تأملات بنبوية، الحلقة السابعة

لكل مجتمع عالم أفكار يحمله الفرد في نفسه منذ ولادته، ولعالم الأفكار هذا دور السلم الموسيقي الذي على أنغام أسطوانته تنسجم الأجيال، والذي يغدو كنموذج مثالي يشكل القوام النفسي الاجتماعي لكل حضارة، مع ما يضفيه عليه كل جيل من مسحة خاصة به وبأفراده، بحيث يمثل “النموذج المثالي” ما سماه بن نبي بالأفكار المطبوعة، أما “المسحة الخاصة” التي يضفيها الفرد والجيل على النموذج الأساسي فهي الأفكار الموضوعة. (ص68)

فالنموذج المثالي (أو الأفكار المطبوعة) لكل حضارة هو ما يسمى باصطلاح معاصر “الفعل المؤسس”، والفعل المؤسس لكل حضارة هو المبادئ الرئيسة التي تقوم عليها كل ثقافة، أو قل هو الجذر الذي تقوم عليه شجرة حضارة ما، بحيث تكون تلك المبادئ –تصورية كانت أو سلوكية- هي المحور الثابت التي تدور في فلكه الأفكار الموضوعة التي يقوم الأفراد والأجيال بإضفائها عليها في كل مرحلة تاريخية.

والواضح أن المسحة التي يضفيها الأفراد والأجيال على حضارتهم تعطي الشكل الخارجي لتلك الحضارة، وتعبر بشكل غير مباشر عن ذلك الجذر الخفي الذي لابد يكون متصلا به في الحالة السوية، أو قل عندما تكون الحضارة حية بإنسانها، وإن انقطاع الصلة بين الجذر الحضاري الأول وإنسان المرحلة التاريخية يعني وبالضرورة نهاية حضارته وأفولها، وغياب الدوافع الحضارية نحو البناء والازدهار، فتغدو معاني الإنسانية التي تعبر عن معنى “الحضارة” مسخا ممسوخا ونسيا منسيا إلى أن تتجدد الصلة مرة أخرى بذلك الجذر الحضاري، وفي هذا يقول بن نبي: “عندما تبدأ الأفكار المطبوعة تمّحي عن أسطوانة حضارة يخرج منها في البداية نشار النغم! صفير، وحشرجة، ثم الصمت أخيرا” (ص70)

وكما هو واضح فإن الجذر هو غالبا جذر معنوي روحي، سماه بن نبي بعالم الأفكار، الذي هو عالم معنوي صرف، ويمثل الفعل المؤسس في الإسلام الوحي الذي تلقّاه النبي محمد منذ أربعة عشر قرنا، الوحي الذي يمثل رسالة الإسلام المطبوعة بما أحدثته من عواصف في التاريخ الإنساني، فكانت البداية التي قلبت رأسا على عقب وضعا بدائيا لمجتمع شبه الجزيرة فوضعته على حدود الحضارة، وذلك بعد أن جعلت من إنسان تلك اللحظة كائنا طيعا لقواعد وأصول تلك “الخطة الروحية” التي سعت لبناء نظام دنيوي صارم.

وبه فقد جاء التحليل الفكري البنبوي مصبوبا في قالب تاريخي نموذجي فلم يسترسل في صياغات مثالية غير متناهية، وهذا ما يكشف عن التطلع البنبوي لتأسيس ثقافة ذات جذور تجريبية وفعلية غير منقطعة عن السياق الاجتماعي والسياسي، تمتح من ذات الجذور المطبوعة التي قرر أنها لابد وأن تتوفر في الإنسان السوي الساعي للنهوض والقيام، فضلا عما سيأتي عليه من النتائج المباشرة التي حققها الفعل المؤسس للحضارة الإسلامية (الوحي) من تغييرات وأنظمة على المستوييات المادية والفكرية والأخلاقية، وانتهاء إلى ما سنفصل فيه من حقيقة أن الدين جاء إلى العرب كأداة طيعة في أيديهم تساعدهم على الخروج من وضعهم المتردي البدائي بالقدر الذي يبدو فيه أنهم جعلهم خاضعين لقوة غيبية ضمن منطق دوني للإنسان… (يتبع)

شابه بن نبي لحظة تلقي الجزير العربية للرسالة (الوحي) بلحظة اكتشاف أرخميدس لدافعته، فكان لها نتائج على المستويات الثلاث، المادية الفكرية والنفس أخلاقية، تمثل المستوى الأول في وضع المهاجرين والأنصار مواردهم على سواء بينهم لدخول المرحلة الجديدة، أما على المستوى الفكري فقد استحال الأمر إلى أسلوب جديد في التفكير ليلائم أوامر التنظيم الجديدة، وأخيرا نشوء مراكز استقطاب جديدة للطاقة الحيوية من قبيل فكرة حفر الخندق التي صدت آخر موجهة جاهلية على أسوار المدينة.

