قراءة في الفصل الأول من كتاب علم النفس التطوري (*)
سبق لامارك دارون إلى فكرة “التطور” بإشارته إلى أن الكائنات تتعرض إلى الارتقاء أو إلى الانقراض، تسليما منه بأن الحياة في تغير دائم صعودا أو نزولا، بينما تمثلت إضافة دارون في تقديمه تفسيرا لآلية حدوث التغيير، ومفاده أن التكيف الضامن للتغير يقوم على غريزة حب البقاء والتكاثر الجنسي؛ كما تتمثل إضافة دارون تتمثل في قوله بأن التطور لا يتقصر فقط على بنية الأجسام إنما يشمل أيضا السلوك، والسلوك الاجتماعي خاصة، وهي الفكرة التي دفعت إلى ظهور “”الإيثولوجيا” كعلم يعتم بدراسة السلوك الاجتماعي للحيوانات في موائلها الطبيعية.
وكمرحلة ثانية من تطور “التطورية” ظهرت نظرية “اللياقة المتضمنة” على يد وليام هاملتون التي تقوم على فكرة البرمجة الوراثية المسبقة التي توجه سلوك المتعضّيات (=الكائنات العضوية)، وأن المورّثات الفاعلة التي تحدث الأثر على السلوك تزيد فرص نجاحها وتناسخها.
اعتبر ديفيد باس نظرية اللياقة المتضمنة بمثابة ثورة حصلت في المجال العلمي، وهي في الواقع ثورة مضاعفة من حيث كونها تتجه إلى البيولوجيا وإلى علم النفس، علم النفس بما هي علوم اجتماعية تشترك في موضوع واحد هو السلوك الاجتماعي (اجتماع، سياسة واقتصاد…)، أما البيولوجيا فبما هو صهر للحدود بين المتعضّيات جميعها ونسبتها إلى أصل واحد وهو ما يجعل من القوانين التي تحكمها واحدة أيضا، كما أنها تنهي انقساما تاريخيا دام طويلا بين علوم الطبيعة وعلوم الثقافة، أي بمثابة توحيد بين ما سمي بـ”الثقافتين”.
ومثّل ظهور كتاب البويولوجيا الاجتماعية لإدوارد ولسن بمثابة الخلاصة المركّزة لكل التطورات في هذا المجال عندما سحبت المبادئ التفسيرية للبيولوجيا على جميع الكائنات وأن السلوك أيضا يأخذ منحا وراثيا، وعاملت الإنسان بأنه كائن بيولوجي يسلك اجتماعيا بطريقة لا واعية، كتاب ولسن ألّب عليه الراديكاليين من السوسيولوجيين؛ ذلك ما دعى باس إلى محاولة تجديد المسعى “التطوري” من خلال بيان سوء الفهوم التي شاعت حول نظرية التطورية، هذا ما سنعرفه وأكثر في الملخص الموالي الذي صاغته بوضوح الباحثة أسماء بن يحي. (إشراف ومراجعة: د. محمد عبد النور)
نص الملخص:
إعداد: أسماء بن يحيى (2)
إن الغوص في أعماق العقل الإنساني ليس أمرا جديدا، فقد توالت الكتابات التأملية لليونانيين القدماء في الموضوع، ويليهم بعد ذلك الفرويديون و السلوكييون، حيث كان لهم كبير الأثر في لفت انتباه علماء النفس إلى استكشاف العقل الإنساني، وسنعرض في هذا الملخّص أهم المحطات التي أدت إلى إدماج النظرية التطورية مع علم النفس الحديث كما جاءت في الفصل الأول من كتاب علم النفس التطوري (2).
1- محطات في تاريخ التفكير التطوري
قبل وقت طويل من نشر داروين لنظريته حول أصل الأنواع؛ كان العلماء قد وضعوا فرضيات في تغير شكل الحياة؛ فقد استعملت كلمة بيولوجيا من طرف دي لامارك (1744/1829)؛ حيث اعتقد بوجود سببين كبيرين لتغير الأنواع: أولا: الميل الفطري في كل نوع نحو الارتقاء بالإضافة إلى الخصائص الوراثية المكتسبة، وقد اقترح “نظرية الكارثية”، حيث باعتقاده أن الأنواع تنقرض دوريا لتستبدل بأخرى مختلفة.
أدلة كثيرة تم إيجادها في أن الحياة لم تكن ثابتة، مثل اختلاف العظام بين مختلف الطبقات الجيولوجية، ورغم إطلاقهم على أنفسهم تسمية تطوريين، إلا أنهم افتقروا لتفسير آلية حدوث التغيير؛ وقد كان لداروين الفضل في تقديم تفسير لهذه الآلية، بعد رحلة علمية دامت 05سنوات، جمع خلالها عشرات العينات من الحيوانات والطيور، قائلا: أن اختلاف المتعضيات فيما بينها وانتقال هذه الاختلافات من جيل إلى آخر ناتج عن البقاء والاقتران الناجح.
