هل للحيوانات أخلاق وكيف تتماثل مع أخلاق الإنسان؟

قراءة في الفصل السادس من كتاب العدالة في عالم الحيوان (*)

القرن الواحد والعشرون هو قرن الكشف الحيواني حسب دومينيك لاكابرا، فما أهمية هذا الكشف؟ ولماذا يجب أن يطغى على بقية الكشوف المنتظرة في القرن الـ21؟

الحقيقة الأولى تكمن في أن أخلاقية الحيوان من الحقائق الصادمة للتصورات المركزية الإنسان، فالحقيقة المستجدة أن الحيوان لا يعيش فقط باحثا عن تلبية غرائزه الصادرة عن اللاوعي، إنما للحيوانات أيضا سلوكات إيثارية وعاطفية مدهشة يكشف عنها علم الايثولوجيا (علم دراسة سلوك الحيوانات في موائلها الطبيعية).

الممتع في كتاب العدالة في عالم الحيوان أنه نظر إلى السلوك الحيواني نظرة الفيلسوف الأخلاقي، ليس ليسأل عن ماهية الأخلاق ميتافيزيقيا بل ليدرس لماذا تؤثر الحيوانات حيوانات أخرى على نفسها، أو لماذا يأتي الحيوان سلوكا أخلاقيا؟

كما سيرد في هذه القراءة المفصلة، التي أعدها باصطبار الباحث إبراهيم الشيخ اسماعيل، فإن أخلاقية الحيوان لم تؤخذ كمسلمة، وإنما توقف مؤلفا الكتاب عندها لمكاشفتها حيث كان المنطلق أن للأخلاق ثلاث سمات أساسية هي: التعاون، التقمص الوجداني، العدالة، حيث يمكن جمعها في فكرة مشتركة أساسية هي “الاهتمام بمصالح الآخرين”.

إن من المبادئ التي يجدر الإشارة إليها هنا هي الاتصال الذي بنته النظرية التطورية بين الوجودين الإنساني والحيواني، وذلك ما يمهد ويؤسس لانتفاء الحواجز على المستوى السلوكي بينهما وبالتالي إمكان حيازة الحيوانات للسلوكات الأخلاقية.

وعلى ذلك تبقى اعتراضات بخصوص المسؤولية الأخلاقية للحيوان باعتبارها مرتبطة منطقيا بالأخلاق، إذ ومع التسليم بأخلاقية السلوك الحيواني إلا أنه لا يصل إلى درجة تحمل المسؤولية، وذلك ما يرتبط بمسألة الضمير التي يتصور داماسيو أنها أيضا خاضعة للتطور، حيث يفتقد الحيوان إلى ما يشعر به الإنسان بعد القيام بسلوكاته من نقد ذاتي ولوم للنفس لا وجود له عند الحيوان؛ ومع ذلك فالحيوان ذو قدرة على الإمتناع عى سلوكات مرغوبة لديه والإقدام على أخرى إيثارية.

من الحقائق المهمة الواردة أن الحيوانات تعيش داخل نوعها التزامات أخلاقية قد لا تلتزم بها مع الأنواع الأخرى، فالمفترس يجد البطولة في دعوة ذريته لمشاركته التهام لفريسة، وذلك يعني أنه ليس للحيوانات أخلاق كونية بينما يمكن للإنسان أن يكون كونيا في أخلاقيته، أو على الأقل يبقى كطموح، إلا أن المؤكد هو أن حضارة الإنسان المعاصر لا تخرج عن القدرة الحيوانية على الالتزام بالأخلاق مع الجماعة الأهلية على حساب الجماعات الأخرى، وذلك التحدي الأخلاقي الراهن والحارق للإنسان، هل يمكن أن توجد أخلاق كونية بحيث يمتد السلوك والفعل الإنسان ليشمل الخير للجميع دون أن يضر بأحد أو حتى ببقية الموجودات؟ (تقديم ومراجعة المشرف د. محمد عبد النور)

نص الملخّص(**):

إبراهيم الشيخ اسماعيل (1)

تناول الكتاب في فصوله الأولى مفهوم العدالة في عالم الحيوان وجال بنا عبر التلال والوديان، مبينا النسق الإجتماعي الذي تكرسه هذه الحيوانات ضمن تجمعها النوعي، فهل يمكن لنا أن نربط بين مختلف هذه الأنساق الإجتماعية الحيوانية ونبحث في الفلسفة الأخلاقية التي ترسمها في حياتها؟

  • حالة أنثى الخفاش القابلة:

هي ملاحظة علمية قام بها فريق عالم البيولوجيا توماس كونز Thomas Kunz من جامعة بوسطن، حول سلوكيات أحد مستعمرات الخفافيش آكلة الفاكهة، في جينسفيل بولاية فلوريدا، حيث تمت ملاحظة أنثى تساعد أخرى في عملية الولادة، بتوضيح الوضعية الصحيحة وبالمساعدة الفعلية لهذه العملية.

