لماذا نثق في العقل أكثر من الحواس؟

د. محمد عبد النور

تعتبر الحواس مصدر المعرفة الأولية بالعالم، تمنح الإدراك الإنساني صورة أولية عن العالم، كما أنها هي الوسيط الضروري الذي ينقل الشعور بالعالم إلى العقل، إلا أن المفارقة هي أن العقل رغم كونه متلقيا غير مباشر لحقائق العالم، إلا أنه هو الآلة الإنسانية الأكثر أمانة في فهمه وتفسيره من الحواس التي هي الوسيط المباشر بين الإنسان والعالم، فكيف ذلك؟

1- بنية العلاقة بين الحواس والحس المشترك:

بداية يأتي هذا السؤال لعلاج العلاقة بين المعرفة العلمية والحس المشترك، وبيان الفوارق بينهما، باعتبار الأخير هو مصدر المعارف الإنسانية عامة، بما فيها العلمية وغير العلمية، بحيث سيكون التمييز هنا مضاعفا، فإضافة إلى التمييز بين المعرفة العلمية والحس المشترك كما تقدّم، سنقوم بالتمييز بين المعارف العلمية وبقية المعارف التي مصدرها الحواس والحس المشترك أيضا، فلنميز أولا بين الحواس والحس المشترك.

تعتبر الحواس أدوات تنقل محسوساتها بشكل منفصل دون أن تحكم لها أو عليها، فالحواس نواقل صماء لمحسوساتها، تنقلها إلى الحس المشترك ليقوم بالحكم عليها إما عمليا (بارد أو حار)، أو ذوقيا (جميل أو قبيح)، أو أخلاقيا (خير أو شر)، وميزته أنه لكونه مشترك بين الناس فهو يوحد نظرتهم بطريقة غير كسبية، عفويا وطبيعيا، وهو ما يسميه كانط بالمعرفة القبلية، وهي المعرفة التي خصها ديكارت بالشك، من أجل إعادة بنائها بناء عقليا.

فالحواس إذن هي نواقل صماء، أما الحس المشترك هو الذي ينطق بالأحكام، فهو بمثابة القاضي الذي يطلع عن الوقائع والوثائق للوصول إلى حكم ما، فرغم أن الحواس هي مشتركة بين جميع الناس لأنها تقوم على وحدة وراثية تجعل كل فرد بشري يمتلك نواقل عصبية هي العنصر المشترك للحواس تتولى مهمة نقل ما يحدث في العالم إلى الحس المشترك.

حيث الفرضية هنا أن النقل يكون دون غربلة وتمحيص لعدم امتلاك الأدوات الإدراكية الخاصة بذلك، وهو ما يتولاه العقل بوصفه الآلة التي تصوب الحس المشترك إذا ما أخطأ في أحكامه، وهنا يكون كل من العقل والحواس هي الأدوات المسخرة في خدمة الحس المشترك الذي هو الآلة المسؤولة عن التصرف والسلوك في النهاية.

الحس المشترك يتصرف بـ”عفوية غفل” تسمى البداهة وتتميز بالانطباعية والانفعال، فهو من جهة يقوم على السلوك بلا سوابق تصورية وسلوكية، أي بلا نموذج سابق عليه، فهو إذن ينطلق من غرائز وراثية، أو هو برمجة جينية تمر عبر التناسل ضمن النوع الإنساني، وهنا يأتي السؤال عن ما يمكن أن يطال الحس المشترك من أوهام، أو ما يسميها بيكون بـ”أصنام العقل” التي تضلل العامي والعالم، والتي تنتج عن تضليل الحواس للحس المشترك، على أن الحد في فساد أحكام الحس المشترك هو لحظة الميلاد البيولوجي للإنسان، أو حتى قبل ذلك في لحظة الالقاح، أو ما بين اللحظتين لحظة ميلاد الشعور في الجنين بعد الأسابيع الستة الأولى حيث تبدأ الحواس في الظهور، وحيث يتحول الجنين من مضغة صماء إلى كائن شاعر.

