تأملات بنَّبَوية، الحلقة الثانية. مع خمس تعقيبات.

لا يتأخر الإنسان في السعي إلى الخروج من عزلته الوجودية للتكيف مجددا مع بيئته وذلك باستعمال إما (البناء الفكري) أو (الوسائل المادية) وأن واسطته إلى ذلك في كلا الحالتين هو “التجربة” التي تملأ عالمه الزماني والمكاني، بمعنى أن التجربة معطى أصلي وطبيعي وبوصفها الرابط الوجودي بين الإنسان والطبيعة (المادية والروحية) التي يوجد فيها، ونعني بالتجربة هنا تحديدا “الأثر” الحتمي الذي تتركه الطبيعة في الإنسان بعد مرور الزمن.

ففي النهاية نكون أمام ثلاث عناصر مكونة للعالم الذي نحن فيه: أ-عالم الأشياء: أي الوجود المادي الأصم، عالم الأشخاص: أي التجربة الاجتماعية التفاعلية، ب- عالم الأفكار: أي المعنى الروحي المتسامي والحيوي، وأيا كان فإن العناصر التكوينية الثلاث هي التي تعيد إدماج الإنسان مع بيئته بعد الاعتزال المفترض، حيث تبدأ أهمية العنصر الفكري (المعنى) في الظهور بفضل الميزة الأساسية التي تسم “النشاط الإنساني” داخل الجماعة وهي تقسيم العمل: التخصص، القواعد، الأصول، بما هي شروط الاندماج في الجماعة، لذلك فإن وظيفة العائلة والمدرسة أساسا هي إدماج الفرد في الجماعة وإخراجه من عزلته، فالمؤسستان باعتبارهما مساعدة اجتماعية تسير الاندماج وتختصره.

ومن خلال التجربة يمتلك الإنسان الوسيلة التي بها يتكيف مع متطلبات الحياة، وبهذا تشكل الوسائل المادية مع الإنسان العنصران اللذان يتلاحمان عبر الزمن ليجسدا في النهاية النموذج الثقافي المجرد، لكن دائرة التكيف لا تتم إلا بسؤال الغاية من النشاط الإنساني (كيف؟ ولماذا؟) الذي يضفي المعنى على الوجود كله، فالنقلة الأخيرة هي التي تجعل الإنسان يتكيف مع طبيعة النظام الثقافي وتمنحه إمكانية مساءلته ونقده، وبالتالي تفتح آفاق الوعي بالوجود والتصرف وفقا للمعطيات.

فيمكن أن نمثل للمراحل الثلاث في الحياة الاجتماعية للطفل بعصى موسى التي جاء ذكرها في القرآن انطلاقا من الخطاب الإلهي لموسى {وما تلك بيمينك يا موسى}، فجاء الرد: هي عصاي (أتوكأ عليها “استعمال أصم”- أهش بها “استعمال تفاعلي”- مآرب أخرى “غايات مفترضة”)، ولعلها تمثل بذلك جماع التجربة الموسوية في جانبها الوجودي بشقيه الأرضي (الغايتان الأوليان) والميتافيزيقي (الغاية الثالثة)، الأمر الذي يجعل من “العصا” محورا رمزي-وجودي عند موسى بوصفها الرابطة بين العالمين الطبيعي و ما بعده، فدور العصا إذن كان إدماج موسى في بيئته الطبيعية فضلا عن كونها الوسيلة التي تجلى فيها العالم الروحي عند تحولها ثعبان في مناسبتين وكونها العلة الرمزية التي فرقت البحر، فلعل موسى بجوابه عن المآرب الأخرى كان مدركا تماما لأبعاد السؤال الإلهي له عن العصا فأقحم البعد المجهول (عالم المعنى): مآرب أخرى.

فاستصحاب موسى للعصا لها دلالة وجودية هامة بالقياس إلى المعجزات الحسية التي صاحبتها وارتبطت بها، ولعل في ذلك إشارة إلى المستوى الروحي الذي بلغته الإنسانية زمن الحضارة الفرعونية، وأن الأمر بلغ عند الأميين العرب ذروته عندما تحول الإعجاز إلى رمزي محض.

