حول تأثير عصر التدوين ودلالات الحنيفية المحدثة

على هامش حلقات شرح كتاب تجليات الفلسفة العربية

يندرج بنا أبويعرب المرزوقي ضمن مؤلفه “تجليات الفلسفة العربية”(1) في سياق شديد التعقيل للتراثين الفلسفي والديني في النطاق العربي الإسلامي خلاصته العملية جرف كل السلفيات الدينية وكل الدغمائيات العقلية، وذلك بطرح جميع المدارس المذهبية الدينية والفلسفية على أرض التاريخانية حيث العائد العملي من ذلك دحض وتفنيد كل الإحيائيات المعاصرة -غربيا وعربيا- التي وجدت لها أرضا خصبا في ظل تدهور واضح للكدح العلمي والعملي عربيا وإسلاميا(2).

ذلك أننا لما نفهم أن الأنساق المذهبية الدينية والفلسفية العربية لم تكن ممكنة البناء إلا على مرجعيتين: المدونة القرآنية والمدونة اليونانية، حيث المقاربة الأولى كانت اجتهادية صرفة خاضعة للظرف التاريخي، والمقاربة الثانية كانت أقرب إلى التلقي السلبي المطلق للمدونة اليونانية، سندرك جيدا أن الوقوف على حقيقة الدين والفكر الحيين لم تعد ممكنة إلا بالمرور على الأنساق التي شكلت الفكر والواقع العربي الإسلامي في لحظة التدوين.

وأن علاج المشكلات الحالية للعرب والمسلمين بطريقة علمية وموضوعية أضحى أمرا مستحيلا بالقفز على مرحلة التدوين والمرور مباشرة إلى مرحلة التنزيل، فإدراك ذلك سيجعل من السلفيات الدينية أمرا مستحيلا، ذلك أن السلفي سيفهم أن التعامل العملي المباشر مع سنة النبي لا يمكن أن يكون كافيا، كما سيدرك الأشعري أن اعتماد المرجعيات الوسيطة، علماء وأولياء، لا يمكن أن يكون كافيا، ولا حتى الاكتفاء بمقولة الاستقامة العملية والاتباع العملي الفردي المباشر للهدي كما عند المحكمة يمكن أن يكفي، ولا الاعتقاد بالأوصياء على الخلافة والسلالة عند الشيعة أمر يمكن أن يجزئ أيضا.

ولئن كان القول بامتناع التدين الفردي المتجاوز لوساطة عصر التدوين سيكون مبالغة، فإن التدين الفردي السلفي بتنوعاته سيكون أيضا مجروحا في غياب وعي مفارقة عصر التدوين، لكن ولما كان موضوعنا هو الفهم الحي للدين كما صاغته النخب، من المجتهدين الأوائل، والذي انصهر في “الوعي الجمعي” بوصفه الصياغة التي قولبت فهم الجموع الإسلامية للدين(3)، فإن تفكيك المنظومة التي منها فهمت النخب الأولى الدين سيكون العلبة السوداء التي منها يكون إصلاح العقل والنفس الإسلاميين ممكنا، ومن دونه خرط القتاد.

وتفكيك المنظومة يقتضي استحضار الحنيفية المحدثة كقطب رحى، والذي بدوره يقتضي سبر إحداثيات دلالته، وهو ما يمر بنا إلى سبر أغوار الحنيفية المحدثة؛ فمؤسس الحنيفية إبراهيم عليه السلام، ومحمد (ص) أحياها بعدما خبت معانيها في التوراتية والانجيلية بعد تحريفهما، لذلك فالحنيفية المحدثة أساسا هي استعادة القرآن للمدونة التوراتية المحدثة (التوراة والانجيل): أ- تصويبا بعد تحريف، و2- ختما للدين، بما هما السمتان الأساسيتان للحنيفية المحدثة التي تتجسد في المدونة القرآنية بما هي حنيفية محدثة خام، إذ ستكون هناك حنيفية محدثة مركّبة جاءت تاليا لتلقي المدونتين القرآنية واليونانية.

لكن الإشكال يتركز حول ما حصل من انحراف خلال مرحلة التدوين التي استوجبت الأخذ من المدونة اليونانية لتأسيس مدونة عربية فقط دون الصبغة الإسلامية، حيث اقتضى الأمر حقبة طويلة حتى حصل الانتباه إلى ضرورة تحويل المدونة العربية ذات الصبغة “الأفلاطونية المحدثة” إلى مدونة إسلامية صرفة بلسان عربي، أو قل مدونة عربية ذات صبغة حنيفية محدثة.

ذلك أن التأسيس العقلي للمدونة القرآنية اقتضى بالضرورة الاستعانة بالأفلاطونية المحدثة، كنسق عقلي تام ومنجز، لا يتوفر غيره، لكن ما حصل هو عدم تنبه فلاسفة المسلمين الأوائل إلى أن النسق الجاهز للأفلاطونية المحدثة، انطوى على تصورات تمامية تحد متلقيها من المرور مباشرة إلى تشخيص وعلاج الوقائع الحية للوجود، وتدعم الوقوف عند النصوص وأنساقها، لذلك فقد أخذت المرحلة العربية الإسلامية الأولى من التدوين مبادئ التفكير العقلي مصبوغة بالمرحلة اليونانية، أفلاطونية أرسطية، وهو ما ينافي حقيقتين: أ- حقيقة أن أفلاطون وأرسطو أبدعا حقا في تقديم فلسفة أحاطت بالوجود الطبيعي والإنساني، لكنهما قدماها في قالب تمامي تجعل من بعدهم مقلّدا لهما، ب- حقيقة أن الإسلام جاء دينا خاتما، يؤسس لتاريخية العلم والعمل ويجعل منهما إبداعا مستمرا عبر المراحل والحقب التاريخية، بما يتطلب من كل مرحلة أن يكون إنسانها مبدعا.