فلماذا قامت هذه الأنثى بمساعدة الأخرى الحامل على الولادة؟ ماهو هدفها من جراء هذه المساعدة؟ هل ردا لجميل سابق أم لضمان مصلحة آتية؟ من أخبرها بحاجة الأنثى الحامل للمساعدة؟ هل قامت بهذا عن طريق الصدفة أم عن طريق سلوك متداول بين الخفافيش أم أنه اتصاف بأخلاق خاصة للتعاون بينها؟ “أم هي الخفاش الفيلسوف؟”

فالكتاب يعالج هذه الملاحظة بعدة أسئلة فلسفية حول هذا السلوك الأخلاقي، ومدى مسببات حدوثه، والتناول الفلسفي لهذا يرشدنا إلى محاولة الفهم العميق “للأسئلة المحورية حول طبيعة الحقيقة والمسار الملائم للحياة”، وكذلك محاولة إدراك الفهم الفلسفي للأخلاق، والمعرفة النسبية لمفاهيم الخير والشر، والصواب والخطأ، وجوهر الحياة عموما؛ على أن الكتاب لا يخوض في المتاهات الفلسفية لمدلول الأخلاق، وإنما يعالج ويبحث عن إجابات مقنعة للأسئلة الأكثر تداولا وجدالا في الساحة المعرفية.

وبالمقارنة التطورية بين الإنسان والحيوان يصل المؤلفان إلى أن البشر ليسوا وحدهم المالكين لمفهوم الأخلاق، لكن من جهة أخرى نجد أننا بهذا نهدد الكيان الإنساني حين نشاركه الحيوان في المنظومة الأخلاقية، وكذلك في حالة مزجنا “بين البيولوجيا والأخلاق، والحقائق والقيم، على حد قول العلماء”، وبالنظر إلى أن النظرية التطورية تكرس حيثياتها على الجنس البشري، فهل يمكن حصر المنظومة الأخلاقية في الجانب البيولوجي دون الإنساني؟ وبإدراكنا للصورة المعرفية الشعورية والاجتماعية على الحيوان، وجب علينا مراجعة كيفية استغلال الإنسان للحيوان في مأكله وملبسه وتسخيره للتنقل والأبحاث العلمية المتعددة !

وبالتعمق الفلسفي للمؤلفين في مفهوم الأخلاق نصل إلى فهم بعض الجزئيات الأخلاقية المتعلقة بالحكم التأملي والوساطة والضمير وكذلك اتخاذ القرار، التي لازالت تعتبر أبحاثا جديدة، وبهذا نطرح إمكانية اتصاف الحيوانات بهذه الصفات الأخلاقية ومدى تمكنها من هذه القدرات التي حصرناها سابقا في الإنسان فقط؟

  • حول مغزى الأخلاق: التحايل على الوحش:

عرّف المؤلفان الأخلاق على أنها “مجموعة من السلوكيات المراعية للآخر، والتي تنقسم إلى ثلاث مجموعات تقريبية هي التعاون والتقمص الوجداني والعدالة”، وبهذا أضفى على الأخلاق مفهوما واسعا يندرج تحته سلوك الكثير من الحيوانات الاجتماعية ومن بينها الإنسان، فهل عُنِّف هذا المفهوم أم تم تناوله على حقيقته؟

بمقارنتنا لهذا التحليل وبما قام به كل من “ستيفاني برستون” و “فرانس دوفال” في تعريفهما للتقمص الوجداني على أنه عدة أنماط سلوكية تجمعها “سمة واحدة وهي الترابط العاطفي”، حيث منحا لهذا المفهوم تدقيقا أكثر، نجد أننا تناولنا الأخلاق بنفس التحليل، على أنه عبارة عن عدة سلوكيات تجتمع في صفة واحدة وهي الاهتمام بصالح الآخرين.

