قبل أن يكون بن نبي منظرا للنهوض بالعالم الإسلامي فإنه كان قبل ذلك صاحب نظرية “الأفكار والصراع الفكري” بوصفها السديم الذي يضم العناصر المؤسسة للوقائع الاجتماعية، وهي بمثابة الفلك الخلفي الذي فيه تتحدد كل مجريات الأحداث في الكون المادي، ذلك أن علاج العالم الفكري هو كلام في أصل أصول مشكلة التخلف في العالم الإسلامي، لكننا في الواقع نكتشف أن تحليلات بن نبي تتبوأ خاصة في اللحظة الراهنة بعدا كونيا لما حملته من تحليلات تصبّ فيما يذهب إليه فلاسفة الغرب المحدثين سواء في تصور مشكلة الإنسانية الراهنية التي تجاوزت البعدين الطبقي والثقافي لتكون مشكلة إنسان أو بالإشارة إلى ما يمكن أن تقدّمه الثقافة الإسلامية من حلول لما تحمله في أصولها المؤسسة من إرث معنوي مميز، لكن ليس قبل أن يرتفع المسلم إلى المستوى الكوني للأحداث، فكيف صاغ بن نبي خطته في تفكيك مشكلة الأفكار؟(1)
يرى بن نبي أنه أمام الوحدة الوجودية التي تنتاب الإنسان أثناء عُزلته، تظهر الحاجة إلى تأنيس الذات تأنيسا يتجاوز الحس الظاهري المباشر إلى إحساس متسام، ومعنى الوحدة الوجودية أن الإنسان ومن رغم كونه يعيش بالضرورة وسط جماعة تؤنسه، إلا أنه دائما ما يحتفظ في لحظات خَلوته بوحشة روحية هي بلغة بن نبي الشعور بـ”الفراغ الكوني”، فهي خلوة يواجه فيها الإنسان أسئلة الحقيقة وما وراء الحس الظاهري المباشر.
فيقرر بن نبي أن الإنسان يتخذ أحد مسارين لتجاوز ذلك الفراغ، فهو إما يبحث عما يحقق إشباعه الروحي بـ”الأشياء المادية” بالسعي لامتلاكها وتسخيرها، وإما أن يجد في الأفكار ما يتجاوز به وحدته الروحية من خلال التساؤل عن مغازي ذلك الشعور الموحش في ظلام السديم الكوني الدامس، ويكشف أن المسارين إنما يعبران عن نموذجين للثقافة، الأولى ذات جذور تقنية هي بالتحديد الثقافة الأوروبية القائمة على التخطيط العلمي في سبيل الاستغلال الفاعل للمعطى المادي، والثانية ذات جذور غيبية هي بالتحديد الثقافة الإسلامية القائمة على تبجيل الاعتبار الإنساني للروابط الاجتماعية.
ففي النموذج الثاني يحضر الدين باعتباره (توجّها نحو السماء) يظهر ما سمّاه بن نبي بـ”الرسول”، والرسول هنا بدلالته العامة التي تعني الرسالة التي يحملها الإنسان لتبليغها للآخرين، أو ما سُمّيَ في موضع آخر بالنبوة الاستخلافية العامة (أنظر: شروط نهضة العرب والمسلمين، أبويعرب المرزوقي)، فالرسالة هنا ليست أمرا مقصورا على النبي الفعلي وإنما هي شأن عام متاح لكل من تقدّم إليه، فيمكن أن نختصر تلك الوظيفة الرسالية في ثلاث أسس عامة أشار إليها بن نبي هي:
أولا: الجذور الأخلاقية الغيبية ويقصد بها استعادة البعد الرمزي الذي تشير إليه آية الميثاق القرآنية، ثانيا: مدّ البصر نحو السماء مشيرا إلى معنى السمو الروحي وتجاوز الإخلاد إلى الأرض، ثالثا: الرسالية بما هي شهادة على العالَمِين وتحقيقا لمعنى الأمّة الوسط.