2- دور الانتقاء الطبيعي والجنسي في النظرية التطورية:
لاقت نظرية الانتقاء الطبيعي التي وحدت جميع الأجناس ضمن شجرة سلالة واحدة كبرى، انتقادا كبيرا نظير افتقادها إلى قاعدة صلبة، إلا أن التعديلات التي مستها تم الاتفاق عليها ضمن العلوم البيولوجية، و رغم المقاومة الشديدة لتطبيقاتها على البشر، إلا أنهم لم يكونوا بعيدين عن العملية التطورية.
لقد خفيت على داروين آلية التوريث، فما كان سائدا أن الأمر عبارة عن امتزاج نوعين يتشكل منهما نوع ثالث؛ إلا أن الراهب مندل بيّن أن وجود مورِّثات من الأب و أخرى من الأم تنتقل إلى الأبناء، فيتقابل النصفان دون تمازج، وجاءت بعد ذلك نظرية التوليف الحديث لتبرز أهمية الانتقاء الطبيعي، فالبقاء الناجح للمورثات الأقوى.
التطور في البنى الفيزيقة بالنسبة للبعض هو أكثر وضوحا من التطور في السلوك، إلا أن داروين يتصور انطباق نظرية الانتقاء الطبيعي على السلوك و بخاصة الاجتماعي، لأن كل سلوك يتطلب بنى فيزيقية “مادية”، ومن هنا جاء مذهب الإيثولوجيا الذي يدرس السلوك من منظور تطوري، وقد قام هذا المذهب على أربع نقاط أساسية: الآثار المباشرة على السلوك، كذا الآثار النمائية للسلوك، وظيفة السلوك، الأصول التطورية للسلوك؛ تم تطوير مفاهيم كثيرة في هذا المذهب الذي ركَّز كثيرا على أهمية التكيف، رغم أن الإيثولوجيا قد تورطت في مشكلات من قبيل النمطية ودراسة السلوك، إلا أنها تعتبر التباشير الأولى لعلم النفس التطوري.
في عام 1964 خرج علينا وليام هاملتون بنظرية اللياقة المتضمنة، وتتلخص هذه النظرية في أن المورثات التي تُحدث آثارا، تزيد من فرصة نجاحها و استنساخها، ويتم تعزيز اللياقة المتضمنة من خلال انتقاء التكيفات وتطورها لأفضل المورثات وأنجحها.
أما جورج وليامز، فقد كان له دور في تسريع ثورة اللياقة المتضمنة من خلال الكتاب الذي تم نشره في 1966 بعنوان ” التكيف و الانتقاء الطبيعي” حيث فنَّد فيه الفكرة القائلة: أن التكيفات قد تطورت لصالح الجماعة، و بنظره فإن الانتقاء على مستوى الفروق الفردية هو الأكثر نشاطا من الانتقاء على مستوى الجماعة، ومما يحسب كذلك لوليامز، أنه أعاد صياغة نظرية الانتقاء المتضمنة بأسلوب أكثر وضوحا، كما أصر على أن فهم التكيفات يكون بتركيز أدق حول المورثات، مما جعل علماء البيولوجيا يبحثون أكثر في تفاصيلها. وبعد ويليامس جاء ترايفرز بثلاث نظريات أثرت على الآلاف من مشاريع البحث التجريبية.
وفي عام 1975 قام إدوارد ويلسون بنشر كتاب بعنوان: “البيولوجيا الاجتماعية: توليف جديد”، مدعيا أن المبادئ التفسيرية ذاتها يمكن تطبيقها على البشر والحيوان والنبات، وقد خلق هذا صراعا وهجوما عليه من طرف الراديكاليين والماركسيين، وحتى بعض زملائه في جامعة هارفارد، ولم يتمكن من دعم وجهات نظره لأن الأدلة التي قدمها كانت محدودة، وكذا ارتكازه على عدة حالات من سوء الفهم حول النظرية التطورية، وتطبيقاتها على البشر.
3- حالات سوء فهم شائعة حول النظرية التطورية
يُقال من شدة الظهور الخفاء، ومثل أي نظرية جديدة، فقد لاقت نظرية التطور بالانتقاء حالات سوء فهم فيما يلي:
تعني الحتمية الجينية أن السلوك تضبطه المورثات، وهذا مادعى إلى مقاومة تطبيق نظرية الانتقاء على السلوك الإنساني، رغم أن النظرية التطورية تعني في الواقع تفاعلا حقيقيا، بين التكيفات ومدخلات البيئة، لذا فإن أي سلوك محدد جينيا دون مدخلات من البيئة، فهو ليس متضمنا بأي حال في النظرية التطورية.