مع وجود من يعارض هذا التفكير الفلسفي للأخلاق على أنها سلوكيات تحتوي الحيوان، فمشاركة الحيوان للإنسان في المنظومة الأخلاقية يهدد الكيان الإنساني في تميزه واصطفائه عن سائر المخلوقات.

  • تمييز الفروقات في النوع والدرجة:

يركز المؤلف على التواصل التطوري بين البشر والثدييات الاجتماعية في تجاورها حول مجموعة سلوكيات أخلاقية مشتركة وهي: العدالة والتعاون والتقمص الوجداني من مستواها البسيط إلى الأكثر تعقيد.

فنجد أن “البشر يشتركون مع الثدييات الإجتماعية الأخرى في بعض الطبقات الداخلية للسلوك الأخلاقي” ، على أنهم يتميزون عنها في تخصصهم على مستويات عالية جدا من التعقيد الأخلاقي، فأين يكمن الاختلاف بين البشر والحيوان في المنظومة الأخلاقية؟

عادة ما نجد أن الإجابة عن هذا التساؤل تستقى من النظرية الداروينية للتطور العام بما فيه الإنسان، والتي تزعم أن الإنسان يختلف عن الحيوان إما في الدرجة أو النوع، فكل هذه الحيوانات تشترك في الأصل لكنها تتمايز تدريجيا في درجة صفاتها حسب عوامل بيئية مختلفة، مع أن المعتمدين على هذا التوجه يخصصون البشر نوعيا بميزة السلوك الأخلاقي.

إلا أن هذه النظرة الأخيرة الضيقة ينقصها تفكير فلسفي لإعادة النظر في جوهرها، بالمقارنة مع ما تم ملاحظته خلال هذا البحث حول أن اختلاف الأخلاق الحيوانية عن الأخلاق الإنسانية هو اختلاف في الدرجة وليس النوع.

 وإذا قدمنا تعريفا ضيقا للأخلاق لاستبعاد الحيوانات من هذا المجال، فنجد أن الأسلوب النوعي للأخلاق لدى الباحث ينطلق من تعريفات كلية ليصل إلى خصوصيات كل نوع على حدى، فكيف يتميز النمط الأخلاقي للبشر؟

تجيب الفيلسوفة كريستين كورسجارد Christine Korsgaard على هذا، موضحة تميز الإنسان بقشرة الجبهة المتطورة عن غيره من الحيوان والمسؤولة عن التفكير العقلاني، حيث يصدر أفعالا بدافع أخلاقي عقلاني، وهذا ما يفصله عن ماضيه الحيواني عبر النظرة التطورية، فبالتفكير الجدلي يكتسب الإنسان وعيا ذاتيا مفسرا لأسباب أفعاله ومن ثم القدرة على التحكم فيها وفق تفكير عقلاني، هو ما يمكن أن نسميه بلب الأخلاق.

فإدراك الإنسان لأسباب أفعاله وقدرته النسبية على التحكم في ذاته ومختلف قراراته هو ما تميز به البشر نوعيا، والتوظيف الأحسن لهذه القدرة والقرارات التي يصدرها الإنسان حول ما يجب فعله هو ما يسمى بلب الأخلاق؛ ومن هنا لا نعاتب الحيوانات أخلاقيا لعدم قدرتها على الحكم التأملي في أفعالها ولاعتمادها على شهواتها في معظم سلوكياتها.

كما أن البشر يمتازون نوعيا عن الحيوان في امتلاكهم وتوظيفهم للغة يعبرون بها عن سلوكياتهم الأخلاقية، وهذا ما يوضحه روبن دونبار  في الطرح الفكري للنميمة، والذي وضح فيه أن الأخلاق واللغة مرتبطان فيما بينهما، وأن هذه اللغة هي وسيلة تظهر بها تقييمات البشر لبعضهم البعض وتتجسد بها مختلف سلوكياتهم من غضب واحتقار وموافقة وتقبل، ومع هذا فهل تنعدم هذه اللغة لدى الحيوانات؟

 هو كذلك، كما يؤكد هذا عالم الأنثروبولوجيا تيرانس ديكون Terrance Deacon، الذي يبين أنه على الرغم من التوافق النسبي بين عقول البشر والحيوان، إلا أن البشر ينفردون باستعمالهم اللغوي في سلوكياتهم الأخلاقية بدءا باستعمال الرموز كما يقول:” إن الاستخدام الأول للإشارات الرمزية لبعض أسلافنا البعيدين قد غيّر الطريقة التي أثَّرت بها عملية الانتخاب الطبيعي على تطور العقل البشري منذ ذلك الحين”.

