أسئلة الفكر وأجوبتها (6)

في هذه الحلقة نعالج مسألة العلاقة مع التنظير والممارسة العملية، ضرورة التنظير الذي يسبق ويوازي العمل، وعلاقة العلم بالأيديولوجيا هل هي ممكنة، وكيف هي ممنكة، ثم نعرج إلى موضوع العولمة وإمكانات التحرر الثقافي والاقتصادي، وهل يمكن قلب الموازين من داخل العولمة أم أن الأمر يتطلب بديلا جذريا…

المسألة الأولى: ما حدود التنظير في حين أن هناك علاقة جدلية بين الميدان والنظرية؟  ذكرتم “أن تبقى السياسة سياسة والعلم علما” كيف ذلك؟ وقد أشرتم سابقا إلى أن “الفكر لابد له من إطار اديولوجي كي يضمن له الفاعلية” وكذلك أن “الفكر لا يتحيز” أرجو منكم تفصيل أكثر في هذه النقطة.

الجواب:

بالنسبة للسؤال الأول، للتنظير حدود، كما أن علاقته جدلية بالواقع أيضا، في الواقع حدود التنظير هي مستويات عدة يمكن أن أذكر أربع:

أ- تاريخية: أي لابد من استكمال الأنساق النظرية التأملية والواقعية في أدنى حدودها.

ب- اجتماعية: بلوغ المجتمع حدا أدنى من الاكتفاء في الموارد البشرية من أصحاب الوظيفة التنظيرية.

ج- فردية: استيفاء حد أدنى من التكوين المتين في مجال التخصص.

د- نفعية: أن تبقى في حدود الممكن والموضوعية فلا يتحول التنظير إلى مجرد تعويض أو إسقاطات نفسية أو تأملات لايرجى منها نفع، على ما في التأمل من المنفعة عندما يأتي في إطاره السليم.

وعلى ذلك تبقى العلاقة جدلية دائما وهي أن يكون التنظير صادر عن الواقع الذاتي للجماعة المنظّر لها، يسير وفقا لمساراتها وسياقاتها التاريخية لا يتجاوزها، فحتى الفيزياء والبيولوجيا في جانبها التطبيقي تستند إلى واقع تاريخي-اجتماعي يجب أخذه بعين الاعتبار مع التدرج المطلوب في تحقيق النقلات وعدم تجاوزها.

كما أن إبداع النظريات العلمية في العلوم الاجتماعية والإنسانية لابد أن ينشأ عن تفاعل حي بين ذات الباحث-المفكر والارتباط بقضاياه الأهلية التي تمس أبسط الناس وأبسط الأمور.

بخصوص السؤال الثاني: فالمقصود بفصل النظر عن العمل أو العلم عن السياسة، فهو تجاوز الربط الساذج والسطحي المباشر بين الأفكار والتطبيق، فتلك نظرة لا تاريخية وتقوم على فكر ينتمي إلى الأسطورة والخرافة، فالعلاقة بين الفكرة وتطبيقيها تستند إلى شروط أقلها (الزمن الكافي لتحققها والتجذر بما فيه الكفاية في الواقع) فضلا عن أصالة الفكرة حيث تقدم في الجواب الأول ضرورة أن تكون الأفكار نابعة من العمق الثقافي والاجتماعي، وأن تكون المقابسة من الثقافات الأخرى وظيفية محضة وبراغماتية خالصة، وليست ببغائية تستورد فيها الأفكار دون حس اجتهادي وإبداعي.

ومن هنا كان من المهم إدراك الفارق بين معنيين للعلم الأول هو البحث عن الحقيقة المطلقة بما هي شغف وحب للمعرفة واستكشاف غير المعروف ليصبح معرفة عامة بين الناس يتصدى لها “مفكّرون”، وبين العلم بما هو موجّة لتحقيق غايات مباشرة تخططها سياسات جاهزة يتصدى لها “خبراء” منفذون،

وفي كلا الحالين لا يرتبط العلم إلا بشكل عَرَضي وظاهري بالسياسة، فالأول يبني أسسها والثاني يجند لخدمتها فحسب. أما تصور أن يدخل العلم في جدلية مباشرة مع السياسة، فهذا ظن من لا يدرك أن طبيعة العلم نظرية محضة وأن طبيعة السياسة عملية محضة فيسعى للدمج بين أمرين من جنس مختلف لا يندمجان إطلاقا من حيث طبيعتها.

