جيلبار ديران و نظرية "الحوض الدلالي" (*) طوّر جيلبار ديران مشروعا نظريا مميزا ومثيرا سماه "الحوض الدلالي" يتكون من ستة مراحل استوحاه من مراحل "مجرى مياه النهر"، قام بإسقاطه على بعض النماذج من التاريخ الأوروبي، وقد كان بمثابة فتح نظري متحرر من النظرة الوضعية السائدة سواء في فلسفة التاريخ أو دراسة الظواهر الاجتماعية، وهو ما حاولنا تطبيقه على إحدى تفريعات التاريخ الإسلامي في أطروحتنا للدكتوراه. وتكمن أهمية المشروع النظري لديران في التعامل مع المعطيات التاريخية بعين الموضوعية، وأعني بذلك تجاوز محاولات التدخل في التاريخ وإلقاء الأحكام عليه بل والقبوع فيه كما هو حالنا اليوم للأسف الشديد، إذ نجدنا نتعامل مع تاريخنا كما أننا وودنا لو أنه لم يكن تاريخنا أو بالأحرى كما لو أنه كان يمكن أن يكون تاريخا آخر، فضلا عن أننا صرنا نتعامل مع تاريخنا على أنه تواريخ عدّة. لا فكرة رئيسية تربط بينها…
ومن جهة أخرى فإنها تؤسس لرؤية تتجاوز المنظور الكلاسيكي الوضعي للحدث التاريخ والاجتماعي ويؤسس لرؤى أكثر رحابة تعطي للعامل الرمزي والتصوري أهميته، ومن ثم تسمح لمتبنيها بتقديم مناظير مبدعة لتفسير الحاضر والتاريخ واستشراف المستقبل. ونعرض لهذه المراحل الستة كما يلي – بحيث يمكن لأي قارئ أن يستحضر ظاهرة ما لاصطحابها مع قراءته لما يأتي وهو لابد واجد فيها بعضا من التوافق إن جزئيا أوكليا-:
1- مرحلة السيلانات: تكوين مختلف التيارات لمحيط ثقافي موحّد: وتتمثل أحيانا في إحياء فكرة قديمة تنتمي لنفس المحيط الثقافي أو تيارات متولدة ضمن سياقات تاريخية محددة (الحروب، الغزوات،أحداث اجتماعية أو علمية…)
2- مرحلة توزع المياه: توزع السيلانات وتفرقها إلى أحزاب ومدارس تتشكل بينها ظواهر تساهم في إنشاء حدود مع التيارات الأخرى التي عنها تنشأ الخلافات والخصومات ثم المواجهة بين الأنساق الفكرية.
3- مرحلة تلاقي المجاري: على نفس المنوال الذي يتكون ضمنه النهر من خلال المصبات، فإن تأسيس التيار يحتاج إلى الاعتراف والاستناد إلى سلطة فعلية مستمدة من شخصيات ذات تأثير.
4- مرحلة تسمية النهر: تتمثل في أسطورة أو قصة مدعومة بأسطورة معززة بشخصيات حقيقية أو متخيلة تمنح التسمية والميزات للحوض الدلالي. 5- مرحلة تهيئة الضفاف: هو تعضيد أدبي، فلسفي و عقلاني للتيار، وذلك بوصفها مرحلة تأسيس ثانية يتولاها المنظرون، وأحيانا تفرض الفيضانات خصائص مميزة للتيار. 6- مرحلة مصب الدلتا: التي تتكون من تعرجات وانحرافات، بحيث يتم استقطاب التيارات الضعيفة من قبل التيارات المجاورة الأقوى…
(*)- الحوض الدلالي هو ترجمة عن Le Bassin Sémantique ويمكن أن يأخذ معنى الحوض السيميائي أي الحوض الذي يفسر سمياء الأشياء، بمعنى ظواهرها، تفسير الأشياء وفقا لنموذج دال هو نموذج مجرى مياه النهر. مستمد من النظرية الظاهراتية. ومعلوم أن الظاهراتية كنظرية تقابل التناول الوضعي السائد آنذاك في أوروبا. مثله الألمان هيغل خاصة بأطروحته "ظاهريات الروح" ودلثاي في تأسيس "علوم الروح" مرورا إلى الفلسفة الظاهرياتية مع هوسرل وانتهاء إلى السوسيولوجيين ماكس فيبر من خلال المقاربة الفهمية وألفرد شوتز من خلال علم الاجتماع الظاهراتي.