في أزمة العلاقة بين الدين والمعرفة في الفكر الإسلامي (1)
يجد الباحث نفسه في العالم الإسلامي مضطرا لأن يتخذ لنفسه موقع المتابع لجديد المعرفة الصادر من مجال ثقافي ليس مجاله، هو المجال الغربي الذي امتلك زمام الوقوف على ذروة المعرفة، بحيث ينصب همّ الباحث المسلم على أن لا يفلت منه خيط ذروة المعارف الحاصلة خارج نطاق حيزه الثقافي، مكانيا ولغويا، وبحيث يؤدي جهدا مضاعفا في التنقيب والمتابعة لمادة نظرية تتحدث بمنطق ثقافتها، بحيث عليه أن ينقلها إلى منطق ثقافته، فضلا عن اللغة التي تصدر بها تلك المعارف فهو يضطر لتعلّم لغة ثقافة أخرى أو انتظار جهود مترجمين آخرين أحسنوا النقل أم لم يحسنوا.
كما أنه يجد نفسه مضطرا إلى يتخذ لنفسه موقع الباحث عن أصول العقائد والتديّن مبتعدا عن مرحلته التي يعيش بها، فيبحث عنها إما في النصوص التأسيسية (القرآن والسنة) أم في المرحلة التأسيسية (السيرة النبوية)، همّه أن يكتشف منطق الدين قبل أن يتدخل فيه الفهم التاريخي للبشر، كما يحاول أن يكتشفه من حيث الممارسة الفعلية في مرحلة حياة النبي نفسه، بوصفهما الخيطان الرفيعان اللذان يصلان الباحث المسلم مع الجذر التأسيسي للدين.
بهذا نستطيع القول بأن الباحث يعيش اغترابا مزدوجا مأتاه الظروف التاريخية والموضوعية، حيث العزاء في كل ذلك أن يكون ضميره الباحث ضمن الإطار الذي تقدّم شاهدا حيا على الحياة المعاصرة للمجتمع التي يعيش فيها الباحث، الذي لا محالة سيغدو مجددا إذا ما حقق الهدفين:
- هدف تحقيق الصلة بذروة المعارف المستجدة.
- هدف تحقيق الارتباط بالمنطق المؤسس للإيمان الديني.
فهي مهمة في اتجاهين إعادة صلة الوصل بالماضي المؤسس، وإعادة صلة الوصل بالواقع الراهن، ومعلوم أن الواقع الراهن مبني على معطيات المعرفة الإنسانية وبالتالي فإن الشرط الفكري للتقدّم هو تحقيق استيعاب كاف لها، كما أن صلة الوصل بالماضي مبني على اختزال كل ظواهر ومظاهر المرحلة المؤسسة للوقوف على مبناها الروحي تماما كما أن ملاحقة المعارف المعاصرة محاولة للوقوف على المبنى الروحي للبشرية راهنا، وتلك هي المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتق الباحث والمفكر الساعي للتجديد.
- تأصيل المعرفة والتدين في التاريخ البشري:
إن ما تقدّم يحتاج إلى استدلال تأسيسي يقضي بضرورة العودة إلى البدايات ونشوء المعرفة والدين في التاريخ البشري، لذلك كان السؤال الموضوعي هنا هو من شقين:
- لما العناية بمتابعة المعرفة خاصة وأن الغرب متقدم علينا من النواحي التنظيمية واللوجيستية والاستراتيجية؟ فما وجه الموضوعية في استيعاب المعارف المعاصرة؟
- لما العناية باستعادة الدين خاصة وأن المجتمعات المتقدّمة لم تقم على الدين؟ فما هو وجه الموضوعية في البحث عن استعادة الدين؟
الجواب الإيجابي على السؤالين يقتضي إثبات أن كل من (المعرفة المعاصرة) و(الدين الأصلي) شرطان ضروريان لتحقيق مصلحة الأمة والإنسانية عامة، أي لا تتناقض مصلحة الأمة مع مصالح بقية البشر، ومقضى الإثبات يوجب العودة إلى بدايات كل من المعرفة والدين في التاريخ البشري وكيف أصبحا معا حتمية سببية لا يمكن الانفكاك عنها في حال ابتغينا استئنافا ونهضة.