فالحيوانات تتواصل عن طريق الأخلاق مع أن هذا التواصل لا يتم بواسطة اللغة، أما البشر فيحكم تواصلهم الأخلاقي نوعية اللغة المستخدمة، حسب اختلاف عقولهم في إدراكها ووعيها وقدرتها وتحكمها في نوعية سلوكها.

فهل بارتباط الأخلاق البشرية بالعقل، يمكن أن يتفرد الإنسان بهذه الخصوصية؟ بالنظر إلى المراحل التطورية للجنس البشري، خصوصا ما تعلق بالجانب العقلي من إدراك ووعي وحس أخلاقي، نجد أن الإنسان ارتقى إلى قدرات عالية فكرية ولغوية مكنته من اكتساب أخلاق ميزته عن الجنس الحيواني، لكنه دائما يشترك مع الحيوان في الدعائم الأساسية الأخلاقية الأولى، مثلما تشترك به الدمى الصغيرة المكونة للدمية الروسية .

  • التفرد:

التفرد البشري أمر ينادي به الكثير من اللاهوتيين والفلاسفة، بغية نكران إضفاء صفات إنسانية على الحيوان لعدم مزاحمته فيها، ولاستمرار هذا التفرد ولو مع البشر المعاقين ذهنيا أو حركيا، لعدم استوائهم مع الحيوان في التجارب الطبيعية والمخبرية التي تجرى على هذا الأخير؛ وبصفة أخص ـ نحترمها عقديا ـ  ينادي اللاهوتيون المسيحيون بتفرد البشر فيما بينهم أصلا، بين من خلق على صورة الله ومن هو غير ذلك.

إلا أنه توجد ملاحظتين يمكن تقديمهما لإجلاء هذا الإشكال الخاص بالتفرد البشري:

–             إضفاء صفات أخلاقية على الحيوان لا يهدد البشر وخصوصا المعاقين والضعفاء، طالما أن هناك تمايز واضح بين البشر والحيوان، وطالما أن الأبحاث التطورية بذاتها تقرر هذا الاختلاف كركيزة لتثبيت الكرامة الإنسانية.

–             التفرد البشري بالأخلاق، لا يمكن اعتباره دليلا قاطعا لكرامة الإنسان ولإجبار الحيوان على التجارب العلمية، فلكل جنس كرامته، فكرامة الإنسان لا تعني إلغاء الكرامة الحيوانية.

والتفرد أمر وجب إدراكه بصورة أعم لكلا الطرفين، فتفرد طرف لصفات يعني تفرد الآخر بصفات أخرى، فلكل واحد ميزة تفصله عن الآخر، كما أننا في الجنس البشري أصلا نجد تفردا بين أصنافه وهو ما نعبر عنه بالشخصية، كما هو الحال كذلك في الحيوان، بين القطط أو الكلاب أو الخفافيش ذات الآذان البنية التي تبدو لنا متشابهة لكنها متفردة فيما بينها، وهذا ما يجب علينا ملاحظته حين استعمالنا الوظيفي لهذه الحيوانات.

هل تمتلك الحيوانات مقومات اعتبارها مخلوقات أخلاقية؟

دائما يبقى من يعارض فكرة أخلاقية الحيوانات بتقديمه لحجج منطقية لا نقاش فيها، حسب رأيه، ومن بينها:

–             “الحيوانات ليست على قدر من الذكاء يسمح لها بالتحلي بالأخلاق.

–             الحيوانات ليس لديها مشاعر أخلاقية، ومن ثم فهي تفتقر للأخلاق.

–             الحيوانات لا يمكنها أن تتعاطف، ومن ثم فهي ليست كائنات أخلاقية.

–             الحيوانات ليست عقلانية، ومن ثم فهي تفتقر للأخلاق.

–             الحيوانات تفتقر إلى الحكم التأملي، ومن ثم فهي تفتقر للأخلاق.

–             الحيوانات ليست عوامل أخلاقية، ومن ثم فهي تفتقر للأخلاق.

–             الحيوانات تفتقر إلى الضمير، ومن ثم فهي تفقر للأخلاق” .