 إن الطفل حسب بن نبي يبدأ اكتشاف عالم الأشياء من أصابعه حيث الرابطة هي غذائية، فهو يحمل كل شيء إلى فمه تلقائيا، ذلك أن الأشياء كلها هي بالنسبة إليه غذاء، والتغذية بمعناها العام، ذلك أن الأشياء هي بالنسبة للإنسان عموما تحقق إشباعا ماديا.

ثم يبدأ اكتشاف عالم الأشخاص من وجه أمه حيث تتأسس الرابطة العاطفية، فعالم الأشخاص يتأسس أولا على تفاعل وجداني-عاطفي، حيث العاطفة هي السمة الملازمة للتفاعلات الإنسانية، وهي أيضا حاجة إنسانية بحاجة إلى إشباع، وهي بالتأكيد أسمى من الأولى.

وأخيرا عالم الأفكار الذي يصل إليه الإنسان من خلال تكوين روابط مع المفاهيم العقلية المجردة، فحين يحدث الربط يكون الفرد قد اتصل لأول مرة بعالم يفارق طبيعة العالَمين المتقدّمين، فإذا كان الأول حسي مباشر (تفاعل مع جماد) والثاني تفاعلي عصبي (تفاعل مع عاقل)، فإن الثالث هو نشاط تصوري (تفاعل مع الأفكار) بوصفه حيوية تجريدية تنتهي إلى شعور برابطة شخصية مع مثل وشعور غريزي غامض.

ويقرر بن نبي أن اقتحام العالم الثالث، عالم المعنى ليس بالأمر الهين، وهي مرحلة هي غالبا مأساوية في حياة الإنسان، وذلك لغفلة الأسرة والمدرسة عن الإحباط الذي ينتاب الطفل عند فشله في اقتحام عالم المعنى (عالم الأفكار) بعد عدم تمكنه مثلا من حل مسألة رياضية، لذلك كان اكتشاف هذا العالم نقلة نوعية في الحياة النفسية للإنسان، والذي ينعكس أيضا حتى على تكوينه الجسدي، فيلاحظ بن نبي تحول وجوه المتعلمين الكبار من وميضها المتوحش إلى بريق التأنس الذي يكشف عن حضور الفكرة، أو حضور المعنى الذي يملأ الإنسان فتنطبق الشفتان مع بعضهما ويترابط الفكان معا ليغلق الفم الذي كان مفتوحا لتلقف أو مص أي شيء!

هكذا فإن لكل طفل لحظة أرخميدية تحصل في النصف الثاني عن عقده الأول، عندما ينجح في فتح باب المعنى فجأة ودون مساعدة أحد، إنها تجربة فريدة تحدث عند الطفل بعيدا عن لحاظ الأسر والمدارس رغم حساسية اللحظة وكونها حاسمة في الميلاد الفكري ضمن المحيط الثقافي.

لذلك فإن بن نبي بهذا التحليل يحث على مراقبة ورصد تلك اللحظة عند الطفل ومحاولة استيلادها عنده، لأنها لحظة انبجاس الحس النبوي في الإنسان، بما هو تجل لعالم الأفكار لديه كحدث جد مميز لابد أن يحفل به التربويون خاصة منهم المهتمون بقياس العلاقات الجسدية-النفسية.

فيبدو بن نبي هنا مسلّما تماما بارتباط العالمين الفكري والجسدي في علاقة تأثير مباشرة، ولا يتوقف الأمر هنا، ذلك أن إيراد بن نبي لكل هذه التفصيلات التربوية كان بغرض التوجيه والحث على العناية بلحظة الانقلابة النفسية التي هي لحظة استكشاف البعد الفكري التأملي، بما هو انبثاق لعالم المعنى وبوصفه حدث متميز لابد أن يحفل به التربويون، خاصة منهم المهتمون بـ”قياس” العلاقات النفسية-الجسدية، وهنا تحضر تحليلات ألكسيس كاريل الذي دقق أيما تدقيق في موضوع فردية الإنسان الجسدية والنفسية، وذلك عندما حاول تفكيك بنية الإنسان الكلية (النفس والجسد) وإبراز خصوصية الإنسان الفرد وتفرّده عن بقية أفراد الجماعة الإنسانية…

إن غلبة أحد العوالم في مجتمع ما على العالمين الآخرين يؤثر على الفرد وخياراته التي يبنيها على العالم المهيمن، فلا يمكن مثلا أن يحدث نزوع إلى المجال البحثي والفكري لولا أن يكون المجتمع أميل إلى عالم الأفكار، وإذا حصل شذوذ عن القاعدة فإن الميول إلى مجال البحث والأفكار ينحرف إلى غايات تنتمي بالضرورة إلى أحد العالمين الآخرين (الأشخاص أو الأشياء) التي توفر الدوافع الجاذبة للأفراد إلى ذلك المجال.