أولا: ارتبطت إنسانية الإنسان بالمعرفة القائمة على النقل والمراكمة، فالمعرفة عند البشر لا تضيع بين جيل وآخر، وأن تراكمها مضمون جدّا كلما تقدّم التاريخ، ودليل ذلك التطور المستمر لحياة الإنسان من رغم تداول البشريات عليه، وكل مرة تقف بشرية محددة على التراث الإنساني فتتحمل مسؤوليتها عن بقية البشر (فتصبح الأخ الأكبر) وتتصرف حسب رؤيتها المرجعية في الكون وفي بقية البشر كيفما شاءت.
والمعلوم أن التطور عرف نقلات نوعية خلال التاريخ المديد للبشر، وهنا نفتح القوس لنسأل عن أي تطور نتحدث التطور المادي أم التطور المعرفي، والجواب هو أن التطور المادي ينسب ويقاس بالتطور المعرفي، حيث يتعذر التطور المادي دون التطور المعرفي، وحيث المعرفة من هذا المنظور تصبح معرفة نفعية صرفة، فكيف ذلك؟
أولا: الانتقال من الإنسان المنتصب القامة إلى الإنسان العارف تمثل في بدء الثاني استخدام الوسائل الحجرية لتحقيق حاجياته.
ثانيا: الانتقال من الإنسان اللاقط إلى الإنسان المزارع تمثل في تحقيق الثاني لترويض الزراعة والحيوان وبالتالي الاستقرار.
ثالثا: الانتقال من الإنسان المزارع إلى الإنسان المدني تمثل في تأسيس الاسرة وانتهاء إلى تحقيق التنظيم سياسيا.
وضمن هذه الانتقال وضمن المرحلة الثانية شهد البشر الحاجة إلى إيجاد تفسير لما يتجاوز قدراتهم العقلية والعضلية، فجاءت الأديان البدائية كاستدراك لذلك مثل تفسير الموت و تفسير الكوارث الطبيعية التي لا قدرة للبشر على مواجهتها.
فاضطر الإنسان إلى اختراع الطقوس والشعائر بغض النظر عن طبيعتها، فكانت نقلة نوعية أخرى داخل التطور المعرفي للبشر، وكأن المعرفة انشطرت إلى شقين، رغم أن الدين نفسه انبثق لأول مرة لداعي الحاجة الروحية والنفسية، لتحقيق مزيد من الاستقرار، أي أن ظهور الدين اشترط أولا انتقال الإنسان إلى المرحلة الزراعية، حيث الاستقرار المادي ثم الحاجة تبعا لذلك إلى الاستقرار الروحي.
وهنا لابد من التأكيد إذن على أن الدين جاء أيضا لتحقيق الحاجة البشرية تماما كما كانت المعرفة، فالمعرفة تكييف مادي للإنسان مع الطبيعة والدين تكييف رمزي للإنسان مع الحياة، فللمعرفة والدين دور وظيفي صريح وواضح وهو تحقيق مصلحة الإنسان، والنتيجة الحاصة عن ذلك هو أن لكل من المعرفة والدين دور مختلف وهذا يعني أن من غير الموضوعي إزاحة أحدهما من أجل الآخر.