فالاعتراضات الأولى الأربع لا يمكن تقبلها، كوننا أثبتنا من قبل أن للحيوانات سلوكات أخلاقية حسب قدراتها الإدراكية والشعورية، وأما الخامس الخاص بالحكم التأملي، فلا يمكن اعتباره مكون أساسي للأخلاق، مع كونه يشكل فارقا بين الإنسان والحيوان.

فإن تناولنا الأخلاق بالمفهوم الفلسفي نجد الاعتراضين الأخيرين المهتمين بالوساطة والضمير منطقيين، لكن عالم البيولوجيا “إدوارد ويلسون” يدعو علماء الإنسانية لتناول الأخلاق بعيدا عن الفلسفة ولو بشكل مؤقت، كذلك يجمع العلماء والفلاسفة أن الأخلاق ليست محصورة في العالم البيولوجي فقط.

فمفهومي الوساطة والضمير ينتميان بامتياز إلى النسق الفلسفي، فهما قيد البحث والتقصي، وتحلي الحيوانات بها أمر للنقاش، هذا مع عدم النفي الكلي لاتصاف الحيوانات بها، فـ”لأي حد يلعب الضمير دورا في السلوك الأخلاقي، وما أنواع الوساطة التي يبديها الحيوانات، وهل لها صلة بالسلوك الأخلاقي؟”، وهذا ما يمكن اعتباره مجالات بحث جديدة للمعرفة العلمية.

  • المسؤولية الأخلاقية: هل تعد الحيوانات مسؤولة عن أفعالها؟

الحديث عن الأخلاق الحيوانية يقود إلى الحديث عن مسؤولية الحيوانات في تخلقها بصفات دون أخرى، حيث أن المسؤولية مفهوم فلسفي يعني القدرة على اختيار نوعية السلوك حسب الحالة وفق حرية وإرادة واختيار ذاتي، فعندما ندرج سلوك الحيوانات ضمن منظومة أخلاقية، يعتبر البعض أننا أيضا وصفناها بالمسؤولية الأخلاقية.

استقلالية البشر وغريزية الحيوانات في سلوكهما الأخلاقي، أمر يحتاج إلى تطور الأبحاث العلمية في علم الأعصاب وعلم النفس البشري، فليست الحيوانات تتصرف بدافع غريزي فقط كما تذكره الروايات الفلسفية الغربية، وليس البشر يتصرفون باستقلالية مطلقة في سلوكهم الأخلاقي.

وبما أن تناول المسؤولية الأخلاقية يكون مدعاة لإقصاء الجنس الحيواني من السلوك الأخلاقي، فلا بد للبحث العلمي المعمق أن يستفيض في هذا، والحيوانات لا توصف بالمسؤولة أخلاقيا بمجرد وجود بعض من السلوك الأخلاقي لديها، مع أن هذا لا يعتبر من المستحيلات والإشكالات الفكرية.

واعتمادا على التناول الفلسفي للأخلاق، نقول أن المسؤول أخلاقيا هو الذي يختار أفعالا دون أخرى، وبهذا نفرق بين الفاعل الأخلاقي والمريض الأخلاقي [أو الكل أخلاقيا]  الذي لا يملك القدرة على اختيار الفعل الأخلاقي أو القيام به بشكل صحيح.

ومن خلال هذا تم تصنيف كل من الأطفال، المعاقون ذهنيا والحيوانات على أنهم مرضى أخلاقيا [مشلولون أخلاقيا]، لعدم قدرتهم على تحمل مسؤولية القرار الأخلاقي الصادر منهم، مع النسبية في صحة هذا التصنيف المقارن.

فلو اقتنعنا بهذا التصنيف فلا يمكن أن نساوي في المسؤولية الأخلاقية بين البشر والحيوان كما يقول “بول شابيرو: من السذاجة أن نؤكد على أن الحيوانات كائنات مسؤولة أخلاقيا، بدرجة المسؤولية نفسها التي يتصف بها الإنسان الراشد”، لأن المسؤولية الأخلاقية للحيوانات محصورة ضمن نسقها الاجتماعي الحيواني الذي تعيش فيه كما أنها متأثرة بصفة كبيرة بنزعتها العاطفية، فالذئاب تعكس في سلوكها منظومة الأخلاق العاطفية التي تعيشها فيما بينها، لكن افتراسها للإبل لا يعتبر خرقا لهذه المنظومة لعدم وجود انتقاد لهذا السلوك في إطارها الحيواني.