بناء على سوء فهم للنظرية التطورية؛ استدل البعض على أن السلوك الإنساني لا يمكن تغييره، إلا أن إلمامنا بالتكيفات ومدخلات البيئة التي تتفاعل فيما بينها، يؤدي إلى تعديل السلوك لا ريب، وبشكل خاص لما تكون ثمة رغبة في التغيير، وهذا بدوره يعطينا معرفة أكثر بسيكولوجيتنا المتطورة.
إن الآليات الراهنة لِتَكوُّن الإنسان، لا تعني بالضرورة أنها مصممة في أفضل الحالات؛ ذلك لأن أي تغيير عبر الزمن يتضمن معه فجوات وضغوطات، كما أن التغيير التطوري يحدث بصورة بطيئة ويتطلب انتقاء متكررا أي أن آلياتنا الحالية، قد لا تكون مناسبة للبيئة الراهنة. فالانتقاء يعطي الأفضل للآلية التي تزيد منافع تصميمها على تكاليفها؛ و يمكن هنا أن نتصور أن تصميمها على الوجه الأمثل ليس إلى في حدود التكيف، كذا فجوات الزمن التطوري.
بعد إماطة اللثام عن حالات سوء الفهم الشائعة حول النظرية التطورية، نواصل الحديث عن المحطات التي أدت إلى بروز علم النفس التطوري.
4- معلمات على درب أصول البشر المعاصرين
هناك جهود لا يستهان بها حول استكشاف التطورات التاريخية لفهم عقل الإنسان الحديث، وذلك من خلال تصنيف أول بروز للثدييات وكافة أنواع الآليات التي تطورت عبر الزمن بالتكيف مع مدخلات البيئة، كذا تطور في الوسائل والآلات، وظهور أنواع الحيوانات، واختلاف حجم الدماغ و شكله عبر العصور، بالإضافة إلى انتشار الإنسان العاقل على الكرة الأرضية، مع انقراض لأنواع أخرى من البشر؛ فكيف حدث ذلك؟
مر علم النفس بتحولات عديدة بدءً بنظرية الانتقاء التطورية ثم ما أسهم فيه فرويد و التحليليون، بعد ذلك يسود السلوكيون لنصف قرن، ثم يأتي التجريبيون أخيرا ليتم العودة إلى النظرية التطورية؛ إلا أن تأثيرها كان قاصرا على علم النفس، وسيتم تحديد هذا التأثير فيما يأتي:
- نظرية فرويد في التحليل النفسي:
في أواخر ثمانيانيات القرن التاسع عشر تـمَّ طرح نظرية ذات أصل جنسي في علم النفس، واقتُرِحَ أنها قوة دافعة لسلوك الأفراد صغارا و كبارا، حيث أشار فرويد إلى أن النظام الغرائزي يقوم على أساسين:
- حفظ الذات (غريزة البقاء) والتي تتطابق مع نظرية الانتقاء الطبيعي لدى داروين.
- والأساس الثاني لفرويد: الجنسانية الناضجة المؤدية إلى التكاثر، وهي بدورها تتطابق مع الانتقاء الجنسي لداروين.
إلا أن فرويد من خلال تطوير نظريته عمل على دمج الجنسانية وحفظ الذات في غرائز الحياة وأضاف غريزة سماها الموت، وبهذا ابتعد عن التفكير الدارويني، ساعيا إلى إقامة مذهب علمي مستقل.
- وليم جيمس وعلم نفس الغرائز:
في 1980 نُشِرَ كتاب “مبادئ علم النفس” حيث جادل فيه وليم جيمس أن الغرائز الإنسانية عديدة وغير محدودة، والتي يُخَيَّل أنها تُناقض بعضها بعضا، فقد نكون فضوليين لكن خجولين في آن واحد، وباعتقاد جيمس فإن هذه الغرائز العديدة تطورت عن طريق الانتقاء الطبيعي، و حسبه فهي عبارة عن تكيُّفات نوعية.
قائمة الغرائز التي وضعها كانت طويلة جدا مما سبب جزئيا في اندثارها، حيث فسر معارضوا جيمس محدودية الغرائز لكونها سلوكيات يتعلمها الفرد خلال مراحل نموه.
5- نهوض السلوكية:
لقد عمل واطسون على التأكيد أن التعلم مدفوع بآلية واحدة، وهو أن تكرر اقتران مثيرين معا، يؤدي إلى نفس الأثر في حال حدوث المثير المحايد لوحده، وهو ماسماه بالإشراط الكلاسيكي.