وهذا من أهم ما يمكن أن نصل إليه في إثبات موضوعية التدين والتعلّم (الدين والعلم كعمليات كَسْبية)، والاستدلال على ضرورتهما القصوى للحياة الإنسانية، وعلى ذلك فقد توصّل علماء اليوم إلى حقيقة أن التديّن والمعرفة أمران مركوزان في البنية الوراثية للإنسان، فأطفال البشر مجبولون على اكتساب اللغة كأداة الأولى للمعرفة، كما أنهم مجبولون أيضا على البحث عن إله إلية يتم الاستناد عند العجز عن تقديم التفسيرات، فتوجد إذن جينات مسؤولة عنهما تشكلت عبر الزمن الطويل في تاريخ البشر؛ والسؤال كيف تشكّلت؟
تشكلت حسب بعض العلماء والباحثين من خلال تفاعل مستمر وشديد الوتيرة بين الطبيعة والإنسان حتى انبثقت عضويا في الإنسان شرائح مخية مسؤولة أصبحت تنتقل وراثيا بين بني البشر، وأن البشر تميزوا عن بقية الكائنات بقدرتهم على تحقيق التكيف مع إكراهات الطبيعة، ومن ذلك ينتج أيضا أن تفوق بعض البشريات على الأخرى مردّه إلى استطاعت البشر المتفوقين على تحقيق التلاؤم مع الظروف المحيطة بهم، أو قل البيئة بأوسع تعريفاتها: الطبيعية (التضاريس المناخ الموارد البيئية) والتاريخية (الثقافية والسياسية والاجتماعية).
- طبيعة المعرفة والدين راهنا:
إذن بعد أن أثبتنا الارتباط الوجودي للمعرفة والدين بالإنسان نعرج إلى بحث طبيعتهما المعاصرة، حيث المعرفة المعاصرة معرفة غربية، والإسلام آخر ديانة سماوية، لاستكشاف طبيعتهما، ومواصلة لاستعراض تطور المعرفة البشرية نقف عند ظهور الحضارات البشرية التي تزامنت مع ظهور الدولة، حيث ينتج عن ذلك أمران: تعقّد الحياة البشرية، وتعقّد معارفه.
فالمعلوم أن الأبجدية منطلق العلم اكتشفت في حضارات الشرق الأدنى التي أنجزت الشروط الضرورية لنشأة العلم النظري الذي شهد مولده عند اليونان، فقد كان العلم في حضارات الشرق عمليا، يُبتكر لدواعي عملية ويستخدم لدواعي عملية أيضا، لكن في المرحلة اليونانية أصبح العلم صناعة مستقلّة يتفرّغ إليها بعض أفراد البشر، ما جعل العلم يتراكم بشكل منفصل عن الحاجة.
كما أصبح رجال الدين متفرغين لوظيفتهم الروحية بعد أن حدث لأول مرة تقسيم العمل في المجتمع البشري بفضل النتائج التي حققها الاستقرار في المجتمع الزراعي، وتكرس ذلك بظهور الدولة، كما نتج عن المجتمع الزراعي أيضا الطبقة الاقتصادية بفضل فائض الانتاج واختلاق الصناعة والتجارة، فاكتمل السّلم التراتبي للمجتمع البشري ضمن نطاق الدولة، المكون من الساسة والعسكر والاقتصاديون والعلماء ورجال الدين وانتهاء بالطبقة العامة للشعب.
والواضح أن المعرفة بمدلولها الحضاري الذي عرف بداياته في الشرق وترسخ عند اليونان قائم على مفهوم السببية الطبيعية، وأن الغاية من العلم كله هو استكشاف الأسباب المجهولة التي تسري في الطبيعة، ومن ثم تسخيرها للتحكم في الطبيعة، فالعلم في النهاية وجد تكيفا من طرف البشر مع إكراهات الطبيعة التي تخفي أسرارها من أجل مغالبتها، والمعرفة العلمية انبثقت بالضرورة عن الدين.