وهذا أخطر ما قد يحدث، أعني أن تكون الدوافع إلى المهن والوظائف الفكرية -ذات الشرط المعنوي السامي- دوافع مادية تنتمي إلى عالم الأشياء أو نفسية تنتمي إلى عالم الأشخاص فيصبح الفكر وتطويره والعناية به آخر اهتمامات الموظفين في الحقل الفكري حيث تنشأ حواجز جمة أهمها أن يتوهم المجتمع امتلاكه للعقلاء والخبراء النزهاء بينما لا يعدو الأمر أن يكون عند هؤلاء الموظفين مجالا لاقتناص المكاسب التي لا تعدو مجال الوسائل وخدمة الأغراض الدنيا.

ومن هنا فإن الإنتباه إلى هذا الإشكال يعد أولى الأولويات الاجتماعية والحضارية للأمم، أعني تعقيم الفضاءات المخصصة للوظائف والمهن السامية وتخيّر أهلها بطرق ومعايير تتلاءم مع طبيعة الغرض الذي من أجله تم استحداثها كفضاءات، وذلك في سبيل تحقيق أولى شروط التنمية الاجتماعية والنهوض بالأمة وهو الشرط الرمزي الذي يتكفل حين تمامه بحل جميع المعوقات التي ستكون ثانوية بالنسبة إليه، فيصير تحقق النهوض الفعلي مجرد مسألة وقت

التعقيبات:

التعقيب الأول: القول بأفضلية عالم الأفكار الذي أسميتُه عالم المعنى يدخل في إطار بناء نظرية مالك بن نبي الفلسفية-الاجتماعية، لذلك فالأمر متعلق بالإشارة إلى ضرورته الحيوية على المستوى الاجتماعي، فبن نبي هنا يشير الى احتمال عدم اقتحام الناشئة لعالم المعنى وهو ما يفقدهم الدور الرسالي المنوط بهم، وهو أيضا أمر يهدد المجتمع بعدم تحقيق حد أدنى من الكفاءات الفردية في هذا المجال الفكري، ونحن نعلم أن الحكماء والمفكرين الحقيقيين والشخصيات المرجعية في المجتمعات لابد وأن تقتحم عالم الأفكار للتخطيط والبناء وإقحام مجتمعاتهم في التاريخ من جديد بعد أن انسحبت من لعب الادوار التاريخية كونيا وبقيت مستسلمة للأقدار، من هذا الباب يُحدّثنا بن نبي عن عالم المعنى وضرورة التنبه له بداية وغاية، وأكثر من ذلك ينبهنا إلى أن العناية بهذا العالم على المستوى التربوي هو دليل نباهة المجتمع واستعادة للحيوية الحضارية المطلوبة حتى لا نقصر مفهوم عالم الافكار على بُعده الأحادي ولكي نراه ونقدره من بعده الشامل والكلي.