فبعد ميلاد الشعور عند الإنسان يصبح عرضة للتأثيرات السيكولوجية التي تحصل للأم، وهو ما يعني أن لحظة صفاء الحس المشترك عند الإنسان تكاد تكون معدومة، وتلك هي الفطرة التي هي التعبير الأشمل عن جملة الغرائز المبرمجة في الجينوم البشري.

والمحصلة هي أن الحس المشترك يخضع لتأثيرات الظروف الطبيعية والتاريخية، فهو بذلك معرض عن الابتعاد عن البرمجة الوراثية الفطرية التي هي الأساس القاعدي المشترك بين البشر، لذلك كان التمييز مهما بين الحس المشترك (le sense commun) والحس الفطري المشترك (le bon sense)، حيث الثاني هو معيار قرب الأول أو بعده عن الأصل الفطري، والأول هو واقع الحس المشترك أيا كان.

أما الآلة المكلفة بقياس القرب من الحس المشترك فهي العقل لما يملكه من قدرة على الاستدلال المنطقي والتجريبي، والحاصل أن العقل يبقى حكما على الحس المشترك لكنه خاضع دائما للحس الفطري المشترك ليكون صدى له، فلا ينحرف عن جادة الاستدلال لئلا يكون حسا مشتركا ثانيا، يبعد عن الحس الفطري المشترك.

على أن العقل الاستدلالي ليس وحده الدليل إلى الحس الفطري المشترك، فوجوديا يعتبر العقل الاستدلالي هو أحد شقي الوجود الإنساني، أما الشق الثاني فهو الحس الفطري المشترك نفسه منصوصا عليه ومكشوفا عنه في اللوح المحفوظ وأم الكتاب، أو النص الإلهي المقدّس، الذي يجلي معاني الفطرة بما هي التكوين الوراثي الأصلي للإنسان ويفصلها تفصيلا.

2- تاريخ انفصال العقل عن الحس المشترك:

إذ وتاريخيا فإن تأسيس العقل واستقلاله عن السحر والأسطورة بداية من هوميروس وصولا إلى أرسطو، اقتضى العودة لعلاج المسألة العملية المتعلقة بالإرادة، وهو ما انتهى بنا إلى تأسيس معيار عملي مباشر تمثل في اجتهادات أفلوطين وتأسيسه للأفلاطونية المحدثة التي اجتهدت في جمع التراث العقلي المتعلق بمسائل المعرفة مع التراث الروحي المتعلق بمسائل الإرادة، فجمع بين أفلاطون وأرسطو وبين التراث الروحي (تراث الأديان السماوية والطبيعية) مؤسسا للتصوف الفلسفي وتديين العقل، كخلاصة ضرورية تضم مقولات المعرفة العقلية إلى مقولات الإرادة الروحية.

ولما كان تحديد معايير الإرادة مستحيلا على العقل الإنساني، اقتضى الحال ظهور تقليد ديني جديد ينطلق من الوضع الجديد وهو اكتمال معايير العقل الإنساني الذي مثله كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو، تقليد ديني يعيد بناء التقاليد الدينية لمرة أخيرة ويختم التلقي الإنساني المباشر عن الإرادة الموجدة، فكان ذلك إقرارا بكفاءة العقل الإنساني في تولي مسائل الدنيا وحدوها، وبيانا لحدود الإرادة الإنسانية وتوجيهها.

فسمي هذا التقليد الديني الجديد في إطار السياق الفلسفي بـ”الحنيفية المحدثة” التي هي الإسلام، ما يعني التقابل بين الأفلاطونية المحدثة كإرث عقلي ذي صبغة دينية وبين الحنيفية المحدثة كإرث ديني ذي صبغة عقلية، ومن ثم التقابل بين أفلوطين محيي التقليد العقلي الأفلاطوني وختما للتقليد العقلي الذي بلغ تمامه أرسطو، وبين النقدية في الفكر الإسلامي التي أحيت تقليد محيي التقليد الإبراهيمي محمد (ص)، فما النقدية في الفكر الإسلامي من منظور الحس المشترك؟

اهتمت المدرسة النقدية في الإسلام بثلاث عناصر أساسية في الحس المشترك، وهي كلها ذات منحى علمي وعملي في آن وهي متراكبة بعضها على بعضها:

1- علاقة العقل بالعالم: الفهم السببي للعالم وعلاقته بالإمكان والضرورة، وأن تكرار الظواهر الطبيعية واستمرارها والتأثير الحاصل بين عناصر الطبيعة يحدث حدوث إمكان وليس حدوث ضرورة، حيث الحس المشترك في الموضوع هو الاعتقاد بأن قوانين الطبيعة تتكرر بشكل حتمي جراء تكررها، فالصحيح هو أن قوانين الطبيعة تتكرر تكرر إمكان لا تكرر ضرورة، ذلك أن التكرار واستمراره الرتيب يؤدي إلى الاعتياد، والاعتياد يؤدي إلى تبلد الذهن والاعتقاد بالضرورة، لذلك فإن تغير الأحوال في الطبيعة والمجتمع التغير العادي وخاصة التغير الطفري – الذي دائما ما يجعل الإنسان يعيد تحيين مفاهيمه عن العالم والمجتمع وتصحيحها- هو الدليل على ما في الطبيعة من إمكان. وهو اجتهاد أبوحامد الغزالي.

2- علاقة اللغة بالعالم: طبيعة المفاهيم العقلية وعلاقتها بالواقع الطبيعي الذي تصفه، وعلاقة التعابير اللغوية بالواقع الذي تصفه تلك التعابير، حيث الحس المشترك في الموضوع هو الاعتقاد بأن ما نعبر به عن الظواهر الموجودة في العالم يطابق بشكل تام تلك الظواهر، فالصحيح هو القول بعدم تطابق المفهوم مع الماصدق، وهو ما يجعل الإنسان يقف عند اعتقاد المقاربة والاجتهاد غير الكامل ولا التام، وعدم التطابق ناتج عن إمكان عدم الإحاطة، الخطأ، والتزييف، والتقادم. وهو اجتهاد ابن تيمية.

3- علاقة الذات بالموضوع الإنساني: طبيعة المفاهيم التاريخية وعلاقتها بالواقع الإنساني الذي تصفه، أو علاقة الإنسان بالواقع الإنساني الذي يعبر عنه، علاقة الإنسان بالواقع الإنساني الذي يصفه، حيث الحس المشترك في الموضوع هو تغلب الذاتية على الموضوعية في الإنسانيات خاصة، فالصحيح هو القول/الاعتقاد بأن وصف الإنسان للواقع الإنساني هو في الأصل متحيز، وأن تجاوز التحيز يتطلب الاعتقاد بأن الكلام في الواقع الإنساني يتطلب اجتهادا في تحقيق الموضوعية وإبعاد الذات عن الموضوع بالابتعاد عن: التحيز والتملق والثقة والوثوق. وهو اجتهاد ابن خلدون.

فإذن قدمت المدرسة النقدية في الفكر الإسلامي -كما أحياها أبويعرب المرزوقي راهنا وناسبا تأسيسها للغزالي وابن تيمية وابن خلدون- أهم المعارف القبلية الضرورية، أو قل الميتافيزيقية المؤسسة للعلم الصحيح، بناء على النزعة الاسمية للحنيفية المحدثة التي تعتبر العلم والعمل مستحيلا التمام، كمبادئ مستمدة من التصور الإسلامي للعلم والعالم.

—————————–
(*)- مداخلة مقدمة للمشاركة في ندوة المعرفة العلمية والمجتمع. من تنظيم قسم علم الاجتماع والديمغرافيا، يوم 06 ديسمبر 2023.
المصادر:
– أنطونيو داماسيو، الشعور بما يحدث: دور الجسد والعاطفة في صنع الوعي، ترجمة: رفيف كامل غدار، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، الطبعة الأولى 2010
– أبويعرب المرزوقي، تجليات الفلسفة العربية: منطق تاريخها من خلال منزلة الكلي، دار الفكر دمشق، الطبعة الأولى 2001

داخل الملتقيات
أبريل 2025
د ن ث أرب خ ج س
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
27282930  

الأرشيف

إحصائيات الموقع

167179
اليوم : 61
الأمس : 117
هذا الشهر : 4355
هذا العام : 15891
مشاهدات اليوم : 249
مجموع المشاهدات : 506403
المتواجدون الآن : 4