فكانت الطاقة الحيوية متركزة حول مفاهيم جديدة أضحت نماذج مثالية لعالم ثقافي جديد، حتى أنها كانت تسبب انفجارات مأساوية في ضمائر بعض من أساؤوا الامثال للأوامر، فيتحسرون معلنين عن خطئهم، من قبيل حديث الغامدية التي كانت العقوبة على جسدها أخف وقعا من وطأة الضمير، وكذا قصة المتخلفين عن القتال في غزوة تبوك، والذين ضاقت عليهم الارض بما رحبت؛ وهنا لابأس من الوقوف عن هذا المعنى العميق الذي عبر عنه بن  نبي بأن: “القداسة أضحت في كل شيء، وأضفت القداسة مسحتها على العالم كله” ص84، حيث كان العالم المقدّس بمثابة ميزان دقيق عليه يتحرك وجدان كل فرد على وقع أي نشاز عن اللحن الجديد، وهي ذات الحساسية التي يعد خفوتها إيذانا بفناء الحساسية الجمالية والأخلاقية لأصحابها، وتلك هي اللحظة التي تنفصل فيه الأفكار الموضوعة عن الجذر الثقافي الأساسي، إذ حينها تكون قد فقدت كل مبرر ولم يعد لها شيء تعبر عنه، وعلى تلك الحال يتفتت المجتمع لغياب كل دافع مشترك بين أفراده.

فإذا كنت فترة الأفول فترة موات الأفكار، فإن فترة بدء الصعود تكتنز ضربا من الأفكار القاتلة المستوردة، وهي القترة التي أراد المجتمع الإسلامي أن يستقي فيها أفكاره من الحضارة الغربية، وبن يجد أن الذي لم يكن طبيعيا هو إخلاد هذا المجتمع في وقت يفترض فيه أن تكون فترة لقيامه على غرار بلدان أخرى انطلقت من نفس النقطة، ويفسر ذلك بخيانة المجتمع المسلم لنموذجه الثقافي الأساسي، الأمر الذي انتهى ارتدادا للنموذج على أصحابه انتقاما بعد خذلانهم له، أنها في نظر بن نبي لحظة الانفصام الذي تمايز في المسلم الذي يصلي في المسجد ويخرج إلى عالم آخر مفارق تماما.

ولا يعني هنا بن نبي أن الأمر فردي فحسب، إنما ينسحب الأمر أيضا على حقيقة المؤسسات الاجتماعية، أعني عندما تصبح المؤسسات الرمزية في المجتمع تعيش صوفية إلهاء وتخدير، لا تصوف تهيئة وتحضير بحيث يكون العالم الدنيوي مجالا لتفجير نهى وأحلام مرتاديها، وتلك هي الحالة السوية التي تكرّس وضع الرجال مواضعهم المناسبة واتخاذ المواقف المناسبة وكذا تخلق حالة من التناغم من النخب والشعوب، وذلك شرط استعادة عافية الأمم، تحقيق الإلحام بين العوالم الرمزية للأفراد والعالم الفعلي الذي يعيشونه بتفاصيله، وحينها يستحيل الدين والتدين والثقافة والتقف ضربا من حسن التدبير والتكيف السليم مع العالم بعيدا عن كل استلاب يحصر الدين في أنواع من التقييدات والإكراهات…

ضميمة الحلقة السابعة

التعقيب الأول: يحتاج المجتمع عند انلاطقه الحضاري إلى التخلي عن سيئاته التصورية والعملية، إلا أن ذلك سيكون تحصيل حاصل للارتباط الذي حدث مع الجذر الحضاري على مستوى عالم الافكار، لذلك كان عالم الأفكار هو المجال الأصلي لكل تغيير حقيقي يمكن أن يحصل، والمعلوم أن عالم الأفكار لا يتعدى بضعا من الأفكار الكبرى التي تتفرع عنها كل التصورات والسلوكات الجزئية الصغرى، ومن ثم فإن بن نبي قد أشار ووضع يده على جوهر الداء الذي إذا صلح صلح أمر الجماعة كلها…