وهنا نستثني الحشرات من هذه المنظومة الأخلاقية الحيوانية لعدم تطابق سلوك هذه الحشرات مع الحيوانات التي تناولها البحث مثل: قردة ستانلي ويشكين، جرذان راسل تشيرتس، ضباع كريستين، وأنثى الخفاش القابلة لتوم كونز، وهذا لاتصاف السلوك الأخلاقي لهذه الثدييات الاجتماعية بالمرونة، بخلاف ما تتصف به الحشرات، “فحيثما توجد مرونة ومطاوعة في السلوك، يوجد خيار ومسؤولية أخلاقية”، وبهذا يوصف السلوك الأخلاقي لهذه الثدييات بالمرونة، المطاوعة، التعقيد العاطفي ومجموعة محددة من المهارات المعرفية.

ومن هذا المنطلق الحيواني، نجد أن السلوك الغريزي والمكيف هو سلوك أخلاقي، ومع تقصي السلوك الإنساني نجده مكيف وغريزي إلى أبعد الحدود، فلا يمكننا أن نصف السلوك الإنساني سلوكا أخلاقيا مجردا، دون ذكر جهود الأولياء والمربين الموجهين لسلوك الأطفال بهدف تصرفهم بأحسن طريقة مقبولة.

وإن اقتنعنا بوصف الحيوانات بالكائنات المسؤولة أخلاقيا، فلا يمكننا تجاهل “أن لغة الفاعل والمفعول تؤدي إلى لبس فلسفي على الأرجح، ويجب تجنبها في نهاية المطاف”.

  • كلاب دارون: الضمير باعتباره بوصلة أخلاقية

يعتقد دارون أنه إضافة إلى اتصاف الحيوانات بالحب والتقمص الوجداني، فإنها تتصف بصفات أخرى اجتماعية: أخلاقية وإنسانية، ومن بينها “قوة ضبط النفس” في اختيار سلوك دون آخر، مع الصراع الداخلي لهذه النزعات المتفاوتة من حين لآخر، وأضاف دارون وجود الضمير المراقب الداخلي في الحيوان، والموجه له في اختيار غريزة عن أخرى، ومثال ذلك امتناع الكلاب عن تناول الطعام من على مائدة سيدها حين غيابه، وبهذا فهي ترى أن هذا السلوك غير صحيح ولا يمكن القيام به.

فالتحكم في السلوك يعتبر أهم مكون للسلوك الأخلاقي، كما يشير لورانس كولبيرغ Lawrence Kohlberg  إلى قيمة التحكم في غرائز الأطفال وتوجيهها إلى التحلي بالأخلاق الناضجة، ربما نعتقد بتحكم الحيوانات في غرائزها وضميرها، لكن ليس بنفس الدرجة الإنسانية، مع احتمال عدم امكانية وجود ضمير حيواني، واكتفاء التحكم في الغرائز للحصول على سلوك أخلاقي ناضج.

يصف لنا روبرت هند Robert Hinde في كتابه “لماذا الجيد جيد؟” أهمية الضمير الحي في الحفاظ على التوافق بين أفعال الفرد وما يطلق عليه اسم ـ النظام الذاتي ـ” حيث يقول: “تعتمد القرارات الأخلاقية على مقارنات بين القيم المدمجة داخل النظام الذاتي والفعل الملاحظ أو المقصود”، فحيواناتنا الأخلاقية هي من بعض الحيوانات المكتسِبة لضمير يكمن بداخلها هو الموجه لسلوكها ومراقبة ذاتها.

وبنظرة أكثر تعمقا نرى أن الضمير أكثر من كونه موجها للسلوك بين الخير والشر، وهو ما أدلى به عالم الأنتروبولوجيا “كريستوفر بويهم Christopher Boehm” في عمل ناقش فيه العقوبات الاجتماعية وأصول الضمير لدى البشر، وأن هذا مختلف لدى الحيوانات، حيث يقول أن: “الضمير الأخلاقي ميزة بشرية متفردة، والضمير مكون أساسي من الأخلاق” ، وفرضيته تنص على أن الضمير الإنساني تطور عبر الزمن، وما يوضح هذا هو وجوب توحد الأفراد والجماعات لاصطياد الحيوانات الكبيرة، ليتم التوزيع العادل للحومها بين كل المتعاونين، ويوضح “بويهم” الفرق بين الضمير الحيواني والإنساني كون هذا الأخير يمتاز بالنقد الذاتي والشعور بالخزي حالة السلوك السلبي، ويمثل هذا بقردة الشامبانزي التي لا تشعر بالخزي واحمرار الوجه بحكم الحرج الاجتماعي، أي عدم امتلاكها لمنظومة أخلاقية مسبقة.