وأخيرا وهو جماع ما تقدم، والأهم، هو أن الحنيفية المحدثة التي تأسست بعد مخاض عسير من المراوحة بين الأفلاطونية والأرسطية وبين التوراتية والانجيلية، أصبحت البديل الموحّد، لمعضلة تحول الاجتهاد العقلي اليوناني إلى حقائق نهائية كما تصورها فلاسفة المسلمين الأوائل، ولمعضلة تحول الاجتهاد الإسلامي إلى محاكاة للتوراتية والانجيلية بأن جمّدتا الفعل الديني كما تصوره علماء الدين المسلمين الأوائل(4)، فغدت الحنيفية المحدثة -“البديل الإسمي” الاجتهادي الوحيد للفكرين الأفلاطوني والتوراتي المحدثين-  محاصرة بينهما، وذلك إلى غاية اكتشافه النسقي مع ابن تيمية وابن خلدون بتوسط الغزالي، اللذان نقلا الحنيفية المحدثة من الوجود الخام إلى الوجود المركّب الممكّن من تحرير فكر المسلمين، والحنيفية المحدثة بهذا الفهم والتركيب المضاعف: أ- كونها بديلا موحد للأفلاطونية والتوارتية المحدثتين، ب- كونها جماع تجربتين فكريتين، الأولى في الفكر النظري عند ابن تيمية، والثانية في الفكر العملي عند ابن خلدون، هذا التركيب المبدع الذي لم يسبق إليه أحد أبويعرب المرزوقي.  د. محمد عبد النور في 01/09/2023

————————————

(1)- أبويعرب المرزوقي، تجليات الفلسفة العربية من خلال منزلة الكلي في الأفلاطونية والحنيفية المحدثتين العربيتين، دار الفكر، دمشق الطبعة الأولى 2001.

(2)- رابط الحلقات المنجزة من الشروح شرح على كتاب تجليات الفلسفة العربية – الحلقة الأولى – YouTube

وقد راجعت الحلقات المقدّمة فوجدت أنها لم تفلح إلا جزئيا في تيسير مضامين الكتاب المستغلقة على النخبة فضلا عن عموم الجمهور، وأنها ما تزال في حاجة إلى جهد أكبر يستوفي تحرير معاني من الأَسر النسقي الاجتهادي إلى الطابع التعليمي الذي يستصحب التجزئة وتكثير الأمثلة والقص التاريخي، على أن أبويعرب اعتبرها كافية لتقريب مضامينه للنخبة.. والأهم من ذلك تقديم الخلاصة الوافية للنتائج غير المعلنة التي يصل إليها الكتاب وهي عين الإضافة التي يمكن لقارئ أي سفر مركزي -على غرار كتاب التجليات- أن يقدمها.

(3)- حقيقة أثيرة هي أن الجموع المسلمة الحالية لا تفهم الدين كما نزل، أنما تفهمه بالصيغة التي تعقّلها بها العلماء لأول مرة بعد عصر التدوين، للتباعد الزمني والجغرافي بين الرعيل الأول والأجيال التالية التي حملت الإسلام، فالمسلمون اليوم لا يفهمون مباشرة الإسلام بمداركهم الخام إنما يدركونه بالمنقولات الشعبية التي هي بالضرورة نتاج الاجتهادات العقلية للسابقين، وليست تمثلا للمدونتين التأسيسيتين: القرآن والسنة، لأنهما متعذرتان على التحول إلى “ثقافة شعبية” فهي قد حفظت بالتدوين النصي النخبوي عالي التدقيق، وقد غدونا حاليا نزاول نصوص القرآن والسنة لا كما هي عرية كما جاءت لأول مرة، إنما نزاولها كما تفهما الأوائل خلال عصر التدوين وبعده وهي منسقة تنسيقا عمليا ونظريا مشوها تشويه الفكر اليوناني للتفكير وتشويه الفكر التوراتي للتطبيق..

(4)- وذلك معنى وحدة الفكرين الديني والفلسفي عند أبي يعرب، وهو معنى كون الإسلام دين الفطرة، أو كما يمكن وصفه أيضا بوحدة التاريخين الطبيعي والروحي.. فالحنيفية المحدثة بما هو الإسلام هو بتعبير فيلسوفنا “دين اللادين” كما تفهمه باقي الأديان، وهو تصديق مقولة فيبر عن الإسلام أنه إما ليس بدين أو هو دين من نوع مختلف..

داخل أبويعرب المرزوقي
أبريل 2025
د ن ث أرب خ ج س
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
27282930  

الأرشيف

إحصائيات الموقع

167186
اليوم : 68
الأمس : 117
هذا الشهر : 4362
هذا العام : 15898
مشاهدات اليوم : 285
مجموع المشاهدات : 506439
المتواجدون الآن : 3