إن ما يوحد بين موضوعات: النظر والوجود/ والعمل والقيم هو “الوجود المطلق”، وهذا الوجود لا دليل خالص عليه، إلا الإيمان الذي يسلّم به تسليما شعوريا، أما الحجّة العقلية عليه فليست إلا إضافية أو عَرَضية، لأن الإيمان بالوجود المطلق لا يمكن أن يتحقق بالحجة العقلية الخالصة.
والشعور بالمطلق والإيمان به (1) هو في التعبير العقلي/الفلسفي “موقفٌ وجودي”، ومضمون هذا الإيمان هو تحديده لنَسَبِ القيام بين الكائنات، بما هي الكثافة الوجودية التي تملأ المسافة بين كائن وآخر؛ والكلمة المفتاح هنا هي النَّسَب، أي إحالة كل وجود من الوجودات/ وكل موجود من الموجودات إلى أصله المطلق/المتعالي عن التجسد في الوجود إلا في شكل إيجاده للوجودات والموجودات.
ولما كان إدراك هذا الوجود يخضع لمستويات الشهود عند كل إنسان، فإن التعبير الديني/الصوفي عنه هو درجة/أو مستوى الشعور بالمطلق بوصفة جوهر قيام الموجودات، الذي في آياته (تجلياته) يلتقي كل من: الإمكان/والوجود، والوجوب/والامتناع، بوصفها حقائق وجودية/إيمانية وليست حقائق فعليه حاصلة في الواقع.
إن نهاية التجربتين الفلسفية/العلمية والدينية/الصوفية تتشكل في أحد ثلاث موضوعات، أو بمعنى آخر إن العالم في مخبره والصوفي في محرابه لا يسعه في حال بلوغ تجربتهما النهاية السوية للعلم أو للدين إلا نتائج شعورية، فهي إما عاطفة دينية أو ذوق جمالي أو تجربة صوفية، ومستويات التعبير عنها تكون شعرا بلاغيا، أو تذوقا لمستويات جمالية، أو ملامسة لحقائق دينية.
إن ما يصدر عن تلك التجارب من تعبيرات هو الذي يحدد علاقات القوة والصراع بين البشر أفرادا وجماعات، بمعنى أن اختلاف مستويات إدراك المطلق وكيفياته، هي المرجع الرئيس للتقاطب بين الناس على الأرض بداية من العلاقات الذرية الصغرى بين الأفراد، أو العلاقات الكونية الكبرى بين الحضارات.
وهو على ذلك، أي الوجود المطلق، ليس لنا به أدنى علم، وكل ما نزعمه حوله لا يتجاوز الشعور الإيماني والعاطفي إلى التحديد الحسي، فالمطلق إذا تجسد للحس انتفت مطلقيته، والشعور إذا لم يكن حقيقة انتفى الوجود نفسه، فالشعور حالة عصية على التحديد الواضح كما هي عصية على النفي اليقيني.
أما ما ندركه من حدوسنا الشعورية فليس إلا نتيجة قياسات ذاتية قد تختلط بينما هو إسقاط لما ندركه مما سمونا به إلى المطلق، أو مما نعلمه من ذاتنا كإسقاط ذاتي محدود مما لا ينتهي من تصورات عن الوجود المطلق.
فنحن لا نعلم من الوجود المطلق إلا بقياس ذاتي لإدراكنا، حتى لا يتقول متقول بإدراكات لدنية خاصة، ولا يحتكم أي كذاب إلى ما دون المطلق، بعدما تحددت شروطه السالبة والموجبة من صاحب النص.
(*) د. محمد عبد النور، شرحا لما ورد في الصفحة 77 من كتاب شروط نهضة العرب والمسلمين لأبي يعرب المرزوقي، دار الفكر دمشق 2001.
(1) تكرر ورود المطلق في النص ينبغي شرحه: فالمطلق في ذاته هو ما لا يحده أي تقييد -إمكانا ووجوبا وامتناعا-، أما بالنسبة للذي يشهد المطلق، فمعنى المطلق بالنسبة إليه هو الحد الذي لا دليل عقلي عليه، وهو الوصول إلى حالة الشهود -ومفارقة الجحود- بوصفه جملة الإدراكات السامية للمطلق عن طريق الشهود عبر أحد تجربتين فلسفية/علمية أو دينية/صوفية.