التعقيب الثاني: العلاقة بين الإنتاج الفكري والتقدير المادي: العمل الفكري من حيث المبدأ يراد به الحقيقة واكتشافها التي هي في العرف الديني ابتغاء (وجه الله)، والمحذور في كل هذا أن يتحول البحث عن الحقيقة التي يفترض بها أن تكون دأب العاملين في حقل الفضاءات الفكرية ضمن البحث العلمي والتأليف والتنظير والتخطيط الاستراتيجي…إلخ، إلى مجرد اشتغال للكسب المادي المباشر أو إرضاء الذات أو الآخرين، وهذا يعني أن عالم الأفكار مغيّب هنا عندما يصبح الكدح الفكري ينجز حسب الطلب… أيُّ طلب، بما فيه نزوات الذات وشهواتها إضافة إلى التملق للجهات التي تهب العطايا أو تلك التي بيدها السلطان، أما من حيث المبدأ فليس هناك تعارض مبدئي بين الإنتاج الفكري والتقدير المادي مهما علا شأنهما، وعلى العكس من ذلك فإن تناسب واطراد الصدق في البحث عن الحقيقة مع ارتفاع التقدير المادي علامة صحية جدا، أعني ألاّ يحصل تأطير نتائج البحث بشكل مسبق، أي أن يحصل تقبل نتائج البحث وما يتوصل إليه الباحث مهما خالفت معتقد الباحث نفسه أو تصورات الجهة المانحة أو حتى اعتبار رأي السلطة في البحث، لأن السلطة العليا هي للحقيقة قبل كل شيء.

التعقيب الثالث: التنبيه الذي حرصت عليه في المقال هو أن لا يتحول بن نبي إلى “مفكر تربوي”، فهي ليست المهمة التي كرس لها أعماله، فبن نبي مفكر حضارة، ومعني ذلك كله يلخصه قوله أن: مشكلة المسلمين الرئيسة هي مشكلة أفكار قبل كل شيء، لذلك كان من الهام التنبيه خلال الشروح البنبوية الإشارة إلى هذه الحقيقة حتى لا نجتزئ فكر بن نبي إلى مجرد كاتب في متفرقات، بل هو بحق قد كرس كل المجالات التي تحدث عنها بدءا من التربية ووصولا إلى السياسة لشرح فكرته عن المعضلة الأساس مشكلة الأفكار، وهي بالتالي ليست إلا اسقاطات يشرح بها منهجه لا غير، هذا دون نفي أن يقدم آراء تستحق الاستفادة منها في مجالها ضمن البحوث العلمية النظرية أو التطبيقية، فإن القول مثلا بأن الطفل في مرحلة من مراحل نموه يمر بمرحلة ولوج عالم الأفكار فهذا يقع في صميم الفعل التربوي كما يقع في صميم الاشتغال الفكري والعناية به.

التعقيب الرابع: إن تقديم الثقة في التربوي على الطبيعي من الأخطاء الكبرى التي تسيج العقل المسلم، ذلك أنها تعتقد أن الإسلام أقرب إلى (الإرادة البشرية) من (الطبيعة الأصلية)، وهذا يعني تقديم الفهوم التاريخية على الحقائق العقلية المباشرة. وذلك الذي حذرت منه النصوص الدينية في الإسلام من خلال النهي عن تقديم ميراث الآباء (التاريخ) على السير في الأرض (العقل)، وبه فلا بد من أن نعيد صياغة رؤيتنا بأن الإسلام لم يأت إلا ليكون أقرب إلى الطبائع، خاصة في زمن تبين فيه بشكل يفقأ العين أن هذا الميراث تعتوره الكثير من المطبات فضلا عن أن حقائق كثيرة جاءت بعده صارت هي الأولى بالاعتبار.

التعقيب الخامس: اقتحام الناشئة لعالم الأفكار هو منطلق التحرر من ضرورات الترويض إلى رحاب “التفريد المنهجي” وأعني به اكتساب الأفراد القدرة على التعامل مع الظروف المختلفة تعامل قائم على التحقق في كل ظرف، أي التعامل مع كل واقعة تواجههم دون أحكام مسبقة إلا بعد التمحيص والتأكد وفق آليات صارمة، وذلك للتخلص من المزاجية والانعكاس الشرطي التي تسد المرء عن روح الاكتشاف والاندهاش، وذلك ما تؤكده النصوص الدينية التي تتمحور حول “التبّين” الذي هو في النهاية صبر  واصطبار على تقديم الأحكام القطعية في المسائل العملية والمتعلق بأشخاص بعينهم..

داخل شروح, مالك بن نبي
أبريل 2025
د ن ث أرب خ ج س
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
27282930  

الأرشيف

إحصائيات الموقع

167181
اليوم : 63
الأمس : 117
هذا الشهر : 4357
هذا العام : 15893
مشاهدات اليوم : 260
مجموع المشاهدات : 506414
المتواجدون الآن : 2