أما من حيث الممارسة فإن الدمج والمزج بينهما مفسد لهما معا، بحيث يحصل إرباك لطبيعة العلم التي تقوم على التأني والشك وطبيعة السياسة التي تقوم على السرعة والحزم، على أنه يمكن للمرء أن يخوضهما معا شرط على تصور أن تكون فكرة اليوم ستتحقق اليوم، هذا التصور الذي أفسد ويفسد واقعنا، وهذا عينه هو الجهل المركّب.

ومع ذلك لا يفهم أنّي أسعى لعزل العلم عن السياسة بقدر ما أسعى لبيان العلاقة السوية التي هي ليست مباشرة حتما.

أما كيف هي العلاقة إذن، فإن الأمر يقوم على وسائط وتدرجات وتراتبات، فقد ذكرت في الجواب الأول الحدود الأربع التي هي في حد ذتها وسائط وهي وسائط موضوعية، والوسائط قد تكون مؤسسية أيضا، بحيث أن يكون للعلماء والمخبراء مؤسسات مستقلة تفصل في الشؤون العامة والخاصة بطريقة مستقلة، أو عن الاستشارة الذي تشكل الواسطة بين صاحب الرأي وصاحب التنفيذ المباشر، فضلا عن ذلك الوسائط التي تتوسط المطالب الجماهيرية العامة لتصوغ منها رأيا موحدا لتنقله إلى التنفيذ، وهنا قد يتحول العالم إلى صاحب سلطة أقوى من صاحب السلطة السياسية.

ومن المهم الإشارة إلى التصور الساذج للديمقراطية التي يتصورها عامة الناس تحقيق الفرد لذاته بشكل مباشر على المستوى السياسي، أعني تصور أنه يمكن لكل فرد أن يسمع صوته للجميع أو أكثر من ذلك أن يتحول رأيه إلى واقع، هذه سذاجة في تصور الديمقراطية مثلا ينتج عنها تضارب وصراع لا نهاية له، أنظر ما حصل في فرنسا في (عهد الإرهاب) وانظر ما يحصل عندنا (من أخطاء تحصل داخل الربيع العربي)، ولا ننسى أن تغييب الرأي العلمي والاستشارة النظرية يؤدي إلى ارتجال هو مما نراه يحصل وسيؤدي إلى كوارث أقلها الانقسام والتشرذم… الأمر متعلق بمؤسسات وسيطة بين الراي العام والمؤسسات التنفيذية هي مؤسسات استقبال وإعادة توجيه، فالمواطن البسيط لا يدرك أبعد من غريزته وفطرته البسيطين، وأن العالم هو من يقرر أحقية المطلب من عدمه…

وأخيرا لعلي أجبت بشكل غير مباشر على الشق الثاني من السؤال الثاني والمتعلق بالإطار الأيديولوجي للعلم، وقصدي منه ضرورة أن يتحول الجهد الفكري للنخب العلمية إلى خدمة مشروع ميداني فعلي في حال تحققت شروطه، وهما شرطان أساسيان أن يكون مشروعا مستقلا، أعني ذاتي الإرادة وكذا أهليا أعني أن يتجه صوب تحقيق الصالح العام للمجتمع الأهلي. أما أن الفكر لا يتحيز فهي حقيقة يجب أن تسم العلم والعالم في مرحلة التنظير الخالص قبل النزول به لتنفيذ خطوطه العريضة في الميدان، مع التأكيد على أن النزول إلى الميدان لا يعني أن يتوقف البحث العلمي والتنظير بل يستمر في مستواه النظري الخالص إلى ما لانهاية كعملية مستقلة تماما عن السياسة، وأن العلم يشتبك مع السياسة فقط من باب كونه يعالج ذات الواقع الذي تعنى به السياسة، ومن ثم ومن جهة أخرى يصبح لا غنى لها عنه، والله اعلم

