قراءة في الفصل الأول من كتاب: “العقل والطيبة في عالم طبيعي” للمؤلف: ريتشارد كارير (*)
وضوح الأفكار، ووضوح طريقة التحقق من الأفكار ثم التأكّد من صحة عملية التحقق من الأفكار، هو مدخل معرفي اختاره ريتشارد كارير المؤرخ والفيلسوف الأمريكي، في محاولته تجديد الكدح الفلسفي، ومن أجل ترسيخ منهج لمعرفة الحقيقة والتمييز بين الصواب والخطأ، وانتهاء إلى تجديد الثقة في الفلسفة ومن أجل أن تكون مصدرا مستقلا للمعرفة، والجديد عند كارير أنه يؤكد أن الإصرار على إعادة ابتعاث الفلسفة ليس من أجل الوصول إلى الحقيقة المجردة بل من أجل تحسين فعلي لحياتنا ومساعدتنا على التحسّن والتطور المستمر لمعارفنا وحياتنا.
ولتحقيق المسعى يبحث كارير العلاقة بين التعبير والواقع، فالتوظيف الأمثل لفعل التفلسف يقتضي من الإنسان التمكّن من اللغة لفهم العبارات، والتمكن من المنهج (النطق) في إسقاط العبارة على الواقع بشكل دقيق وسليم؛ في العرض التالي يحاول الباحث المختص في الفلسفة صلاح الدين الشيخ أحمد إختصار وإيضاح أهم ماجاء في الفصل الأول من كتاب “العقل والطيبة في عالم طبيعي”(1)، ومضمون الملخّص مكابدة عقلية حية في تحري سبيل الوصول إلى الحقيقة المشروطة بتحقيق المنفعة الملموسة من الفلسفة. (تقديم ومراجعة المشرف د. محمد عبد النور)
نص الملخّص (2):
إعداد الباحث: صلاح الدين الشيخ أحمد (**)
ينطلق ريتشارد كارير في كتابه من فصل سماه: كيف نعرف؟ إشارة إلى منهج المعرفة ويستهله بالفلسفة وأهدافها واهتمامها باللغة والمنطق والمنهج.
- الفلسفة: ماذا تعني، ولماذا يجب أن تهمك؟
تعني الفلسفة حب الحكمة، وقد سعى الفلاسفة وراء الحقيقة عن طريق التساؤل والجدل منذ خمس وعشرين قرنا، ولكن علينا الآن الانطلاق في التأمل من نظرية المعرفة “الابستيمولوجيا”، لأنها تجعل ذلك السعي يسير بشروط عقلانية تضبط التمييز بين الصواب والخطأ، وتؤدي بذلك إلى الثقة.
يحدّد الكاتب ثلاث خطوات تتطلبها هذه الابستمولوجيا لكي نستطيع على أساسها الإجابة على الأسئلة التي نطرحها وهي:
- وضوح الأفكار وسلامتها ليسهل التحقق منها.
- وضوح طريقة التحقق من الأفكار.
- التأكد من صحة هذه العملية الإجرائية.
يعتقد ريتشارد أننا نمارس بعضا من هذه الإجراءات لكنها قائمة على نظرية معرفية قد تلقيناها تلقائيا أو بغير تلقائية من بيئتنا وخبرتنا، لكن لا يمكن أن نصل إلى معارف سليمة إذا لم تكن هذه العملية صحيحة، فصحة المعارف يعتمد كليا على صحة المناهج المتبعة وفعاليتها، ومن ذلك تدرك قيمة الفلسفة.
إن نجاعة نظريتنا في المعرفة هي ظهور نتائجها في الواقع، لكن يلزمنا وضع مبادئ تتأسس عليها لكي نقوم بتقييمها على مستوى الواقع.