والملفت في كل ذلك أن بن نبي يعتبر النموذجين خاصتان ملازمتان لإنسانهما الغربي والمسلم، وذلك ما يتبيّن في إشارته إلى أن أوروبا وإن لم تبخل على الإنسان برجال عظماء (رُسُل) إلا أن إنسانها بطبيعته شخص مملوء بآدميته لا مجال فيها للألوهية، وعلى العكس من ذلك فإن الألوهية في الرجل السامي لم تدع فيه إلا قليلا من المشاغل الأرضية.
إلا أن بن نبي يستدرك بأن إخصابا متبادلا حدث بين الثقافتين في المراحل الوسيطة، وأن هذا الإخصاب يحصل بفضل التعدد الذي يسم الحضارات في مراحلها المتأخرة والذي قد يصل حد الفوضى والغموض، وهنا نفتح قوسا للإشارة إلى نظرية قيام الحضارة عند ابن خلدون الذي يقرر بأن الأمر يقوم على وحدة عصبية وأن انحلالها يحدث بتفكك تلك الوحدة تفككا آليا وطبيعيا بفعل تطاول الزمن، فكيف يمكن أن يكون قد حصل الإخصاب؟
فيرى بن نبي أن الأفكار في الثقافة الغربية توظّف لتكون في خدمة الأشياء المادية، بينما في الثقافة الإسلامية يحصل العكس إذ تكون الأشياء مسخرة كلها في سبيل الأفكار أو بالأحرى “فكرة واحدة”، وإذا أردنا الإيضاح مثلنا للأفكار بمفهوم التوحيد الذي يسخر الإنسان له جهده ونفسه وممتلكاته ويجعلها كلها في خدمة التوحيد، ومثلنا للأشياء بالأيقونات التي تجسد الأفكار وتكون الأفكار موجهة إليها باعتبارها الغاية، ذلك أن الأيقونات تعبير عن فنّ جمالي يقدّم لإمتاع ناظري الإنسان إمتاعا عينيا ويكون الغاية التي حولها تحوم حياة الإنسان الغربي “المُتعة العينية”، بينما نجد أن الشعر مثلا يمثل عند الإنسان المسلم وسيلة لبلوغ درجة “المُتعة الروحية” من خلال بيان وإيضاح الفكرة الدينية الرئيسة المتمثلة في التوحيد وما حام حولها من أفكار تتفرع عنها، وهنا لابد من التمييز بين معنيين لاصطلاح “الروح”، فالمعنى الأول للروح هو ما يفارق المادة وهو ما ينطبق على الثقافة الإسلامية، والمعنى الثاني هو الخاصة الأساسية المتحكمة في الثقافة وهو ما ينطبق على الثقافتين.
من حيث المبدأ نجد أن طبيعة الثقافة الإسلامية تنحو باتجاه اللاتعيُّن، فهي ترفض فكرة تجسد الإله فضلا عن أن “مطلب العينية” في الإتيان بالشريعة في الإسلام يقف في حدود جد سطحية، أعني أن الأولوية غالبا ما تعطى لتحقيق المقصد دون “الجمود” على الشكل المباشر للشريعة، وذلك ما نجده مثلا في إنكار القرآن في سورة البقرة على قوم موسى الذين بالغوا في طلب التحديد العيني للبقرة التي أمروا بذبحها، وهو ما يتجلى أيضا في الصفة الكلية التي ينعت بها القرآن الشريعة بأنها شريعة رفع الإصر والأغلال، حيث أن فقدان الوسائل المادية لا يكون عائقا بتاتا أمام الإحقاق الفعلي للفكرة، ومن فلا تكون الأشياء إلا تجليا عَرَضيًا للنظام الروحي في الإسلام، بينما تمثل الأشياء في الثقافة الغربية جوهرا فيها، أعني أن تحقق فكرة الحضارة الغربية لا يكون ممكنا دون الأشياء، ذلك أن الشيء لازم الحضارة الغربية وكان أمرا حتميا فيها، بينما لم يكن الأمر كذلك في الإسلام كما تقدّم.
