محاولة منهجية (*)
النموذج السائد في تفسير نشأة الثقافات يقوم على أساسين: المعتقد الديني والانتماء الاثني، وهما عنصران يشيران إلى تكوين مصدره الأغيار وآخر إنّي المصدر، إلا أن المعضلة تتمثل في التصور الوثوقي في ثبات كل منهما عبر الحقب التاريخية التي تكوّنت فيها الثقافات. حيث الصورة السائدة عن كليهما هي كما يلي: أ- المكوّن العقدي: أنه مرّ بالحقب التاريخية دون أن يمسه تغير ووصل إلى المراحل اللاحقة صافيا من كل شائبة، ب- المكون الاثني: أنه صاف وراثيا أيضا، وأيضا أن الوراثة أمر قار لا يتغير، وأن التكوين الراهن للمجتمعات هو هو منذ نشأتها. وما لاحظه علماء الطبيعية والإنسانيات أن التكوين الثقافي للمجتمعات هو متغير عبر الحقب التاريخية وتتدخل فيها العوامل التالية: البيئة والوراثة والسلوكات، وأن هذه العوامل في حد ذاتها متغيرة أيضا، وأن التأثير المتبادل بين العوامل الثلاث والبناء الثقافي للمجتمعات قائم على التفاعل بينها كما يلي:
أن الإنسان يولد في هذا العالم بمورّثات تحدد نمط سلوكاته، وأن هذه المورثات تنطوي على ما هو ثابت كونيا مثل الغرائز المعلومة، التملّك والطعام والجنس، وما هو متغير من مجتمع إلى آخر، مثل طريقة السلوك وتحديد الأهداف ورؤية الكون.
ووراثة الجانب المتغير يحصل عن طريق الوراثة وعن طريق التنشئة أيضا، حيث التفاعل المستمر والطويل بالبيئة الطبيعية، المناخ والتضاريس، والظروف التاريخية، الاجتماعية السياسية، يؤدي إلى تعديل السلوك من خلال استجابات فيسيولوجية تحصل خلال التفاعل مع البيئة والظروف خلال لحظة معينة ستؤدي مستقبلا إلى إحداث تغييرات لا رجعة في الاستعدادات التي ستستحيل إلى “استعدادات وراثية معدّلة”. (ديكون: 2014، 585 586)
والشاهد على ذلك هو اطراد التناسب بين المناطق الجغرافية في العالم وبين طبيعة الثقافات التي تحتضنها، بحيث نستطيع ان نعكس التصور السائد كما يلي: أن الثقافات تتغير بتغير الجغرافيا وليس العكس، فالمؤكد أن أثر البشر على البيئة والظروف لا يذكر أمام الأثر الذي يمكن أن تحدثه عليهم، وهذا كما هو بديهي هو أن البيئة والظروف قاهرة للإنسان. (مثال: عجائب العالم السبع)
والأمثلة على ذلك أكثر من تحصى، فلا شك أن طبيعة التضاريس والمناخ تحدد بشكل حاسم طبيعة المنازل من هندستها وبنائها ومساحتها وارتفاعها وارتباطها ببعضها البعض… إلخ، وبطبيعة الحال فإن خضوع سكن الإنسان للظّروف الطبيعية سيحدد الكثير من أنماط التواصل والعلاقات بين الناس، وذلك بشكل قار وثابت.
إضافة إلى الموارد التي تتوفر عليها المناطق التي يسكنها البشر فهي تحدد بشكل كبير أيضا طريقة عيشهم ونوعية طعامهم، إذ أولا ينشأ عنها طبيعة الوظائف التي يحتاج إليها الناس، فأول شيء لابد للبشر أن يحققوا اكتفاءهم الغذائي، وأن طبيعة المنتوجات هي التي تحدد مثلا الصناعات التي يجب تنتحل، كما أن مدى تنوع الموارد الغذائية التي توفرها منطقة العيش هي التي تحدد طبيعة علاقة المجتمع بالمجتمعات الأخرى.
كما تخضع أن الكثافة السكانية تخضع لعدد من العوامل البيئية من قبيل التوفر على الموارد وسهولة الحصول عليها، إذ كلما كانت الأرض ذات موارد وخصبة وكذا المناخ المناسب وغيره، كل ذلك يحدد طبيعة النظم الاجتماعية والسياسية، إذ كلما كانت الكثافة السكانية كثيفة تعقّدت العلاقات الاجتماعية ونتج عنه نظام أكثر تسيدا وسلبا لحريات أفراده، إذ لا يترك لهم خيارات كثيرة أولا فضلا عن أنه يخضع كل شيء للرقابة، ومما يساهم في ذلك هو أن كثرة السكان تجعل استحداث وظائف في الدولة أمرا ممكنا.
في الأخير، فإن تلك النظم الاجتماعية والسياسية تنتج أيضا إفرازات تعتبر الموضوع السائد في دراسة الثقافات، إلا أن المراجعات الراهنة تفيد بأن التفهم الأعمق للثقافات إنما ينطلق من الظروف الطبيعية التي على أساسها تقوم النظم الاجتماعية بوصفها المحدد الرئيس للهويات الثقافية.
مع ملاحظة أن الأمثلة المقدمة هي ليست للإسقاط المباشر دون الوقوف على كل ثقافة على حدة لتمحيص الظروف الطبيعية التي كونتها، حيث الفائدة المحصلة من العرض المتقدّم هو البرهان على أهمية البعد البيئي الطبيعي في تحقيق فهم أعمق وأكثر موضوعية لا يلغي العوامل الكلاسيكية المتقدم ذكرها لكنه يعدّلها ويعتبرها عوامل ثانوية أيضا.
وأخيرا وبعد تبين الفائدة العملية من النموذج التفسيري المتقدم للهويات الثقافية يكمن في التخلص من الرؤية التجوهرية للثقافات على أنها نتاج عامل واحد أو عاملين، فضلا عن كونهما عاملان يتغيران بتغير الظروف الطبيعية والتاريخية.
————-
(*)- نسخة معدّلة ومزيدة من أعمال اليوم الدراسي حول: الثقافة والمسألة الهوياتية في الجزائر، تنظيم قسم علم الاجتماع بكلية العلوم الاجتماعية والإنسانية جامعة غرداية، يوم 27 فيفري 2018.
(1)- تيرنس ديكون، الإنسان اللغة الرمز: التطور المشترك للغة والمخ، ترجمة شوقي جلال، المركز القومي للترجمة، القاهرة ، ط 1 2014