ذلك أن كلا من العلم والدين ناشيء عن التفكير، وأن المشتغلين بهما أصحاب وظيفة رمزية، وأن الفارق هو كون الدين يقدّم التفسير الغيبي الذي يتجاوز المدارك، والعلم يقدّم التفسير السببي الذي تصل إليه المدارك، منهج الأول يقوم على الإطار الغيبي وبيان أبعاده استنادا إلى مخاطبة الإله للبشر، ومنهج الثاني يقوم على الإطار الطبيعي وبيان الأسباب استنادا إلى القوانين التي تحكم البشر، لذلك كان السؤال هو عن علاقة المعرفتين ومنهجهما، فقد تقدّم بيان اختلاف وظيفتهما وطبيعتها؟
الجواب على ذلك يقتضي معرفة ما صبغ ذروة كليهما: فذروة الأديان الإسلام تاريخيا ويفترض أن يكون أرقى ما وصل إليه الفكر الديني، وذروة المعرفة العلم الحديث ويفترض أن يكون أرقى ما بلغه الفكر البشري، أو على الأقل كافتراض يتحقق منه، وذلك يعني أنه علينا تمحيص طبيعة كليهما كما يلي:
لتجاوز الحيثيات التاريخية من المهم التوقف رأسا عند تمحيص علاقة الغيب بالأسباب، فالعلم السببي يستند إلى مكاشفة المجهول، ومن ثم فإنه يقوم على حقيقة الكشف المستمر للمستور في إطار الطبيعة، وأما الدين الغيبي فيستند إلى حقيقة أن الإنسان دائما وأبدا يبقى رهين المجهولات، ومن ثم فإنه يستحيل على العلم مهما تقدّم ووسع وعظّم من اكتشافاته فإنه لن ينهي الغيب، لكنه مقابل ذلك يعظّم من قدرات الإنسان في التحكم في الطبيعة والكون، أن يعلي من شأنه من كونه سيدا عليه.
والواضح أن ما يسعى العلم إلى كشفه من أسباب كانت في حكم الغيب، أو على الأقل يفسر تفسيرا غيبيا، فكان تصور الإنسان أول الأمر أن أرواحا تسكن تحت الأرض تتولى مهمة إنبات النبات مثلا، فلما جاء العلم كشف الطريقة التي بها تنمو النباتات، لكن هل نفى العلم أن توجد أرواح فعلا تحت التربة؟!
هنا نكتشف أن العلم الذي يساعد على التحكم في الطبيعة ليس بوسعه إثبات أو نفي وجود إله أو آلهة، كما أن الدّين والغيب لا يكون موضوعا للإثبات العقلي أو نفيه، وهذا طبيعي لاختلاف طبيعة كل منهما.
لعل أهم فكرة ميزت الإسلام أنه استند إلى حقيقة الإله الواحد المحيط المنزّه عن كل تجسيد، فكان أن ابتعد الدين كفكرة عن كل منافسة للعلم البشري بما هو علم سببي بالمادة (ملاحظة فرضية تجربة قانون علمي نظرية علمية)، وذلك يعني أنه مهما تضاعف التحكم البشري في الطبيعة عن طريق العلم، فإنه يبقى ضمن إطاره الذي يختص به.
ولئن كانت العلاقة بين الدين والعلم إذن تتحدد في الأسباب وارتباطهما به، فإن صفة المؤمن أنه يبقى دائما مسلّما بوجود ما يتجاوز الإنسان، ولكن هل يعني ذلك أنه سيقف ضد تقدّم العلم حفاظا على مجال الإيمان؟
إن العقل والمنطق لا يمكنه أن يسلّم بذلك، فحالة الموت مثلا تتكشف بتدخل الإنسان في الحفاظ على الجسد حتى يصبح العقل غير قادر على مجاراة قدرة الجسد على العيش، فالعقل إذن هو مادة طبيعية تتعرض بالضرورة للتلف ضمن مدّة معينة، وبالتالي فإن معنى ذلك أن الإنسان فان، وحتى لو تصورنا أن الإنسان طوّر آليات ووسائل بها يمد من عمره العقلي والجسدي معا فهل ذلك سيكون طبيعيا؟ حتما لا، والواقع أن الرؤية التطورية تكشف أن عمر الإنسان آيل إلى النقصان!
