقية النماذج وفقا لمقتضى النموذج الأصلي.
قد يبدو في مرحلة معينة أن التحليل المتقدم أوغل كثيرا في المثل الفكرية، إلا أنه في الوقت ذاته يوضح أن الاشتغال بالأفكار ليس شأنا ترفيا يمكن اختزاله إلى مجرد الزينة والأُبّهة، إنما هو عناية بأهم عنصر يمكنه تحريك القدرات المعنوية والمادية الكامنة التي تتكاثف من أجل أن تضمن للأفراد مكانتهم ودورهم المنوط بهم في المجتمع، فالفرد بالنسبة للمجتمع كالذرة في سديم الكون المادي لابد له من ناظم واقعي يمنحه دورا هاما رغم الفارق في الحجم، فما العلاقة بين الفرد والأفكار والجماعة؟
يربط بن نبي بين فاعلية الأفكار والدوافع الفردية داخل الجماعات والأمم، ذلك أن الأفكار الفاعلة، بما هي معاني مجدَّدة ومُحَدَّثة في النفوس، هي التي تعطي للأفراد شعورا بأهميتهم داخل المحيط الاجتماعي، ويضيف: “فالفرد يحقق ذاته بفضل إرادة وقدرة ليستا نابعتين منه، بل ولا تستطيعان ذلك، وإنما تنبعان من المجتمع الذي هو جزء منه” (الأفكار ص42)، وهذا يعني أن الفاعلية الفردية ليس مصدرها الفرد ولا تنبع منه، وإنما مصدرها خارجي هو الجماعة المحيطة، فنصل هنا إلى الحلقة التي إذا غابت انقطع الحبل بين الفرد والجماعة، إنها لا ريب مهمة السياسة ودور السياسي أن يقوم بوصل المنقطع بين الفرد والجماعة.
فالأفكار تتجلى على الصعيد السياسي في صورة تشريع مطبّق، أو قوانين تنفيذية، يصدرها ويسهر على تفعيلها رجل السياسة، حيث تقع “العلل الدافعة” بالنسبة للتشريع والتنفيذ موقعا جوهريا في نسق عملية التحول الكبرى، ذلك أن حقيقة الدوافع تكمن في كونها أفكارا تتضمن شحنة كثيفة جدا وعالية الشدة من المعاني التي لا تنفذ، أعني أن الأمر يتعلق بطاقة هائلة من الإرادة، كلما اقتحمها معنى مضاد لتثبيطها تدخل معنى مواز لمقاومته بوصفها حالة من التعاضد الآلي والحصانة الذاتية التي لا يمكن اختراقها حتى لو لم يكن لديها الوسائل الخارجية الكافية لذلك؛ لكن، قبل بلوغ مرحلة التشريع والتنفيذ، تواجهنا إشكاليتان:
الأولى تتعلق بمصدر الاستمداد، أو” كيفية تشكل الإرادة” التي تكفل الحصانة الفكرية للمجتمع الناهض، وقبل ذلك كيفية الاستمرار على خط مستقيم في مسار التحول دون نكوص، أما الثانية فتتعلق بالمشروع السياسي (تشريع وتنفيذ) ومصدره ضمن العلاقة بين رجل السياسة والجماعة التي يسوسها، أعني “مصدر الإرادة” في حد ذاته؛ فنكون أمام إشكالية الإرادة لنبحثها من وجهين: مصدرها وكيفية تشكلها، سأبدأ بعلاج المسألة الثانية ثم أعرّج على الأولى لكونها نتيجة عن الثانية.
بداية لابد هنا من أن نتعمق القصد البنّبوي من “الأفكار” بوصفها مصدر تشكل الإرادة، فنحلل كيفيات تنزلها على أرض الفاعلية التاريخية، سواء كان ذلك في مصدريتها أو في كيفية تجسدها الفعلي، ظاهريا لا تتجلى الأفكار إلا في الأثر النفسي الشامل على الجماعة الإنسانية، أثر ينشأ عنه اتفاق مضمر في الاتجاه، لذلك فهي لا تكشف عن نفسها إلا في شكل تشريعات وتنفيذات جزئية ومتقطعة، أعني وكأننا أمام مدد لا ينفذ من المعاني التي تمد بالإرادة، مددًا غير معلومة تفاصيل هويته، إلا أن المدرَك الوحيد عنه هو كونه مدد ثري وسخي.