ويذهب في هذا، عالم الأعصاب أنطونيو داماسيو Antonio Damasio بتطور الضمير لدى البشر خصيصا، والجزء المسؤول عن هذا في الدماغ هو الناصية التي تعمل على ضبط النفس وتقييم الذات وبعد النظر.

فالضمير الذي نعتبره أهم مكون للأخلاق البشرية، لا يقودنا بالضرورة على كونه اختلاف نوعي بيننا والحيوانات، وفي هذا لازالت الأسئلة العلمية حول وجود ضمير أخلاقي للحيوانات الاجتماعية، وهل الضمير عنصر إلزامي للسلوك الأخلاقي، ويمكن اعتبار بحث “بويهم” مجال علمي مستقبلي هام في الضمير وأخلاقيات الحيوانات، “فهل ينبغي أن نبحث في الضمير ومن ثم الأخلاق في الحيوانات الاجتماعية الأخرى التي تشارك في سناريوهات تطورية” فربما كان للسيطرة الجماعية النظامية والحاسمة أغراضا خلاف توزيع اللحوم؟

  • الأخلاق المتناسبة مع الأنواع لا تساوي المنظومة الأخلاقية “العشوائية

النسبية الأخلاقية بين البشر والحيوان تنفي وجود أنماط سلوكية أخلاقية مطلقة لكلا النوعين، وعلى هذا نفرق بين مفهومين فلسفيين: الروايات الوصفية للأخلاق والروايات المعيارية للأخلاق، على أن الأولى وصف للسلوك الأخلاقي مهما كان نوعه، وهو ما استعمله المؤلفان في عرضهما لأخلاق الحيوانات، أما الثاني فهو تقييم للسلوك الأخلاقي مثل التعاون والتآزر والتعايش السلس وتمييزه عن غير الأخلاقي.

ومن هنا نجد الأخلاق المتناسبة حسب الأنواع والأخلاق المستندة إلى مواقف محددة، مع مراعاة الاختلافات داخل النوع الواحد، ودائما توجد الخصوصية الإنسانية في كون منظومتنا الأخلاقية لا تكون معاييرها نسبية بشكل مجرد، وأنها ليست كالمنظومة الحيوانية المنحصرة فقط في التعاون والتعايش الاجتماعي، وعلى الرغم من هذا يمكن أن تؤثر فيها أسباب أخرى لتحقق أهدافا اجتماعية سلبية كالتوحش والإرهاب، أو أسباب أخرى كحركة الحقوق المدنية وحق المرأة في التصويت اللتان أحدثتا اضطرابا في الانسجام الاجتماعي، لكن بمفهوم الصراع الماركسي تكون نظرتنا لها إيجابية للتطور الاجتماعي الذي يعقبها، فهذه النسبية هي ما تؤيده النزعة التطورية للأخلاق بين الأنواع وداخل النوع الواحد، فهناك الأنماط السلوكية الأخلاقية العالمية وترجع الاختلافات والمعايير الأخرى حسب التطور النوعي والزمني لكل نوع.

وليست الغاية هي البحث في منشأ الأخلاق البشرية وذكر أسباب ثبوت معاييرها وأنواعها نسبيا عبر الأزمنة والثقافات المختلفة، مع تأكيد أن التناول الغربي الفلسفي للأخلاق أمر تجاوزه الزمن، خاصة في حديثها عن “الإفراط في عزو وإرادة وقصد السلوك الأخلاقي” ، مع ما يحمله هذا المؤلف في طياته من معان أخلاقية ضمنية تحتاج للتأمل والتفكير كالتقمص الوجداني والإيثار والعدالة في المنظومة الأخلاقية البشرية والحيوانية بالخصوص.