يلزم في البداية فهم الأفكار بمستوى جيد في معناها اللغوي وضبطها المنطقي، وهذا معيار ضروري للعصمة من الخطأ، ثم حيازة منهج واضح للقدرة على تمحيص الصواب من الخطأ، وتجاهل هذا المعيار يوصل إلى معتقدات فاسدة، فهذه مهارة ينبغي أن نمتلكها للوثوق في أفكارنا وفي تشعّبات الحياة.
يؤكد الكاتب أن الفلسفة قد ساعدته على معرفة أخطائه وأخطاء الآخرين وتصحيحها، وحسنت مستوى التفكير والتعلم لديه، وإدراك ذاته والعالم وحسّنت من حياته، وأهمّ مما سبق جعلته دائم التحسين والتطوير لذاته ورؤيته للعالم، ويشعر بدنوّ الحقيقة إليه.
لذلك فالفلسفة يجب أن تكون دستور حياتنا كالدين، فلها دور رئيس فيها، لكي نؤمن بالحقيقة ونثبتها لا بالمقدس المعجب به، ونؤمن بالمعرفة الواسعة المنفتحة لا بالفكر المتحيز المتعصب الضيّق، وفوق كل ذلك فهي تلزمنا بالدراسة العملية والنقدية لكل ما نتحصل عليه من حيث اللغة والمنطق والمنهج.
- فهم معنى ما نفكر فيه ونقوله:
إن كل عبارة تخبر عن الواقع تعكس عند المستمع توقعات يتخيلها عن واقع تلك العبارة، ومعنى ذلك أن العبارة (مقدمة) ستكون أفضل كلما كنت الكلمات واضحة المعنى، وستوصلنا إلى توقعات (نتيجة) أقرب إلى الواقعية، والعكس صحيح، فعند قولي: “لديّ سيارة” فهي تعني أن صاحبها يجيد السياقة ويعرف كمّية البنزيين التي تتحملها إلى غير ذلك، فإذا كانت هذه التوقعات كاذبة في الواقع فالعبارة المخبرة إذن كاذبة.
نقصد بالتوقعات تلك الأحداث التي حملتها خبرتنا وتجاربنا المباشرة، والعبارة هي القضية التي تخبر عن الواقع، فالمطلوب إذن التمكن في اللغة لفهم أفضل للعبارات، والتمكن في التفكير المنطقي لفهم أفضل للتوقعات.
1 . 2: معنى الكلمات:
يرى المؤلف أن الكلمات هي الإشارات الرمزية التي تصنعها المجتمعات لهدف التواصل، والتشارك في فهم الأفكار، فكلما كانت الكلمات متفقا عليها كلما ساعد على فهم خبرات الآخرين وتصوراتهم، ولكن ليس من السهل الاتفاق في معاني الكلمات المستعملة، ومايساعدنا لفهمها أحيانا هو السياق ونبرة الكلام، ومادام البشر يختلفون في التجارب والتخيلات فستكون توصيلها للآخرين أمرا صعبا.
1 .1 . 2: الإحساس القابل وغير القابل للاختزال:
تتكون الخبرات بطرق متنوعة منها أفكار ومشاعر ومرئيات ومسموعات، وتشكل تلك الخبرات قسمين من الأحاسيس؛ إحداها لا تقبل الاختزال وأخرى تقبل الاختزال، إن خبرتنا عن “قطة” هو نسق من أحاسيس كثيرة ألوانا وأصواتا وروائحا وملامسة وأفكارا ومشاعرا، إن شعورنا بهذه الأحاسيس مفككةً يجعلنا نتخيّل أنماطا جديدة من الأحاسيس فعند سماعنا لمواء قطة، يمكننا أن نتخيل شكلها ولونها إلى غير ذلك، بحيث يمكن أن تتضاعف قدرتنا على التخيل كلما استطعنا ترتيب أنماط جديدة من تلك الأحاسيس، وسنجدها تتجاوز الحصر، بحيث يمكن بصفة مجردة إيصال تلك الأحاسيس إلى شخص لم تكن له خبرة عن قطة من قبل، كما يعتقد كارير، لكن الفكرة الكاملة عن القطة لا يمكن إيصالها، وتوصيل جزء منها ينتج قدرة كبيرة للفكر على التخيل لسبب قوة الذكاء، وهذه هي الفائدة الكبيرة للتعلم.