فإذا سلّمنا بوجود مدد غامض في طريقة إمداده، كان لنا أن نسأل عن كيفية تشكله، بعبارة أخرى ما الذي يجعل المدد ممكنا ومتاحا في مرحلة ما ويجعله مستحيلا وناضبا في مرحلة أخرى؟ فإذا كانت الحلقة المفقودة هنا هي “الزمن الاجتماعي” بوصفه العنصر الأساسي المحدد لطبيعة المدد ووتيرته، فكيف يكون “الزمن الاجتماعي” هو المحدد لطبيعة كل مرحلة تاريخية؟
معلوم أن كل مجتمع إنساني في لحظته التي يعاصر نفسه فيها، ليست إلا نتاج العصور السابقة (وأوردنا قصدا هنا العبارة (العصور) التي مصدرها “عَصَرَ”، إذ يعني جذرها اللغوي ما يستخلص من الشيء أو زبدته)، وما دام الأمر متعلقا بمعان تشحن الإرادة الإنسانية، فإن أي عصر يكون عصارة اجتماع المعاني التي يتشرّبها جيل المرحلة من الجيل السابق و من مختلف الأوعية وبشتى الأشكال، ولعل اللحظة الراهنة هي لحظة الإيجاب التام بكل زخمه وشدته.
وبه، وقبل الانتهاء إلى الجواب المباشر على الإشكالين المتقدّمين، أعني مصدر تشكّل الإرادة الإنسانية وكيفية تنفيذها سياسيا، لابد أن نلاحظ هنا أن تنزّل المعاني على المراحل التاريخية بوصفها عصارة الزمن الاجتماعي، لا يكون على مقاس محدد أو معيار متفق عليه، بل غالبا ما يسود المراحل الانتقالية في التاريخ ضرب من اللامعيارية المتجلية على مستوى الوقائع، بينما المعيار هو دائما ممكن في حال التزم العقل جهد ملازمة الكليات التي ليست إلا مراقبة الزمن الاجتماعي ضمن خطه الأساسي المتعلق بالأفكار بوصفها المعاني المادّة بالإرادة، وذلك الذي أشار إليه بن نبي عندما أكد على ضرورة الانتباه إلى ما بين المرحلتين الثانية والثالثة من الحضارة، وما يصيب الإنسان بينهما من تحول من أقصى الحيوية العقلية إلى أدنى الحياة الغريزية، وعلينا الانتباه أيضا إلى التحول النفسي والروحي الذي يحصل بين مرحلتي ما بعد الحضارة وما قبلها، نعرّج الآن إلى الجواب المباشر على الإشكالين بادئين بالثاني وواصلين إلى الأول.
من أين يأتي رجل السياسة ببرامجه التشريعية والتنفيذية؟ قد يكون مفيدا التفكير في القدرات الفكرية التي يحوزها رجل السياسية، إلا أن طبيعة الموضوع تحيلنا إلى “المثل” التي يؤمن بها بوصفه “فردا أهليا” ينتمي للجماعة التي يسوسها، إذ الطبيعي أن تكون مُثُلَه مثلا أهلية خالصة، حتى تتساوق مع إطار “الزمن الاجتماعي”، أعني أن على رجل السياسة والنخب عامة الاجتهاد مرتين، اجتهاد المثُل المطلقة حيث الحقيقة ناصعة كما لم تتحقق من قبل، واجتهاد الوصل بين الزمن الاجتماعي والمثل المطلقة الوصل الأمثل، وهو الوصل الذي يكون فيه الزمن الاجتماعي هو المخبَر الذي فيه يحصل التشريع والتنفيذ.
ولعل عدم تمكن رجال السياسة والنخب من تمثل عوالم المثل مطلقةً، وارتهانهم إلى المثل متحققةً هو أكبر العوائق في التقويم وتصور السياسة في حد ذاتها، ذلك أن الجماعة الأهلية تملك مثلها لكن من دون تبصر بالسبيل ولا كيفيات تحقيقها، لذلك كان على رجل السياسة الذي يمتلك قرار التشريع والتنفيذ أن يخرج المكنون المثالي للجماعة إلى الوجود لتحقيقه فعليا، مستعينا برمزية أهل الفكر والأدب لتحقيق الصلة بين المثل والواقع؛ وبه، فما هو مصدر الإرادة في تنفيذ المشروعات السياسية؟
تقدّم بنا أن الفكرة الدينية هي الدافع الرئيس في استئناف الفعل الحضاري، وبوصفها كما يذكر بن نبي في موضع آخر “المفعّل” الأساسي للعناصر الحضارية: الإنسان والتراب والزمن، وإذا كان قد تقدّم تعريف الفكرة بأنها جملة المعاني التي تشحذ الإرادة، فهمنا أن الدين هو تحقق تاريخي نموذجي قام على فعل مؤسِّس، تكون العودة إليه من أجل تجديده النظري وإعادة بنائه العملي كفيلة بتحريك كامل القوى المعنوية والمادية الكامنة في الجماعة الأهلية، التي تستحيل إثر ذاك إلى أمة تتجاوز تكوينها العضوي (العرقي) والثقافي (اللغة) لتنصهر في تكوينها المثالي الأعلى وهو (الوحي)، وعدا ذلك لن تتعدى الفاعلية التكوينين الطبيعيين: العرق واللغة، اللذان سيشكلان عائقا أمام تكوين الوحدة المبدئية العامة للأمة المنتمية إلى فعل مؤسس أوحد هو الوحي، بينما سيتحول المكونان الطبيعيان إلى عنصرين وظيفيين في البناء العام للأمة.