ومن ثم فلا إمكان للتدخل في الطبيعة وغاية ما هنالك أن يستقصي الإنسان تاريخه التطوري ليكتشف طبيعته ويتنبأ بتحولاتها المستقبلية على المديات الطويلة جدا.
أما بخصوص الدين فالسؤال الحارق فيه هو هل أن الفكر الديني “عقيدة وشريعة” يتحرّك على غرار الفكر العلمي، فما دام العلم يتحرّك في مجال الدين بفضل التمدّد في الكشف السببي، فإن الدين لا يعاكس العلم بالتحرك في مجاله إنما الدين يهيء المناخ المرجعي لتحرّك العلم لتحقيق أهداف الدين التي تتمثل في الاستخلاف في العمران، وهذا الافتراض متحقق منه تاريخيا بأن هيأت الديانة المحمدية المناخ الثقافي للازدهار العلمي والاقتصادي والاجتماعي.
والإشكالية تطرح حول كيفية استعادة الدين الذي مكّن من ذلك، حيث الواضح أن الأمر اجتهادي صِرف، يصل في مدياته القصوى إلى البحث عن “روح الدين” في كل ذلك دون التعلّق بظرفيات محدّدة، وعلى ذلك يجد البعض وجاهة في القول بأن “إغفال الدين” هو أسهل الطرق التي تمكن من اللحاق بركب الحضارة البشرية؟
إن المتديّن يتكلم عن روح الدين بمنهج اختزالي، وغير المتدين يتحدّث عن إغفال الدين بمعنى الثقة في قدرة الإنسان، فما دام الدين دين فطرة فإنه سيتواجد بالضرورة في كل التفاصيل، وعلى ذلك فإن الحاجة إلى مرجعية ثابتة ولو لاستخلاص روحها أو إغفالها تسليما بوجودها الضمني، هو الذي يجعل المسلم يعلق دائما بلحظةٍ تاريخيةٍ ما يسعى لاستحضارها بأية طريقة، باعتبارها اللحظة المؤسسّة، فيبقى كيفية الارتباط بتلك اللحظة المعيار لكل التوجهات في درجته وكيفيته.
وتلك هي الميزة والخصوصية التي تشكل قطب الرحى في كل المخاض الفكري للباحث المسلم، ميزة انشداده إلى الماضي التي لا تمنعه من الإبداع، ذلك أن دعوى معاداة الدين إنما تنشأ عن اعتقاد فاسد بأن الإيمان الديني والالتزام بشرائعه يتسبب بالضرورة في الجمود العقلي الذي يتعذر معه تقدّم العلم، سواء بكونه يقف حجر عثرة أمام العلم، أو أنه ارتباط غير وظيفي بالماضي، فكيف يمكن أن يكون الإيمان الديني دافعا للإبداع؟
- الإيمان الديني والإبداع الفكري:
بداية، لما كان الإيمان الديني بعامة موضوعيا كانت كونيته تحصيل حاصل، من خلال فكرة الإله الواحد والمحيط وغير المتجسد، والإحاطة هنا هي بالأسباب التي يسعى العلم لاستكشافها، فلو نظرنا إلى الشريعة في الإسلام وجدناها تحيط إنسانها بقيود كثيرة من الناحية السلوكية، أما لو نظرنا إلى الاعتقاد لوجدناها جملة من المبادئ المحررة للفكر، فيصف نفسه بأن جاء ليضع الإصر والاغلال التي كانت عليهم، ولا إكراه في الدين، وما أنت عليهم بمسيطر، الأمر بالتفكر وبالنظر في الكون والطبيعة والأنفس؛ فالإسلام إذن قد هيأ المناخ الفكري لتحقيق النهوض العلمي والسياسي بأوسع المعاني.