إن التجريد يزيد من تعقيد الأمور، فلا يمكن مثلا توصيل فكرة اللون الأخضر للذي لم ير الألوان من قبل، فهذا الإحساس غير قابل للاختزال.
2 . 1. 2: المعنى، الواقع، الوهم:
يرى ريتشارد أن من الخطأ الاعتقاد أن الكلمات وأسماء الأشياء ليست من اختراع البشر، فأفلاطون يعتقد بأنها من خاصية غير طبيعية بل ميتافيزيقية، والأسوء من ذلك الاعتقاد بأن عالمنا هو وهم وأن الحقيقة في عالم آخر (عالم المثل)، إن شيئا ما لم يكن ملحوظا ومجرّبا لا يمكن أن يبني خبرة، فلن يكون معقولا أن نتحدث عن عالم وهمي مادامت هناك آثار فيزيائية لأشياء موجودة، فالفرق بين قطة حقيقية وقطة وهمية هو تفحص ظروف ملاحظاتها.
1 .1 .2: التجربة هي ينبوع المعرفة:
لا يمكن امتلاك المعرفة إلا بالتجربة، وبالأخص المعرفة الإدراكية، ولكن المنعكسات الطبيعية التلقائية والعصبية مثل معرفة الرضيع بكيفية المص هي معرفة لا إدراكية، ولا يمكن للبشر توصيل تجارب لا إدراكية، بل مقدمات حولها فقط أي أفكارا، ولا يمكن لمقدمة ما أن تغير من عمل تلقائي عصبي، لأن الجهاز العصبي يتعرف على الأشياء تجاوبا تلقائيا عن طريق تجاربنا، فإن معرفتنا لكيفية ركوب الدراجة لا تجعلنا راكبي لها إلا عن طريق التعلم والتدرّب.
4 .1 .2: التوصل إلى المعنى الواقعي للكلمات:
إن الناس في حديثهم يملكون قاموسا عاميا يسجّل كلماتهم، ويكون استعمالهم لها على أساسا هذا القاموس الاعتيادي، ولكن كثيرا ما تكون معاني الكلمات غامضة، فلذلك نجد الفيلسوف لا يرضى بذلك بل يسعى للدقة في تعريفاته، فيحاول الخروج عن المعتاد بتحليل الكلمات، والمقارنة بين الكلمة ومعناها.
يعتقد كارير أنّ عامة الناس عفويّون في التعامل مع الكلمات فهم لا يحللون معانيها، فكثيرا ما يتمسكون بمعاني خرافية، ليسوا واعين بها، ولهذا على الفلاسفة إتقان اللغة ليستنى لهم دراسة المعتقدات والعادات والتواصل بشكل أفضل، ومساعدة الناس في كيفية استخدام الكلمات بمعانيها الدقيقة.
إن المعنى المناسب لأي كلمة ليس ما نقرأه في المعجم أو ما يشرحه الناس وإنما ما يعنيه واقع الناس، فلأجل تحديد ما تعنيه الكلمات في الواقع يلزم علينا ملاحظة ترابط الكلمة بالمعنى الواقعي، من خلال استقراء واسع فكلما قال الناس هذا (س) بحثنا عن خصائصه الموجودة والعكس صحيح، ومهما قال الناس بأن الكلمة تعنى غير ما لاحظناه في الواقع، فإنّ ما قالوه خرافة لغوية حسب كارير، ولهذا فعلى المفكر السليم أن لا يخلط بين الخرافات التي التصقت بفكرة ما وبين معناها الحقيقي الذي يشير إليه الناس في الواقع والممارسة.