وإذا استصحبنا فكرة “الإخصاب المتبادل” الذي يحصل بين الحضارات في أحد أطوار تقدّهما، اكتشفنا أن الحضارة الغربية استلهمت فكرة مركزية الروح في الحضارة بدلا من الأشياء، وصارت تبحث عن خلاصها الروحي الحقيقي ميتافيزيقيا، وهو السعي الذي جسده عدد من المفكرين الغربيين في الحقبة المتأخرة، وذلك بنداءاتهم الواضحة في تجاوز التجريبية المادية منتهين إلى فكرة “الردّ” التي تعني في جوهرها اختزال كل تجسدات الأفكار إلى ماهيات جوهرية (فكرة الاختزال هوسرل) أو دحضها بشكل مستمر ومستميت (فكرة التكذيب عند بوبار)، هذا الذي جعل من العلم المعاصر اليوم قاب قوسين أو أدنى من مقاربة الفكرة الإسلامية في كلياتها العامة.
وقد مثّل بن نبي للإخصاب بتناول نيشته لزرادشت الذي نزل من الجبل لحمل الرسالة معتبرا إياها لحظة التعالي بالفكر وأنها توازي لحظة الجزع الكبرى عند حي بن يقظان التي دفعه الحرمان المتمثل في موت الظبية لإدراك النظام الإلهي، إن عائق انبثاق لحظة التعالي عند الإنسان الغربي المعاصر يكمن في أن “الزمن الصناعي المتواصل” لا يدع أي مجال لحظة انعزال للإنسان لمواجهة نفسه، وهي اللحظة التي تكفل ظهور لحظة التعالي على اللحظة وإكراهاتها المادية والثقافية.
وهنا أيضا نلتقي مع تحليلات هيدغر بخصوص التقنية التي صارت تغمر الإنسان وترغمه على الانصياع للنسق الإنتاجي الذي لم يترك أي مجال للاكتشاف والإبداع الحقيقيين، وأن كل منتج صار على المقاس وتغيب فيه كل روح إبداعية، ذلك الذي يجعل من المشكلة قضية إنسانية عابرة لكل تقسيم طبقي أو حضاري، هكذا فإن تقدير الزمن يتفاوت بين الإفراط والتفريط، ذلك أن الأول جعل من الفكر الغربي يجنح إلى المراوحة حول مفهوم الكم والثاني يدفع الفكر الإسلامي إلى التصوف المُغالي الذي يفرز الغموض والتقليد والافتتان بالغرب.
وإن التدقيق في مضامين الثقافة الإسلامية المؤسِّسة يشير إلى انحرافها عن “مدارها الأصلي”، ذلك أن الأحكام القرآنية تتضمن في جزء منها كل ما قد يرد في قانون مدني متقدم، إلا أنه لا يتوقف عند ذلك بل يشرّع لأكثر من ذلك، فهو يزيد على تشريعه الدقيق لمسألة الميراث البعد المعنوي كتوصية ضرورية تعبر عن تكامل لا نجده في أي تشريع آخر، فهو بعد أمره بتخصيص جزء من الميراث لمن حضر القسمة يضيف: (وقولوا لهم قولا معروفا)، هذه الإضافة اعتبرها بن نبي المصدر الذي يمنح الفكر الإسلامي طابعه الخاص المتمثل في إذكاء “الرابط الاجتماعي” الذي يقضي على كل التناقضات التي يمكن أن توجد في الوسط الاجتماعي.
والخلاصة هي أن الثقافة الإسلامية حملت خصوصية النظر إلى السماء في البحث عن معنى الوجود وتلقي الرسالة المنوطة به من جهة، وكذا ما يميز التشريع الإسلامي من إضافة الصبغة الروحية الخالصة التي لا يمكن أن توجد في أي تشريع مدني، والأهم من ذلك كله بيانه أن الثقافة الغربية اليوم تحمل بذور التصور الإسلامي الذي انتقل إليها إثناء حقبة الإخصاب، وهذا يعني أن استئناف المسار الأصلي للبشرية يقتضي التّماس المباشر بالثقافة الغربية كونها الوريث الشرعي أولا، والثاني هو أن أي عودة إلى غير المنتج الغربي تعدّ نكوصا يبقينا في مرحلة المقابلات الفجة بين الأنا والآخر، بينما الإشكالية الراهنة إشكالية إنسانية تئن تحت وطأة فقدانها لجوهرها.