  • الصواب والخطأ في عالم الحيوان

“هل في عزو الأخلاق إلى الحيوانات ضرورة لإعادة النظر في مسؤوليتنا الأخلاقية تجاهها؟”

الأبحاث العلمية في الأخلاق الحيوانية لا تقودنا إلى استنتاج محدد حول ماهية تعاملنا معها، ولو كان ذلك فلا ينبغي أن يقف معظمنا في حد القول بأخلقة الحيوانات، لأن تعامل الكثير منا مع الحيوانات سيئ وغير أخلاقي أصلا.

فطبيعة الحيوانات نستقيها من الأبحاث العلمية الحديثة مع التربية الصناعية لها، وما تؤكده الدراسات السابقة أن “الحيوانات ليست لديها أفكار معقدة أو حياة عاطفية ثرية”، هذا يعني جواز استغلالنا لها بحرية مطلقة، لكن ما تناولناه وما قدمته البحوث الحديثة حول القدرات الإدراكية والعاطفية للحيوانات يعكس منطق تعاملنا معها، ويفرض علينا قيودا سلوكية لاحترامها وتقديرها.

“إن للوصف العلمي الدقيق القدرة على تغيير مفهومنا للحقيقة، ومن ثم تغيير ردود أفعالنا الأخلاقية”، وهذا ما يؤيده العالم النفساني مارتن هوفمان Martin Hoffman في حديثه عن زيادة السلوك العاطفي للإنسان كلما زاد إدراكه معرفيا للحقيقة أكثر تعقيد، وما يضيفه البحث العلمي أكثر هو أن الفهم العاطفي لسلوك الحيوانات يؤدي بنا إلى تعزيز التعليل النقدي والأخلاقي، كما يقودنا الفهم العميق لها إلى عطفنا وإشفاقنا عليها تجاه ما تعانيه في حياتها الاجتماعية.

  • بعض الأفكار الختامية حول العلم الناشئ: الإنتقال إلى توليفة جديدة

في ختام هذا [الفصل وهو أيضا خاتمة الكتاب] يمكن لنا أن نفتح مناقشات فكرية حول أهم ما توصلنا إليه في علم السلوك، واتفاقنا على جدية موضوع السلوك الأخلاقي للحيوانات وعدم اطلاعنا الواسع عليه، مع تحصلنا على العديد من القرائن التي توضح هذا، وتغير معتقداتنا حول سلوكنا الأخلاقي مع الحيوان، وبهذا نكون كالبطريق الذي يمشي لأول مرة على صفحات الجليد، وما اكتسبناه من المنظومة الأخلاقية للحيوانات قد نما خلال الخمس سنوات الأخيرة، وأن العدالة في عالم الحيوان مستمرة في الازدهار، وهذا ما ستظهره الأبحاث العلمية النفسية السلوكية والبيولوجية والاجتماعية وكذا الأنتروبولوجية.

——————————————–

الهوامش:

(*) – جيسيكا بيرس ومارك بيكوف، العدالة في عالم الحيوان: الحياة الأخلاقية للحيوانات، ترجمة: فاطمة غنيم، مشروع كلمة أبوظبي، الطبعة الأولى 2010

العنوان الأصلي للكتاب (Wild justice: the moral lives of animals 2009)

(**)- الفصل السادس بعنوان: “أخلاق الحيوانات والناقمون عليها” ممتد من الصفحة 269 إلى الصفحة 298.

(1)- ماستر في علم الاجتماع من جامعة غرداية

(2)- نص هذا الملخّص من مخرجات “منتدى مسالك المعرفة” الذي يعنى بمتابعة التطورات الحاصلة على مستوى الفكر العلمي الإنساني، بالتعريف بها ونشرها أولا ثم محاولة استثمارها داخل المنظومة الثقافية والحضارية وطنيا وإقليميا وكونيا. المنتدى تحت إشراف الدكتور محمد عبد النور.

شملت الملخّصات المقدمة عدّة كتب مرجعية في الفكر المنظوماتي والحيوي حديثة الصدور وكذا حديثة الترجمة، سنعرض لترجمات بعض من فصولها تباعا في ركن “مسالك المعرفة” من هذا الموقع.

داخل مسالك المعرفة
أبريل 2025
د ن ث أرب خ ج س
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
27282930  

الأرشيف

إحصائيات الموقع

167188
اليوم : 70
الأمس : 117
هذا الشهر : 4364
هذا العام : 15900
مشاهدات اليوم : 296
مجموع المشاهدات : 506450
المتواجدون الآن : 4