2 .2: معنى العبارات:
تنفعنا الكلمات في ترتيب الجمل وفهم العبارات، وما يأتي يمثل أنواع الجمل:
1 .2 .2: الاشتراطات والإشارات:
“القطة هي سنّورية”، عبارة تعريف تحمل بين طرفيها تكافئا، بمعنى يمكن استخدام إحداها في مكان الآخر، لكن يمكن للعبارة أن تحمل معنيين؛ المعنى الأول رسمي ونسميه “الاشتراط” أي أنه مما تعنيه العبارة بالفعل في واقع الناس، والمعنى الثاني نسميه “الإشارة” فهو معنى نأخذه من المعاجم والقواميس، نحتاج إلى المعنى المعجمي أو الإشارة عند تسمية الأشياء الجديدة، “فالأفضل أن تعمل بما تعنيه الكلمات بالفعل من أن تحاول تغيير معناها”، كما قيل: فأن ترتدي الأحذية أسهل من أن أتبلط الأرض بالجلد.
2 .2 .2: الأوصاف:
“القطط هي ثديات” عبارة تعني الانتماء إلى نمط أكبر، فهي تعني أن كل القطط تنتمي على حسب أحاسيسها إلى الثديات، فالثديات ليست كلها قطط، ولكن كل القطط هي ثديات.
هذه العبارة يمكن أن تكون إشتراطا أو إشارة، ويمكن أيضا أن تحمل تعريفا اختزاليا نسميه “الوصف”، بحيث يمكن للقاموس يعرّف القطة بما هو أكثر من أنها من الثديات فيصفها بأنها “لاحمة”، فصحة هذا التعريف مرتبط بالتجربة، فإذا لم نجد هذا في الواقع حين نشاهد القطط، فهو تعريف خطأ، فهذا يمكّننا من الاتفاق على النمط الموصوف.
بهذا نكون قد وصلنا إلى ثلاثة أنواع من العبارات: الاشتراط الرسمي، الإشارة المعجمية، التعريف الاختزالي.
3 . 2. 2: الآراء:
“القطط لطيفة” عبارة تعني الانتماء إلى نمط لكنه مشروط، فالقطط تنتمي حسب أحاسيسها إلى نمط هو “لطيفة”، فوصف لطيفة مشروط دائما بما يشير إليه فرد، فليس بالضرورة أن القطط لطيفة عند كل الناس فهو لفظ “تقييمي”.
لكن باسخدام “النقد الفني” الذي يشير إلى وضع خصائص للشيء الجذاب أوالقبيح بحيث ينتج هذا اتفاقا قيميّا عند مجموعة من الأفراد، بحيث يصبح توصيل الأوصاف الجمالية أسهل بين الجماعات.
4 .2 .2: الالتزامات الأخلاقية:
“يجب أن لا أعذّب قطتي” عبارة تدل على خاصية تقييمية يسمى “إلتزاما أخلاقيا” يُفترض أن ينطبق على الجميع، فهو ادعاء ضمني أن هناك قيما يمتلكها الجميع لا يمكن نقضها.
5 .2 .2: الرغبات والأوامر:
“أحضر لي قطتي” عبارة تدل على أمر لشخص في تأدية فعل معيّن، فإحضار قطتي هو حصيلة ذلك الأمر؛ “ليت لي قطة” عبارة أخرى تدل على رغبة لتحقيق أمر دون أن يرتبط بشخص، فهذه الاشتراطات هي أوامر ورغبات.
6 .2 .2: الوقائع والفرضيات:
“لديّ قطة” عبارة تحمل ادعاء بامتلاك المتحدث للقطة، إن الادعاء بالقول: لديّ، تحمل خبرات تجعلها تؤكد امتلاكه، كما أن التجارب التي يمكن توقعها هو شيء يسمى قطة، وتحتمل أن المتفحص للقول يملك مقدرة التفحص، فكل ذلك متضمن في معنى العبارة.