(1) المقال هو قراءة في الفصل الأول من كتاب: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي. مالك بن نبي. ألفه سنة 1970، الفصل بعنوان: الإجابتان عن الفراغ الكوني.
التعقيبات:
التعقيب الأول: تمثل جوهر التلاقح بين الحضارتين الغربية والإسلامية في العصر الحديث في مساهمات الفكر الألماني الذي أقحم عنصر (الإشراق الذاتي) في الاشتغال الفكري. ويمكن التمييز بين منحيين في هذا التأثر الغربي بالحضارة الإسلامية هما الوجه السياسي والوجه الفكري. فمن حيث الجانب السياسي فقد تحققت الغلبة للفلسفة اللاقارية النقيضة للفلسفة القارية التي يقع الفكر الألماني في لبها. خاصة مع المنحى النازي القومي والعرقي الذي انتهى إليه العالم الجرماني مع ما تضمنه من كشوف على غرار المنزلة التي وضع فيها اليهود والوعي بدورهم الخطير في الحضارة الغربية… إلا أنه لابد من الإيضاح أن الفكر النازي كان تحريفا صريحا للمثالية الألمانية ذات الإمداد الإشراقي الإسلامي. على أن جوهر الفلسفة اللاقارية تضمّنت في ثناياها الفكرالألماني خاصة في نهاياتها البرغماتية. أما من الجانب الفكري فلا يزال الفكر الألماني يتقدّم نحو تحقيق الشهود بمعناه الإسلامي ضمن سعيه الحثيث في البحث عن الحقيقة. وإذا جمعنا النهايتين الفلسفية للفكرين الألماني (الظواهري) والأمريكي (البراغماتي) وجدناهما مسكونين بالأصول الإسلامية. ونتيجة ذلك أن مسارات الفكر الغربي الحالية تتقدّم باتجاه جوهر المضامين الأصلية للثقافة الإسلامية…
التعقيب الثاني: لا اختلاف في حقيقة الأصول الدينية للفكر الغربي، إلا أنه ومع هذه الأصول، لدينا معطيات أهمها: أن الفطرة هي أصل ينسحب على جميع الناس، وثانيا لدينا المعرفة بماهي بحث مطلق عن الحقيقة كما هي أو كما يسمى في الأدبيات الفكرية محاولة “تجاوز الذات”، فالكثير من الفلاسفة في بحثهم عن الحقيقة يسعون لتجاوز كل تراثاتهم الخاصة الدينية والثقافية والسياسية وبعضهم ينجحون في تحقيق هذا التجاوز للذات وهؤلاء هم المقصودون، ممن يلامسون فطرتهم فيتكلمون كلاما قريبا من الإسلام، وفي بعض الأحيان يبزون المسلمين في فهمهم للإسلام، فليس الأمر قائما على إطلاق وتعميم، أما المعيار فهو أنه ما دام المفكر باحثا فعلا عن الحقيقة فإنه سيكتشف بعد بحث وجهد فطرته بعد فك الحجب عنها، أوليس الإسلام هو دين الفطرة؟ والمحصلة هو أنه كلما ارتقى المفكر -الإنسان مهما كانت ثقافته ودينه- في مكاشفة الحقائق الموضوعية لهذا العالم اقترب من الحقائق “الوجودية الثابتة”، وهل القرآن إلا حقائق جاءت في وحي خاتم وفي نص مختوم، وهنا تأتي مهمة المسلم وهي يعيد اكتشاف القرآن وفقا لتلك النتائج التي تم التوصل إليها وذلك وفق معيار استدلال عقلي متين وجاد، وهذا هو اللقاء الذي سيحرر ليس المسلمين فقط وإنما البشرية كلها التي صارت تبحث عن ذاتها المفقودة.
