بداية لابد من الإشارة إلى أن المقصود بالتفلسف لا يقتصر على أقسام الفلسفة بقدر ما هو محاولة في تفسير وإضفاء المعنى على كل مجالات التخصص العلمية، بمعنى محاولة أن نقرأ المعطى التخصصي (سواء كان معلومة أو فكرة أو مفهوم أو نظرية أو منهج أو قاعدة) بمنظورنا الخاص، بأسئلتنا الخاصة النابعة من الواقع اليومي للإنسان فنسعى للربط بين الحياة التخصصية والحياة الخاصة، بحيث يتمكن الإنسان في الأخير من تحويل المضامين التخصصية الصماء إلى حقيقة تحمل معنىً نتحمس لإدراك كنهه وجوهره فنقبل عليه، ولعل التمكن من تحقيق تلك الصلة من أهم ما يدفع الإنسان للإقبال على التعلم والتكوين في أي مجال كان: اجتماعيات شرعيات طبيعيات تكنولوجيا… إلخ، ومنه فإن جدوى التفلسف اليوم هي أوثق ارتباطا بمضامين علمية وليس بمجرد تفكير منطقي صرف، فحتى المتخصص في الفلسفة يفرض عليه اليوم النفاذ إلى مضامين علمية متخصصة حتى يمكنه التفلسف بالشكل الأتم. فما هي الشروط العامة للتفلسف والتي يمكن أن يحصلها كل إنسان؟
أولا للتفلسف شرطان ومظهران، هما كما يلي:
الشرطان: أ- الارتباط العضوي بين اللغة و الفكر، ب- التفلسف يقتضي حرية التفكير.
المظهران: أ- التفلسف ليس وحي خاطر، ب- التفلسف ليس أيديولوجيا.
أولا: شرطا التفلسف:
أ- الارتباط العضوي بين اللغة و الفكر: إن سلامة اللغة تعبر عن كفاءة مبدئية في التفكير الفلسفي، ذلك أن امتلاك ناصية اللغة يعني حيازة منطق في التفكير وليس مجرّد حماس أمّي، فالتقيد بقواعد النحو يعني ضبط المنطق الفطري وتسييجه وتوجيهه بمعايير مساعدة على التفكير ومحصنة من الخطأ والخطل المعرفي والفكري.
إنه وبدون التحكم في اللغة سوف نكون دائما تابعين ومرتهنين نتابع وربما لدينا أحكام واعتراضات لكن بدون القدرة على الإفصاح عنها وتبليغها بالبلاغة المطلوبة.
وفضلا عن ذلك في حال عدم تماسك ملكة اللغة عند الإنسان سيتعذر احتشاد المعاني في ذهنه، بحيث تبقى مجرد رغبات غير مستدل عليها، فلا يجد قدرة على تحويلها إلى كلمات جمل وفقرات وبالتالي فاقد للقدرة على إنتاج النصوص، وفقدان القدرة على إنتاج النصوص يعني إعاقة مزمنة لا يشفي منها إلا التدرّب على القراءة الواسعة.
إذن احتشاد المعاني في الذهن يحصل بفضل التحكم في اللغة بما يعني أن التحكم في اللغة هو مفتاح إنتاج النصوص وإنتاج النصوص هو الذي يجعل الإنسان مفكرا وفيلسوفا.
ب- التفلسف يقتضي حرية في التفكير: فمهما كان تحصيل المعايير مطلوب للتمكن فإن الخروج عنها مطلوب أيضا للإبداع، مثلما يفرض على الشاعر أن يخرق بعض القواعد اللغوية لتتناسب مع الوزن الشعري والقافية.
فإذا كان التقيد بالمعايير النحوية أو المنهجية مثلا أمر متفق عليه فإن خرقها يحسنه المجتهدون، فمن السهل التقيد بالقواعد بعد إتقانها لكن خرقها يقتضي امتلاك حجة من أجل خرقها، وامتلاك حجة يجب أن يتقبّلها الجميع، وهنا تقع المسؤولية على المتفلسف، وهي المسؤولية التي تعبر عن قدرة قد تصل به ليس إلى خرق استثنائي لبعض القواعد إنما إلى درجة قلب نموذج التفكير السائد برمته وذلك ما يسمى بالثورة الإبستمولوجية.
ثانيا: مظهرا التفلسف:
أ- التفلسف ليس وحي خاطر: إنما استدلال منطقي متماسك، ولا منطق بدون شاهد تدويني فلا فكر أو تفلسف أو علم بالمشافهة، المشافهة لا تقيم علما ولا تعبر عنه هي فقط وسيلة أو أداة، فالعلم يكون بالتدوين، التدوين تحمل للمسؤولية الأخلاقية في العلم، فما قيل وما لم يقل يبقى مدوّنا ويتحمل مسؤوليته كاتبه، فالمحاججة الإعلامية والسياسية شيء والمحاججة العلمية شيء مختلف تماما، ممارسة السياسة ارتجال وحزم بديهي (قد تجدي فيه المشافهة) وممارسة العلم عزم منهجي (لابد فيه من التدوين)، والمعلوم أن البديهيات قد تنقضها حقائق العلم.
ب- التفلسف ليس أيديولوجيا: تبريرية، إنما بحث عن الحقيقة النهائية للأشياء والتي تقتضي بدورها فقها بالأصول، والأيديولوجيا غالبا ما تكون تفسيرا آنيا وظرفيا لبعض الحقائق التي ترتبط بمصالح مجموعة معينة والتي لا تكترث بالتماسك المنطقي للأشياء، إنما هدفها هو تحقيق غاية ظرفية ضمن إطار بشري ضيق، بينما التفلسف يسعى بالقدر المستطاع إلى توسيع أفق الرؤية وتحقيق غايات قصدية ضمن أوسع الأطر البشرية.
أخيرا، إن حيازة مقومات التفلسف ليست بالعملية المستحيلة كما أنها ليست أمورا غامضة، بقدر ما أن التفلسف لن يكون كذلك إلا ضمن الوضوح المنطقي والمنهجي الذي يمكن أن يمتلك أسسه أي إنسان، فضلا عن الباحث الذي حاز تكوينا ابتدائيا في أواليات الفلسفة سواء من حيث الموضوعات أو من حيث طريقة علاجها فلسفيا.
——————————————————–
(1)- المقال هو مداخلة مقدّمة إلى ندوة علمية بعنوان: أهمية الابداع الرمزي والانتاج الثقافي في المجتمع. من تنظيم قسم علم الاجتماع بجامعة غرداية (كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية المدرّج 01 القطب الجامعي 03) يوم 2019/02/19