متى وكيف يمكن أن نبدأ الحديث عن التنمية وخطط التقدّم؟

تخطيط البناء وهندسته هو أساس العمران البشري السوي، ويبدو أنها مهمة سهلة نسبيا عندما تتوفر عناصر البناء: أ- التحكم في المادة الخام، ب- حيازة المكان، ج- استغلال الزمان، د- توفر الإرادة؛ لكني سأجادل بأن توفرها لا يعني بالضرورة أن الطريق خلو ومتاحة، فالمادة الخام قد تستنزف والمكان قد يكون تركة من أنقاض والزمن قد يهدر والإرادة قد تعوقها إرادة مضادة، لذلك فالانخراط في تخطيط وهندسة العمران هي مرحلة متقدّمة جدا من الكدح في سبيل النهوض والتقدّم، إذ تسبقها أولويات قصوى هي:
1- تجاوز استنزاف الزمن، بما هو أيام وليال تمر على أجيال الدول والمجتمعات، وعلاجه سلامة التفكير، وسلامة التفكير وضوح غاياته، وتوفر أدواته: وهي هنا الذهنية الرياضية التي لا احتمال فيها: 1+1=2.
2- تنقية المكان من الأنقاض، بما هو إزالة لكل تركات الماضي التي لا وضوح في غاياتها، ولا دقة في قياس منجزاتها، سواء أكان ذلك من عمران القيم المادية أو من عمران القيم المعنوية. وذلك بإصلاح ما أمكن استعادة وضوح غاياته ودقة معايير إنجازه.
3- تحقيق الغلبة على الإرادة المضادة للبناء، التي هي بالضرورة إرادة هدم وتعويق عن التنمية، والإرادة المضادة تسعى لإعاقة الإرادات وإفساد الإمكانات.
4- صيانة المواد الخام، الحرص على استغلال كل الموارد المتاحة، وهذا يشترط التحرير من الإرادة المضادة التي تشغل عن الاستثمار الجيد للموارد وكذا تهدرها إن كانت في مركز القرار.
وتحقيق كل ذلك يتطلب إرادة وقدرة أهليين، فهما شرط شروط التحرر والتحرير، الإرادة الصادقة لخدمة الأهلي والإنساني، والقدرة بما هي خبرة ميدانية وكفاءة علمية، وكلاهما يقتضي تكوينا مستمرا وحرصا حثيثا لتحصيلهما.
والمعلوم أن العنصران الأولان متاحان لكونهما يشترطان تخطي عوائق ذاتية تعود إلى نشأة الإنسان وتنشئته، ولا يتعلق الأمر بأكثر من استعادته طبيعته الفطرية الأولى، حيث استنزاف الزمن أو تضيع الأوقات مردّه إلى تشوش في الأنفس والأذهان، أو قل تركيب مشوه أو غير سليم في النظر إلى النفس وإلى العالم، ما يقتضي تصحيحهما، والسبيل إلى ذلك هو تفكيك التركيب المشوش والمشوه للنفس، والبدء من نقطة الصفر أو من الحقائق البسيطة وثم العمل بعد ذلك على بناء تركيب سليم للأنفس والأذهان قوامه الرئيس: 1- وضوح التفكير. 2- نجاعة الوسائل.
وضوح التفكير يعني وضوح الغاية ووضح الطريق إليها، زد على ذلك انتقاء الوسائل المثلى المؤدية إلى الغاية، فمن الناحية الاقتصادية مثلا، الغاية هي تحقيق الاكتفاء الذاتي من خلال الإنتاج واستغلال الموارد الطبيعية المتاحة، وتوزيعها وتوزيع ريعها بأعدل الطرق على المواطنين، بما يحقق إشباعا الحاجات ورضى بالتوزيع، ويؤدي الإشباع والرضى إلى الثقة بين المواطن والمسير، وذلك يؤدي إلى التلاحم. وتحقق كل ذلك لابد أن يكون بترسانة من الوسائل أهمها جرد الموارد الطبيعية وتقدير عائدها النفعي كبضائع للاستهلاك أو عائدات مادية، وكذا اختيار أفضل الآلات والطرق التي بها بتم تحصيل الموارد تلك خاما أو مصنّعة، انتهاء إلى إتقان صناعتها من أول خطوة في الحقل الطبيعي المتواجدة فيه وصولا إلى المتجر الذي تعرض فيه، أخذا في ذلك معايير السلامة والجودة القصوى ما يؤهل كل منتوج وطني ليستحيل إلى التصدير الدولي وزيادة الطلب عليه.