التعقيب الثالث: المفكر الغربي لا يهمه أن يبحث في الإسلام ولا أن يشهر إسلامه، ومن ثم فإن ملامسته لحقائق الإسلام هي ملامسة غير مباشرة، لأنه من حيث المبدأ ملتزم بالمنهج العقلي، لذلك فمهما أحسن المفكر الغربي في التعبير عن مضامين الإسلام فلا يعني ذلك أنه قد اطّلع عليها، لأن المقصود بفهم الغربيين للإسلام هو توصلهم إلى الحقائق التي تحكم الوجود والتعبير عنها بطريقتهم العلمية والفلسفية، والتي يعبر النص الديني عنها بطريقة مغايرة، ولا يهمني هنا لا المؤسسة الدينية ولا التدين الشعبي بقدر ما يعنيني إعادة الصياغة المعرفية لإحداث الوصل بين الجبهتين الدينية والمعرفية، حتى لا نبقى دائما رهيني الازدواجية والرضا بالوظيفة التكنوقراطية التي لا تعير اهتماما للوظيفة الأيديولوجية بالمعنى الإيجابي، مع الحرص على ألا يحصل ذلك بطريقة سطحية أو عنيفة رمزيا بإقحام الديني في المعرفي عنوة، فما يعنينا كمختصين هو إتقان التخصص بالقدر المستطاع وأن رأب الهوة تحصل بطريقة آلية وسلسة دون إقحام للنص الديني عنوة في المجال المعرفي لأني على يقين أنه يمكنني الوصول إلى مرحلة أعبر فيها عن الديني معرفيا دون الحاجة إلى الاستخدام المباشر للبضاعة الدينية شريعة أو فقها أو نصا، وهذا الرأب هو الذي سيكفل الاستقلال المعرفي من جهة والمشاركة الفاعلة مع “الجماعة العلمية” على المستوى الكوني في الكدح المعرفي حتى لا نبقى عالة على الغرب إلى الأبد… وفي ظني أن هذا السعي يجب أن يسبق كل محاولة للإصلاح العملي على المستوى المؤسسي أو الشعبي. فقصورنا إذن هو قصور نظري علينا تجاوزه أولا ومن ثم ننبري وانطلاقا من الإطار المعرفي للتفكير في سبل الإصلاح على المستوى الفعلي.
التعقيب الرابع: على المستوى السوسيولوجي والانتروبولوجي في دراسة الإسلام، هي أيضا محكومة بإطار ابستمولوجي-أيديولوجي، ذلك أن الدراسة التاريخية-الاجتماعية للإسلام أسسها وافتتحها ماكس فيبر (والتي تجاوزت الدراسات الاستشراقية الكلاسيكية لاشتمالها على البعد العلمي والمنهجي كما يفترض أن يكون الأمر عند فيبر) وإن لم يخصص له مؤلفا خاصا، وأن النمط الذي أسسه فيبر عن الإسلام من الناحيتين السوسيولوجية والأنتروبولوجية انتقل إلى أمريكا وصار يدرس اليوم ضمن اختصاص “أنتروبولوجيا الإسلام”، وتَنسُج تلك الدراسات الأمريكية على منواله (من حيث المبدأ ومع إبداع منهجي على غرار كليفورد غيرتس الذي أسس للانتروبولوجيا التأويلية…)، فيبر نمّط الإسلام تاريخيا واجتماعيا على أنه “دين محاربين” لا مجال فيه للجوانب الإنسانية والمعرفية، أو على الأقل غلّب الجانب الأول على الثاني، وهنا المهمة مضاعفة وهي تفكيك الإرث الفيبري حول الإسلام لاستكشاف خلفياته الابستمولوجية فهو بالضرورة قائم عليها ومستمد إياها من الفلسفة الهيغلية والكانطية، والنظر في المنتوج الانتربولوجي