إن ما تشير إليه كلمات مثل حقيقة وحقيقي هو أن الافتراض يؤكده الواقع فعلا بتحسّسه وتجريبيه، فكل أنواع القضايا إذن يمكن أن توصف بالافتراضات لأنها تحمل توقعات، مثل قولنا: القطط هي سنوريات بالتعريف المعجمي (الإشارة) فسيكون الادعاء حقيقيا وصحيحا إذا ثبت الادعاء في الواقع فعلا، ونفس الملاحظة نحملها على الأوصاف والآراء والالتزامات والرغبات والأوامر، فالعبارات التي نقولها إن كانت فعلا تؤكدها التجربة فهي صحيحة وحقيقية.
7 .2 .2: طبيعة التناقض:
“القطط لاحمة والقطط عاشبة” هي عبارة تحمل تناقضا، فأحد الإدعاءين على الأقل خاطئ، فلا يمكن تجربة قطة لاحمة وعاشبة معا، فلذلك فالعبارة خاطئة كلها لأنها تفشل عن التحقق في الواقع.
8 .2 .2: الاعتقاد المبرّر طبيعيا:
ينطلق كارير من نقد ما طرحه الفيلسوف ألفين بلانتينغا (3) حول ما يتعلق بموضوع هذا العنوان في قضيتين: إمكانية الحصول على معتقدات مبررة دون أدلة، وعدم إمكانية امتلاك معتقدات مبررة بالنسبة للطبيعيين.
يعتقد ألفين أن المرأ لا يحتاج لأي أدلة كي يؤمن بالمسيحية، ويرى بإمكانية الاعتقاد بالماضي وما يحصل فيه وحتى بالأشياء المادية من دون دليل، وهذا يناقض موقفنا، بحيث لو نسأل أناسا عن سببب إيمانهم بالماضي فسيحدوثننا عن خبراتهم الطويلة التي هي أساس اعتقادهم؛ إن ذكرياتنا التي تقوم على الأحداث الماضية علينا دليل الاعتقاد بالماضي، وقد أكّد العلماء والمؤرخون على أهمية أن تكون الذكريات وحدها أدلة، وكذلك الحال مع الأشياء المادية فأدلة وجودها هي خبرتنا المتعلقة بأمور فيزيائية كالكتلة والصلابة واللون، وبالتالي يؤكد ريتشارد بقوله: لايوجد شيء يمكن أن نجده بحيث نؤمن به دون دليل، فلا يوجد شيء نؤمن به دون دليل إلا إذا كان على سبيل الرغبة أو الهوى، ولا يمكن الاعتقاد بوجود كائن فائق، فليس لدينا طريقة لتمييز وجوده من عدمه، وليس لدينا أدلة لتأكيد الاعتقاد.
إن القضايا الأساسية هي منطلق تفكيرنا والتي تقوم عليها كل معارفنا، فلابد أن تكون هذه القضايا قائمة على دليل حسي مباشر، بحيث لا يقبل الخطأ في التجربة الحسية لهذه القضايا الأساسية لأن ما ينتج عنها من اعتقادات تحمل الصدق أوالكذب من خلال ارتباطها بالقضية الأساسية، فلا تكون قضية أساسية إذا بان خطأها.
- المنهج:
إن المنهج المفصل الواضح ضروري للوصول إلى الحقيقة، إن العديد من القضايا تحمل توقعات مختلفة نحتاج إلى اختبارها بأكثر من طريقة، كما أن الخبرات التي نمتلكها تحتاج إلى تفسير بطرق مختلفة، للتحقق منها، وهناك مناهج مختلفة للتحقق من القضايا والخبرات.
يعتقد كارير بعدم إمكانية أي منهج أن يوصلنا إلى اليقين المطلق، حتى ولو كان منهجا رياضيا، لأنه لن يتاح ذلك حتى للإله، ولكن المطلوب هو رفع مستوى اليقين للاقتناع أكثر بمنهج مجرب مثبت.