التعقيب الثاني: الفارق الرئيس في المحاولات الاجتهادية كامن تحديدا في مسألة رغبة الارتباط بالجذر الحضاري أو رغبة في الانفصال عنه، ذلك أن الثانية ستفتقد بالضرورة للحس الابداعي والاجتهادي لأنها سترتهن بالضروة بتقليد الآخر، لكن الثانية ومع كونها غير معصومة عن التقليد أيضا، لأنها معرضة للوقوع في مطب تقديس السلف، وعنها نشأت اليوم كل السلفيات البالية الانكفائية منها أو العنفية، فإن الارتباط بالجذر إبداعيا يعني الاتصال بمضامين الروح لا بالأشكال الظاهرية الجوفاء، والاتصال بالمضامين الروحية سيعني كذلك الافادة القصوى من الموروث الإنساني دون خوف من السقوط في التقليد، ما دام الإنسان قد تحرر من ربقة التقليد سواء للماضي الأهلي أو الحاضر الأجنبي.

التعقيب الثالث: بقي السؤال أيضا كيف يمكن الارتباط بالجذر إذا لم يكن شيئا متعينا أو ملموسا، يعني كيف تدرك الروح، ثم بالمقابل يأتي أن الفكرة السلفية تعني الارتباط بماض متعين، والواقع أن النهضة الأوروبية في أحد مراحلها عرفت الجدل بين الفكرة السلفية وفكرة التطور والتقدم بوصفها الفكرة التي تفتح آفاقا عظيمة للإنسان، وعلى ذلك فإن الباحثين بتفقون على أن الدين لا يمكن أن يكون مرحلة انقضت إنما هو أمر متأصل في التكوين الإنساني لكن الإشكال هو في التعامل مع القضايا الدينية، والسؤال أيضا هل أن التدين يعني الارتباط بفكرة مضت ولابد، أم أنه يمكن التدين بوصفه نظرا إلى الأمام، أعتقد أن هنا تحضر فكرة مركزية وهي هل الدين أداة في يد الإنسان من جهة ينصهر في تقييداته ومن جهة أخرى يعتبره أداة في يده لتحقيق غايات دنيوية وأخروية… أعتقد أنها أسئلة خارقة تحتاج إلى بحث متأن ومتبصر قد تكون مخرجاته عظيمة الوقع على وعي المسلمين عموما.

التعقيب الرابع: الإشكال كل الاشكال هو في ضياع البوصلة، حيث وعوضا عن التركيز على الأصول والتكفير والنظر وإعادة النظر فيها، فإن غاية المجتهد اليوم أن يقوم بتفسير العالم الذي عاش في الجيل السابق أو حتى عاصره، ليس لأقول بعدم التواصل بين الاجيال، لكن الإشكال كل الإشكال عندما يكون التواصل بين الأجيال قائما على أساس تقديس وتبجيل خاطئين.. وهكذا حدث لحضارتنا حتى غدونا نؤلف في القدامى حسب توصيف أحد المثقفين لظاهرة الاجترار وتجميد الابداع.

التعقيب الخامس: لم يعد الجمع بين عوالم الروح والمادة مجرد جهد يؤديه الإنسان مع نفسه وبنفسه، وقد يصل إليه أولا لا يصل، لكن الأمر اليوم قائم على بحث صلة عالمي المادة والروح معا، الصلة الفعلية أعني كيف يخرج المادي من الروحي وكيف يخرج الروحي من المادي، والروحي هنا بالمدلول المعنوي للأشياء مثل الشعور والعقل. فمن الأبحاث المهمة الصادرة مثلا كتاب يبحث في كيفية نشأة العقل بماهو أمر روحي عن المادة التي تتمثل في الأعصاب أو بقول أحد العلماء (إن كلمة غيرت المخ) وهذا التأصيل العلمي يركز في الإنسان مفهوم الفاعلية الذي أشار إليه بن نبي، فلا نتصور أن علاقة النهضة بالتخلف هي علاقة مثالية خاوية، بقدر ما هي علاقة وطيدة تحكمها أسباب دقيقة، وحول هذا كان مالك بن نبي يدندن، فهل كل الجهد الفكري البنبوي إنما كان منصبا حول مكاشفة الأسباب الدقيقة والعميقة، وما ينتظرنا اليوم هو تعميق كشوفه تلك على ضوء المعارف المستجدة، تماما كما كان بن نبي على صلة بأرقى ما ينتجه الفكري البشري في لحظته… ومن دون ذلك خرط القتاد.

داخل مالك بن نبي
أبريل 2025
د ن ث أرب خ ج س
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
27282930  

الأرشيف

إحصائيات الموقع

167197
اليوم : 79
الأمس : 117
هذا الشهر : 4373
هذا العام : 15909
مشاهدات اليوم : 342
مجموع المشاهدات : 506496
المتواجدون الآن : 2