وذلك معنى محورية مفهوم الفطرة في الدين الخاتم، فالفطرة لا تدل على ثبات في الخلق بقدر ما تعني مناقضة التدخّل في الطبيعة وإفساد الخلق، كما أن الفطرة تحمل دلالة على التفكير السليم الذي يسعى لتسخير أقصى قدرات العقل في ذات الوقت الذي يسلّم فيه بحاجته إلى بيان خارجي يقدّم الملامح العامة للتفكير وكيفية التصرف في الكون كسيّد عليه.
وذلك ما يشكل جوهر الأزمة الإنسانية الراهنة وهي:
- التدخّل الإنساني في الطبيعة والتصرف بغير ما تقتضيه الطبائع. إطلاق الإرادة دون تحفظ.
- الثقة المطلقة في العقل البشري واستغنائه عن موجه خارجي. إطلاق العقل دون تحفظ.
فإطلاق الإرادة دون تحفظ تحدده التشريعات، فعلى ما في التربية من إمكانية لبناء الضمير الإنساني إلا أن الضمير الديني المرتبط بحساب بعدي يعدّ الحصانة الأضمن من انحرافات الإرادة البشرية، أما إطلاق العقل دون تحفظ تحدده الاعتقادات، فعلى ما في التكوين العقلي من إمكانية لبناء الفكر الإنساني إلا أن التفكير الديني المرتبط بحدس العواقب يعد الحصانة الأضمن من انحرافات العقل البشري.
وذلك يعني ارتباط المسلم دائما بوازع ذاتي من رغم كونه على ما يبدو توجيه خارجي هو النص الديني إلا أنه نداء متلاحم مع جوهر الخلق الإنساني يجد فيه الإنسان طبيعته الذاتية التي خلق منها، وذلك معنى أن العبادة إراحة للإنسان من قيود الدنيا ومصالحها التي كثيرا ما تخالف الأصالة الوجودية للإنسان على غرار الراحة في الصلاة والصوم مثلا؛ فالارتباط بالنص الديني هو تعلّق دائم بمرحلة الفعل المؤسس للحضارة الإسلامية وذلك ما يميز شكليا الباحث المسلم، والمفارقة أن هذا التعلّق هو الذي يعطي لمبدأ التقدّم التسديد المطلوب ويعطي الإحداثيات المطلوبة لتحقيق الأمن الوجودي للأفراد والغايات المرجوة للجماعات.
وأخيرا فإن منطلق الباحث المسلم استعادة الفطرة إلى التطور البشري، بتأطير الإرادة بالقواعد السلوكية الضابطة وتأطير العقل بالحرية المسؤولة، والتعاون في ذلك مع كل من يدرك جوهر الأزمة الإنسانية الراهنة ويعمل صادقا على إيجاد حل لها، وأن ميزة الحل الإسلامي للأزمة الإنسانية هو حل جمعي وليس فردي، فالعاملون من أجل الحق والحقيقة موجودون في كل مكان لكن حلولهم سوف لن تتجاوز فرديتهم إذا ما اعتنقوا الإسلام مثلا، وسوف لن تتجاوز التصورات إذا أسلموا تصوريا وبحثوا عن الفطرة، أما الحلول التي تأتي من صلب الجماعة المسلمة فيكون لها تأثير جمعي فعّال تصوريا وسلوكيا.
والمحصّلة هي أن أزمة المسلمين الحضارية هي تجل موضوعي للأزمة الإنسانية، وأن شروط الخروج بالمجتمع العالمي إلى بر الأمان هي ذات خروج المسلمين من تخلّفهم واستئناف حضارتهم.
———————————————————-
(1)- محاضرة عن بعد، مقدّمة لفائدة ملتقى مالك بن نبي ومشروع التجديد الحضاري، الذي نظمه مركز البصيرة للبحوث بالجزائر العاصمة، يوم 26 أكتوبر 2018