المسألة الثانية: انطلاقا من: “أن البحث عن مصادر الطاقة هو شرط طبيعي للدول لتأمين ضرورياتها وتحصين مناعتها من الدول المنافسة لها”

نجد بالموازاة حضور قضية العولمة التي انطلقت من الشرط الطبيعي نفسه “نحو التوسع للبحث عن مصادر الطاقة والبحث عن أسواق لصرف منتوجاتها…

مما لجأت إلى الاستعمار سواء بشكل مباشر أو غير مباشر دون أي اعتبار للرابط الاجتماعي، مما يحيلنا ذلك إلى كون الثقافة الغربية كما بينها بن نبي ثقافة سيطرة ذات جذور تقنية (تكرس كل أفكارها لخدمة الشيء دون اعتبار للقيمة الاجتماعية “الخير”).

والسؤال : هو أن كثيرا ما نسمع بأن التعامل مع العولمة يجب أن يكون بالأخذ بالإيجابيات وترك السلبيات وهذا حل واسع وفضفاض وبالتالي السؤال هو من يحدد السلبي والإيجابي من أجل حفاظ الدول على هويتها “ثقافتها” في ظل عالم متغير مما يستوجب حضور من ينظر لذلك، وبعد صنع حصانة لما يستقبل من الخارج لكن كيف تحصل الدول على الحصانة الاقتصادية التي يجب أن توفرها الدول لكي تحقق أمنها -بما هو نزوع طبيعي ولابد من الحصول عليه- في ظل عالم متحكم يجبرها بمقاسات معينة تمس هويتها الثقافية؟

الجواب:

لعلك أجبت عن السؤال من خلال طريقة صياغته، وهو ينم عن إدراكك كيف أن العولمة نسق مغلق قد يستحيل التحرر من إكراهاته، تماما كما نظّر ماركس إلى أن تجاوز سلبيات الرأسمالية لا يحصل إلا بنموذج بديل، ذلك لكونه متعذّر على الإصلاح، فكان موفقا كلامك عن أن الحديث عن أخذ الإيجابي وترك السلبي لا يتجاوز الدغدغة العاطفية البعيدة عن الإدراك العلمي لموضوع العولمة التي ليست إلا صيغة جديدة لتحقيق الهيمنة على مصادر الطاقة والغذاء.

يبقى القول أن العولمة يجب أن توضع في إطارها الصحيح وحجمها الحقيقي، وأعني أن العولمة لها حدود في الاختراق الثقافي والسياسي، كما أن حجمها الحقيقي ليس بالدرجة التي قد نتصورها بها، لأن أولى آفات العولمة هو تضخيمها إلى درجة تتحول إلى أيديولوجيا تعمل الحرب النفسية لمن يتصورها تصورا مبالغا فيه، وبعض المفكرين يرى أن العولمة ليست إلا مرضا عربيا أوروبيا، فهي أحيانا تصل إلى حد توهمها وجودها وهي غير موجودة أصلا…

ذلك أن التقدّم التقني الحاصل اليوم هو في النهاية نتاج إنساني لا يعبر عن العولمة من جهة، ومن جهة أخرى أن لكل عصر عولمة أو كونيته بمعنى حدوده التصورية للكون والحدود التي يبلغ إليها ويتواصل فيها فعليا مع الثقافات والكيانات الاجتماعية الأخرى

أخيرا يبقى الكلام عن خيارين: إما تصور عولمة بديلة أو قلب المعادلة من الداخل وتحويل العولمة لتكون أداة في سبيل استئناف الدور الحضاري للأمة، وإن كان يقتضي أن يترابط الخياران، ذلك أن قلب المعادلة لابد أن يعطي وجها جديدا لخصائص جديدة للعولمة.