هذه المناهج هي: منهج العقل، المنهج العلمي التجريبي، منهج الخبرة الشخصية، المنهج النقدي التاريخي، منهج شهداء الخبرة، منهج الاستخلاص المقبول. (سيأتي شرحها لاحقا).
إن مستوى اليقين يتناقص كلما تقدمنا في سلم المناهج تنازليا، ولكن كلما كانت المعلومات أكبر كان كان سلم اليقين حول الاستنتاج أقوى، “فالرياضيات إنما هي علم مكتمل، والعلم إنما هو خبرة مكتملة، والخبرة تاريخ مكتمل، والتاريخ انتباه مكتمل للخبراء”، أما الاستخلاص المعقول فهو المنهج الباقي حين لا نملك شيئا مما سبق.
حين نفقد الطرق المعرفية السابقة التي توصل إلى اليقين سندخل في التخمين المجرد، ففي غياب اليقين غياب للمعرفة، أما عن الاعتقاد بالإيمان الخالص سيجعلك مريحا ولكن لا يؤكد قضية، لذلك فهو ليس معرفة، فالمعرفة الحقيقية هي التي تحمل الدقة والجودة والتعمق والتكرار في تطبيق المنهج.
1 .3: إيجاد المنهج السليم:
إن المنهج الدقيق الذي يوصلنا إلى الحقيقة يحمل صفتين، وعلى أساسهما يمكن اختبار المنهج الأفضل وهما: الأول: النجاح في التوقعات بحيث لو استخدمنا منهجا غير دقيق فإن الفشل في التوقع سيوصلنا إلى الإحباط، أما الثاني فهو: التراكم المتقارب للنتائج المتناسقة، بحيث لو استخدمنا منهجا غير دقيق فإننا سنتوصل إلى نتائج متباعدة وغير متناسقة في قضية ما إذا بحثناها من زوايا مختلفة.
فأي المناهج ثبت نجاحه؟
2 .3: منهج العقل:
بالنظر إلى صفتي المنهج الدقيق التي ذكرناهما من قبل سنجد المنهج المنطقي-الرياضي أقوى المناهج لنتائجه الواسعة وتناسقها، فقد دفع العلم لتحقيق تقدّم كبير في وقت سريع، وتكمن بساطته ويقينه في التحقق المباشر من قضاياه على مستوى العقل دون الواقع والتجربة.
3 .3: منهج العلم:
هو منهج أقل درجة من الأول، ويحمل طرقا تجريبية معقدة، فقضاياه تتطلب جهدا وكلفة وعناية وتكرارا، لاتصاله بالواقع المعقّد، لكن ستكون نتائجه أدق إذا احترمت كل هذه المعايير، فقد أوصل العلم إلى نجاحات واسعة.
4 .3: منهج الخبرة:
تحتل خبراتنا المركز الثالث، فهي نابعة من تجاربنا الخاصة، وبالفعل فما ينتج من خبرتنا له قيمة، لكن لو تناقضت مع إثبات منطقي أو علمي فلا مجال للاعتقاد بها، وبالعكس لو اختلفت مع ادعاء تاريخي، أو شهادة خبير أو استخلاص غير مثبت فلا مجال لترك الخبرة، ذلك لأن التاريخ يمكن أن يخطئ والخبير يمكن أن يخطئ عمدا أو بغير عمد، ولكن لا يمكن أن أترك خبرتي تجعلني مخطئا، ولكن من الأفضل أن تفحص خبرتنا الشخصية المباشرة والبسيطة بميزان العقل والعلم لتكون أوثق.
5 .3: منهج التاريخ:
ضعف يقين المنهج النقدي-التاريخي متأت من أنه يفتقر إلى المشاهدة المباشرة للقضايا، لكن لو اختبرنا بهذا المنهج تقارير عن قضية ماضية استطعنا فرزها من الأقوى قبولا للصدق إلى الأقل، فكلما كان يحمل صفتي المنهج الدقيق كلما كان أضبط النتائج وأشد انتظاما.