ولما يكون الغايات واضحة والطرق الموصلة إليه فاعلة يصبح تحقيق العنصر الثاني تحصيل حاصل، وهو تصفية كل التراكمات السابقة التي تفتقد الغاية، إذ كثير من المهن أو المؤسسات أو المعدات لا طائل من ورائها تعد فقط تلبية لرغبة طفيلية لمسؤول أو تعتمد من أجل امتصاص الأموال العامة للصالح الشخصي، أو حتى مما يؤسس لغاية معلومة فيحصل تضييع تلك الغاية بسبب معوقات وهمية قد يختلقها أصحاب المصالح والمسؤولين لغايات في الأنفس، كل ذلك يصبح في عرف المنطق الجديد: 1- وضوح الغايات، 2- نجاعة الوسائل، من المعطلات التي لابد من القضاء عليها إن تعذر إصلاحها وإعادة توجيهها وفق المنطق الجديد، فما أكثر المشاريع الوهمية التي تتم مباركتها على أعلى المستويات وتنفق فيها الأموال الطائلة والجهود اللوجستية الكبيرة بل وتعطل أحيانا من أجلها المصالح الحيوية للناس أو لفئات معينة بينهما لا عائد نفعي من ورائها، كل ذلك يعود إلى غياب منطق الوضوح التام والفاعلية القصوى.
وعليه فإن العنصر الثالث مرتبط أيما ارتباط بالثاني، ذلك أن اجتثاث التركة القديمة سيجابه بمقاومة القاعدة الإنسانية التي تسنده، وحتى تتحقق الغلبة للمنطق الجديد لابد أن يستحيل التنافس بين القديم والجديد تنافس مبادئ وأفكار لا تنافس أشخاص، لأنه إذا استحال التنافس إلى عراك أشخاص فإن المنطق القديم حتما سينتصر لكونه جر المنطق الجديد إلى ملعبه المفضل، بينما لابد أن يكون الصراع صراع أفكار ومبادئ، وعليه فإن النباهة هنا مطلوبة جدا، وهنا يأتي منطق التنازل والتدرج ليعمل عمله، فقد ندع المستفيد من المنطق القديم يفرض بعض شروطه ويتم التنازل عن تحقيق بعض الغايات تأجيلا لا نسيانا لها، لأن الجلوس على طاولة التفاوض بمجرده هو ضرب من المكسب الذي يتيح حرية في الحركة والمناورة رغم ما قد يبدو من تراجع، وذلك أساس استراتيجية المطاولة التي تقابلها المناجزة حين الإمكان في مراحل متقدمة.
أما العنصر الرابع فهو مرتبط بالأول وتحصيل حاصل عنه، فوضوح الغاية ونجاعة الوسيلة سيفرض القضاء على كل سوء استغلال واستخدام للموارد الخام، وذلك ما يعززه رسوخ المنطق القديم المبني على المراكمة غير الفاعلة للمواد الخام والثروات من جهة، وتبذيرها وإتاحتها للأجنبي ليتصرف فيها وكأنها ملك له، وهو ما يقتضي بالضرورة حيازة الكفاءات البشرية القادرة على تصريف الأمور وسياستها بالفاعلية القصوى التي تتطلب أول ما تتطلب الاقتدار الخبروي والعلمي، وهو ما يقتضي بالدرجة الإرادة المحصّنة من الانسياق وراء القديم السائد من منطق وقيم.
أخيرا إن تحقق العنصر الرابع والأخير هو الغاية من كل ما يمكن أن يحصل من تحرر وتحرير، وحصوله سيكون المؤشر على السير في طريق التعافي التام، وأن العلاج المتبع كان علاجا سليما، وذلك ما حاولت بيانه في هذه المقالة، والله الموفق
داخل المقالات
أبريل 2025
د ن ث أرب خ ج س
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
27282930  

الأرشيف

إحصائيات الموقع

167182
اليوم : 64
الأمس : 117
هذا الشهر : 4358
هذا العام : 15894
مشاهدات اليوم : 266
مجموع المشاهدات : 506420
المتواجدون الآن : 2