فمثلا العولمة كآلية لتحويل بعض عناصر الثقافات المحلية لتكون عناصر من الثقافة العالمية هذا يفيد الثقافة الإسلامية والثقافات المحلية داخلها لتجعل من عناصرها المميزة أشياء كونية عامة من قبيل: المعاملات المالية الإسلامية، الحجاب، واستعادة تقليد الأسرة… إلخ، ذلك أن الكثير مما صرنا نمارسه في حياتنا اليومية ليس إلا عناصر ثقافية غربية وغير غربية تم عولمتها… مع التأكيد على القدرة الهائلة للعولمة على الاستيعاب والهضم، وإعادة إنتاج القيم وفقا للقيم العولمية، لذلك كان لابد من أن يكون السعي لعولمة بعض التقاليد والقيم الإسلامية مرتبط بسعي إلى تغيير آليات العولمة وأيديولوجيتها… والله أعلم

الرد على الجواب: أما بخصوص الشق الأخير في السؤال “لكن كيف تحصل الدول على الحصانة الاقتصادية التي يجب أن توفرها الدول لكي تحقق أمنها -بما هو نزوع طبيعي ولابد من الحصول عليه- في ظل عالم متحكم يجبرها بمقاسات معينة تمس هويتها الثقافية؟” ربما قد ورد الجواب ضمنيا لكن مازال لم يتضح الجواب وما أقصده كون الحصانة الاقتصادية تعتريها قوانيين خارجية -بحكم خضوعها لنسق عالمي- تمس في ثقافة تلك الدول مما تتنازل الدول إما عن ثقافتها أو عن تحقيق الحصانة الاقتصادية، على سبيل المثال إذا أرادت الاعتماد على السياحة في اقتصادها كان لابد لها من الخضوع إلى معايير خارجية تمس بخصوصياتها ومبادئها؟

الرد على الرد: التحرر الاقتصادي يقتضي استقلالا تاما في القرار السياسي، والتحكم في كل قطاع اقتصادي والعمل على تطويره وفقا للخصوصيات يقتضي بالإضافة إلى استقلال القرار إرادة سياسية فعلية في النهوض الشامل بالتنمية وتقوية الاقتصادي الوطني، وحتى إن حصل الاستقلال وتكونت الإرادة إلا أن المعوقات الموضوعية ستكون كبيرة داخلية وخارجية، وقد تكون الخارجية أقوى لكونها الأقدر على الابتزاز الاقتصادي لدول ضعيفة تسعى إلى مرحلة الفتوة في الاقتصاد. أما بالنسبة لجانب الخصوصيات الثقافية تحديدا فإذا كانت السياسة (الوطنية) رشيدة فهي ستفكر في كل شيء ذاتي وخصوصيات وتعمل على حمايته استنادا إلى خبراء ومفكرين، لذلك فإن السياسة الوطنية ستكون أقوى بكثير من أي قوى محلية تسعى للحفاظ على هويتها الثقافية في حال ما إذا كانتا متناقضتان وذات أهداف متعاكسة… لكن العمل الظرفي قد يقتضي من العمل المحلي أن يخض لشروط المنطقية والكونية لعله يستطيع المجابهة ضمن ظروف وشروط استثنائية، لكن الأهم هو السعي والعمل على استحداث سياسات وطنية مستقلة وذات إرادة فعلية في تأسيس نهوض وتنمية وطنيين حقيقيين في كل المجالات وهو ما لا نملكه حاليا، أخيرا مثال السياحة التي هي في نموذجها العالمي (دعارة) كما وصفها أحد المثقفين، فيقتضي أيضا تغيير الشروط النفسية والذهنية للسائح الذي له صورة سلبية عن أهل البلد الذين يزور بلدهم بأنهم ليسوا إلا واسطة من درجة ثانية إلى الإرث الإنساني الذي هو ملك لهم هم في ظل حضارة استعمارية مهيمنة، إلا من رحم ربي ممن كان له وعي وحس إنساني، فيكفي مثلا أن يفرض البلد السياحي بعض القيود التي تتفق مع خصوصياته ليدرك السائح أنه أمام قيم فاعلة وحية وليس أمام فلكلور مثلا..

 

 

داخل أسئلة الفكر وأجوبتها
أبريل 2025
د ن ث أرب خ ج س
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
27282930  

الأرشيف

إحصائيات الموقع

167194
اليوم : 76
الأمس : 117
هذا الشهر : 4370
هذا العام : 15906
مشاهدات اليوم : 325
مجموع المشاهدات : 506479
المتواجدون الآن : 2