الأمريكي عن الإسلام، وما أعلمه أنه وللأسف لدينا جهود انتروبولوجية في العالم العربي تتبنى اجتهادات من قبيل غيرتس وتيرنر دونما حس نقدي بما يجعل منا مستشرقين على أنفسنا! دون إغفال جوانب الإنصاف التي لابد حاصلة فيه كتراث، لكن المرور مباشرة إلى التطبيق الآلي لتلك المناظير يبقينا على عهد الاستهلاك، ولن يغير البوصلة حيث يجب أن تتحول الدراسات السوسيولوجية والانتربولوجية إلى أداة بناءة للمجتمعات الشرقية والمسلمة خاصة، وأن ذلك يقتضي أول ما يقتضي القراءة الابستمولوجية الكفؤة والمتحررة من كل ارتهان وتبعية وهذا ما يتطلب جهود وتراكمات…
التعقيب الخامس: الكلام عن تأثر الحضارة الغربية بنظيرتها الاسلامية أمر لا غبار عليه، لكن لا بد أن نأخذ هذا الكلام بكل أبعاده، فالتأثر يعني أن أمرا جوهريا قد “تسرب” من الإسلام إلى الإنسان الغربي، وأن هذا الشيء الجوهري هو الذي قامت عليه الحضارة الغربية وسارت به بل وهيمنة به على العالم تحت إطار الحضارة الكونية وهو ملك أصيل للمسملين، ويدل على ذلك أن الحضارة الغربية كانت شاهدة في أحد مراحل تطورها على الكون، والشهادة هنا من الشهود بما هو إدراك الحقيقة الدينية الفطرية التي يمكن أن نصل إليها بالعقل، والشهادة بمعنى الإشراف على العالم وأخذ زمام المبادرة وهذا يعني تحقيق الإنسان الغربي للتسخير الذي هو أصل من أصول الثقافة الإسلامية.
لذلك فتصور أن الأمر قائم على مجرد غربلة! أو خاصة الفهم الذي يبدو اجتزائيا جدا القائل بأنه علينا أن نأخذ تكنولوجيا الغرب ونترك قيمه! فهذا مما لا يقبله أي إنسان مطلع حق الإطلاع ومدرك لجوهر الحضارة الغربية، وملم في الوقت ذاته بمبادئ الدين.
حتى لا تتحلل ثقافتنا لابد من اختيار الأفكار الأصيلة في الثقافة الغربية، لكني أعتقد أن تفاصيل ذلك هي ما يمكن أن نختلف عليه، وألا شيء يمكن أن يجعلنا نتفق إلا أن نتحرر من الارتهان إلى (تصوراتنا) الجاهزة وأن نسعي لإطلاق (قدراتنا) بالجهد المطلوب. لذلك فإني لن أطالب من يناقشني بأكثر مما بلغ إليه تصوره، لكن فقط أطلب منه جهدا أكبر في التعمق في الثقافتين الإسلامية والغربية بالقراءة والمتابعة لأن هذا هو الكفيل بإطلاق الطاقات التي هي الأمل الوحيد في النهوض، لا الركون إلا تصوراتنا الجاهزة التي ربما توقفنا عليها ولم نضف إليها منذ نعومة أظفارنا…
وإن تكن مسالك النهضة متعددة فإن لها جماعا فكريا واحدا هو الذي يجب أن نحرره أولا وقبل كل شيء، والبقية كلها تفاصيل، لذلك فأخشى أن الكلام عن تعدد الآراء سينتهي بنا إلى معارك واختلاف خال من المعنى، لا يمكن أن نتحدث عن التعدد إلا بعد أن نحقق إشباعا في تحرير القدرات على الفهم تكون لنا أرضية ننطلق منها للمكاشفات كل على شاكلته، أما أن ننطلق منذ البداية مختلفين فهذا عين الذي نعاه القرآن بأنه التفرق الذي يجعل القلوب شتى…