والعودة إلى الفعل المؤسس بمعنيين، الأول وهو ما تقدم الكلام عنه من أنه الوحي الحي كأثر مباشر، وهي العودة التاريخية لمرحلة نزول الرسالة الإسلامية وصعود المجتمع الإسلامي الأول، وهي عودة عقلية مباشرة لاستكناه الخلاصة من علاقة الوحي بالواقع الفعلي، والمعنى الثاني للعودة هي عودة إلى الوحي كنص مخلّد، وهي العودة الآنية لنص الوحي لإلحام الجماعة الإسلامية بمُثُله التي وعد بها ولم تتحقق بعد، وهي استعادة تجريبية مباشرة لاستمهاء المعاني الحية المباشرة للوحي.
بهذا المعنى وفي هذا السياق تصبح “الأَمثَلة” متاحة إتاحة تامة وحرة وفاعلة الفاعلية القصوى، لكونها استندت إلى الشرطين المتقدمين: شرط المثالية المطلقة، وشرط الاستمداد الأهلي، فالأول هو ما يمنحه القرآن من شروط النظر غير المقيد إلى المستقبل، بما هو بناء لعوالم نموذجية متكاملة تزداد اتضاحا وصلاحية كلما اقترب الزمن، وبما يحمله القرآن نفسه من أخبار المستقبل الدنيوي، إن بالتصريح أو بالتلميح، والثاني هو النظر في الماضي الأهلي من حيث هو المعطى الأعمق دلالة والأكثر تعاليا والأنصع نقاء، ذلك الذي لا نجده يجتمع عند أي تحديد آخر.
لذلك كان استكمال المهمة التاريخية المتقدّمة كفيلة بتهيئة الضفاف أمام التيار التاريخي الجارف الذي سيجد طريقا سالكة لن تصمد أمامها أية إعاقة ممكنة، لأنه سيكون تيارا جارفا من الإرادة الجماعية التي يتحد فيها السياسي مع الجماهير، وهي في الواقع حركة موضوعية تنشأ بفعل عوامل الثقافة والتاريخ، تتراكم على جدر الوصاية إلى أن تصل في تراكمها حدا يقلب ميزان القوة، فتتبلور في شكل مشروعات وأفكار واضحة الأهداف والمعالم يتسابق الأفراد ركوب أمواجها.
غالبا ما يكون الفوران الجماعي للأمم متناسبا مع مرحلة الروح في الحضارة، وهي المرحلة التي تتسم حسب بن نبي بأشكال رائعة من التضحية والتقشف، التي يصيغها أبطال هم أول من يضحون ويتقشفون، فهم على المستوى الأخلاقي منصهرون تماما مع الجماهير، هموما واهتمامات، وعلى المستوى المادي هم أول من يبذل في لحظات الصعود التي تكون غالبا إمكاناتها الروحية أعلى بكثير من ممكناتها المادية، وذلك طبيعي مادامت الجماعة الفائرة قادمة لتوها من زمن ما قبل الحضارة حيث الخواء المادي والمعنوي بكل أشكاله.
والفوران الذي ينتج عن التوتر الأخلاقي عالي الشدة هو في النهاية حس أخلاقي سامٍ، يهيمن فيه على الفرد حس الشعور بالمسؤولية التاريخية أمام وضع سلبي، يماثله بن نبي بالحس الذي دفع بأبي بكر إلى إعلان حروب الردة على التي تأسست على إدراكه الحاد بأن السكوت عن الهرطقة (هرطقة منع الزكاة) في هذه اللحظة بالذات يعني عرقلة صريحة وخطيرة لعجلة “الزمن الاجتماعي” الحديث الولادة، لقد تركّز في وعي الصدّيق أنه لا مناص من أن تتواصل الروح الجديدة على المنوال ذاته لأطول مدة ممكنة، ومعنى ذلك أن قرار الحرب على مانعي الزكاة جاءت بناء على قراءة نفسية عميقة وخاضعة لإدارة اللعبة الاستراتيجية الإقليمية والدولية آنذاك، وليس على قراءة فقهية شرعية، وهو الوهم الذي جعل الكثيرين ينكرون حرب المرتدين لا لشيء إلا مخافة أن يتحول أبوبكر إلى مشرّع ثان، حيث من أدنى قراءة واقعية يمكننا فهم ذلك على أنه خيار ظرفي جدا اختاره أبوبكر مستعينا بحسه الطبيعي الذي يدعى اليوم بالاستراتيجيا.
لذلك كان التوتر الأخلاقي تعبير عن مرحلة الروح في تاريخ المجتمعات في الحضارة، وهي مرحلة البذل التي يغيب فيها منطق المصلحة والتنظيم والتخطيط، لكنها تكون متضمنة عفويا في داخل الشعور الجمعي العام والفردي الخاص بشكل متناغم.