6 .3: منهج شهداء الخبرة:
إن منهج شهادة الخبراء هو أقل درجة من المناهج السابقة لأنه أقل اهتماما بالتحليل، لكن الخبراء يمتلكون تجربة أكثر دقة وثقة في تخصصاتهم مما لدى غير الخبراء، وهو مشتق من دقة المناهج السابقة، ودقة النتائج أكثر تتأسس على الضوابط المستخدمة والاتفاق بين الخبراء، لكن حتى الأشد ثقة من شهادة الخبرة لا تكون أقوى من شهادة المنطق والرياضيات والعلم والخبرة الشخصية والتاريخ.
7 .3: منهج الاستخلاص المقبول:
يقوم هذا المنهج على أساس التعميم لما نستخلصه من بعض الحالات المتشابهة من خلال الاستقراء غير المختبر، وقدر كبير من الأدلة تشير إلى صواب الاستخلاص، ولكن لا يمكن أن نتيقن به لو ناقضتها نتائج المناهج السابقة المتفوقة.
8 .3: منهج الإيمان الخالص:
يُعنى هذا المنهج بالاعتقادات الموثوق فيها والتي تتأسس على التناقل والتقليد، دون طلب البرهان، وهو غير مقبول عند الطبيعيين؛ لأن التجربة تعلمنا أن الأفكار التي ليس لها أساس عادة ما تكون خاطئة، والاعتقادات لاتهدف إلى الحقيقة غالبا، والتاريخ يثبت أن كثيرا من الخرافات والاعتقادات أصبحت أساطير، وأن الإيمان دون دليل تتفوق فيه الخرافات على الأفكار الصحيحة، وبالتالي يسهل على الإيمان أن يكون باطلا، وهذا هو سببب إنكار هذا المنهج.
9 .3: ملاحظات نهائية حول المنهج:
يختم كارير هذا الفصل بالتأكيد على أن نعتبر أن المناهج التي دافع عنها من قبل تتفوق على الاعتقاد والتقليد غير المؤكَّدَين، وعلى العكس فإن سبب تفوق المناهج الأخرى هو استخدام العقل والتفكير العميق، واستخدام الأدلة كوسيلة للوصول إلى الحقيقة، فالبرهنة هي السبيل الوحيد للحقيقة، ومع ذلك لا ينبغي الحسم فقد نكون دوما على خطأ.
———————————
هوامش:
(*)- عنوان الكتاب: “ريتشارد كارير، العقل والطيبة في عالم طبيعي: عرض ودفاع عن فلسفة دون غيبيات”، ترجمة: حيدر عبد الواحد راشد، دار سطور للنشر والتوزيع، بغداد، الطبعة الأولى 2017
العنوان باللغة الأصلية: (Sense and goodness in a natural world: Richard Carrier)
(**)- ماستر في الفلسفة من جامعة الجزائر2
(1)- الفصل الأول من الكتاب بعنوان: كيف نعرف؟ يقع بين الصفحات (31 – 90)
(2)- نص هذا الملخّص من مخرجات “منتدى مسالك المعرفة” الذي يعنى بمتابعة التطورات الحاصلة على مستوى الفكر العلمي الإنساني، بالتعريف بها ونشرها أولا ثم محاولة استثمارها داخل المنظومة الثقافية والحضارية وطنيا وإقليميا وكونيا. يدير المنتدى ويشرف عليه الدكتور محمد عبد النور.
شملت الملخّصات المقدمة عدّة كتب مرجعية في الفكر المنظوماتي والحيوي حديثة الصدور وكذا حديثة الترجمة، سنعرض لترجمات بعض من فصولها تباعا في ركن “مسالك المعرفة” من هذا الموقع.
(3)- هو فيلسوف مسيحي أمريكي، ولد في 1932، اهتم بفلسفة الدين والميتافيزيقا ونظرية المعرفة، من كتبه: الإيمان المسيحي المبرر.