ثم جاء سكينر ليضع مبادئ الإشراط الإجرائي، فالتعزيز الذي يعقب السلوك سيؤدي في نظره إلى تكراره مستقبلا، أما الذي يتبعه عقاب أو تجاهل فلا يتكرر.
في اعتقادهم أن الخصائص الفطرية محدودة العدد، وأن الطبيعة الإنسانية غير فطرية، فتشكيل السلوك يتم من خلال آلية التعزيز لا غير.
6- الاكتشافات المذهلة في التباين الثقافي:
حاول الأنثروبولوجيون التعرف على العملية التي من خلالها يتم تشكيل الأفراد من خلال دراسة التنوع الثقافي، وكلما كانت المعطيات أكثر انحرافا، زاد الاحتفاء بها وتكرارها وابرازها في الكتب و وسائل الإعلام، على أساس أنها خاصة بأقوام معينين، إلى أن جاء فريدمان مناقضا أنها: خصائص كونية و لا يصح وصفها بالطوباوية.
مع مرور الوقت بدأت الصورة التي رسمها علماء الاجتماع، عن أن الطبيعة البشرية عبارة عن قدرة لاكتساب الثقافة، تتزعزع وأن هنالك أمورا أخرى ينبغي استكشافها.
7- أثر غارسيا، المخاوف الـمُعدَّة، وأفول السلوكية الجذرية:
في تجربة عن القردة لـ: هاري هارلو 1971 أثبت أن صغار القردة تبحث عن الأمان أكثر من الغذاء.
وكذا جون غارسيا وآخرون 1966 في تجربته على مجموعة من الفئران، حيث اكتشف أنها مبرمجة مسبقا لتعلم أشياء، بينما تجد بالغ الصعوبة في تَعَلُّمات أخرى.
إذن فافتراضات السلوكيين باعتبار البيئة المحدد الوحيد للسلوك عارٍ عن الصِّحة، بل توجد آليات أخرى ينبغي احتسابها حين تفسير السلوكيات.
8- إمعان النظر داخل الصندوق الأسود، الثورة المعرفية:
كان للثورة المعرفية دور في استكشاف أغوار عقل الإنسان عوض الاقتصار على البيئة واعتبارها أساس الاكتساب والتطور، فمن أجل إنجاز المهمات يتعين حل إشكالات و معالجة معلومات، والفخ الذي وقع فيه المعرفيون هو تعميمهم لهذا النوع من التعلم، مثلما فعل السلوكيون، حيث أغفلوا أن هنالك آليات معرفية صممت خصيصا لمعالجة فئات من المعلومات.
وقد افترض كل من: جون توبي وليدا كوسميدس (1992) إلى أنه بعد ثلاث دقائق يمكن أن يكون هناك مليون تتالٍ سلوكي يمكننا القيام به ( عبارة عن مجموعة كبيرة من الخيارات)، وهو ما يسمى بالانفجار التمازجي، فليس البشر مجرد لوح فارغ يتم ملئه بخيارات التعزيز، وإنما العقل البشري يحوي آليات معالجة المعلومات التي يتم إدخالها، لِتُحوَّل لاحقا إلى قواعد القرار، ومن ثَمَّ يكون السلوك عبارة عن مخرجات لمدخلات تَمَّ معالجتها.
إذن: فالفكرة القائلة بالاستعداد المسبق لدى البشر لمعالجة بعض المعلومات، يمثل توليفا حقيقيا لكل من علم النفس الحديث والبيولوجيا التطورية الحديثة.
—————————————-
الهوامش:
(*)- ديفيد باس، علم النفس التطوري: العلم الجديد للعقل، ترجمة: مصطفى حجازي، نشر مشترك لـ: كلمة أبوظبي، المركز الثقافي العربي بيروت، الطبعة الأولى 2019.
العنوان الأصلي للكتاب: (Evolutinary Psychology: the new science of the mind)
(**) – الفصل الأولى بعنوان: “الحركات العلمية التي تقود إلى علم النفس التطوري”
(1) – باحثة في طور الإعداد لرسالة دكتوراه في علم النفس بجامعة غرداية.
(2) – نص هذا الملخّص من مخرجات “منتدى مسالك المعرفة” الذي يعنى بمتابعة التطورات الحاصلة على مستوى الفكر العلمي الإنساني، بالتعريف بها ونشرها أولا ثم محاولة استثمارها داخل المنظومة الثقافية والحضارية وطنيا وإقليميا وكونيا. المنتدى تحت إشراف الدكتور محمد عبد النور.
شملت الملخّصات المقدمة عدّة كتب مرجعية في الفكر المنظوماتي والحيوي حديثة الصدور وكذا حديثة الترجمة، سنعرض لترجمات بعض من فصولها تباعا في ركن “مسالك المعرفة” من هذا الموقع