نص مداخلة اليوم الدراسي المقام بجامعة غرداية، تنظيم قسم العلوم الاجتماعية حول: منهجية إعداد البحوث العلمية. يوم 27/02/2017
على الطالب في نهاية فترة تكوينه أن يختار بحثا ينجزه يثبت فيه كفاءته العلمية من جوانب عدّة قد يكون غالبها تقني من قبيل البناء الشكلي للبحث وطريقة التهميش واستعمال المراجع وإتقان تقنيات البحث، فنسأل هل أن البحث المتقن من الناحية الشكلية بحث تسكنه الروح العلمية أم هو بارد وأصم؟
إن معيار الروح العلمية هو أن قارئ البحث سيكتشف أن هذا البحث له ما بعده، فالبحث المسكون بالروح العلمية يثير في قارئه إشكالات ويحفزه للتفكير، وهو الجانب الخفي الذي قد لا يظهر في البحث بشكل مباشر، والمنطلق يكمن في هل أن الباحث اختار بحثه بشكل يتناسب مع اهتماماته المعرفية الخاصة فحاول القيام بصياغتها صياغة تمكنه من الربط بين الأكاديمي العام والمعرفي الخاص، والسؤال بعد ذلك هل يملك الطالب بالضرورة اهتمامات معرفية؟
والرأي أننا أمام صنفين من الطلبة: طالب شغوف ومتطلع إلى التعلم وطالب مستقيل، طبعا ليس تصنيفا حادا وإنما الأمر متعلق بمستويات وتدرجات، حيث كلما قوي شغف الطالب بالتعلم ازدادت قدرته على ذلك، وهذا الشغف هو نفسه الروح العلمية، إذ تتجلى الروح العلمية خلال البحث بهل أن الباحث انصهر مع بحثه أم بقي طوال مدة الإنجاز باحثا عن لحظة إنهائه، وثانيا: هل كان الباحث كفؤا وذو مقدرة على توظيف ما حصّله خلال سنوات الدراسة.
وهنا تحديدا يكمن الإشكال: “كيف يمكن توظيف المعارف” التي حصلها الطالب توظيفا اجتهاديا وليس إعادة سردها من جديد، وهذا هو مفتاح الإبداع والتفوق لأن العلم يقوم على أساسين هما: إما أن أكون منتجا للمنهج، وإما أن أقوم بتوظيفه وهذا هو سر التعلّم والتقدّم فيه، ومعنى ذلك أن الطالب قد حصّل أدوات بحثه خلال فترة التكوين ثم بعد ذلك يقوم باستعمالها، ولست أطالب الطالب هنا ببلوغ مرحلة الاجتهاد قبل الأوان، لكن بوادرها تبدأ منذ اللحظة الأولى لاختيار البحث.
فالاختيار الموفق للبحث تعبير عن “ملكة طرح السؤال المناسب” وهذا الملكة قبل أن تكون علما صارما هي فن أولا يحضر فيه ذوق الباحث قبل علمه، وأصل البحث العلمي هو ملكة طرح السؤال، والتي تتجلى أساسا فيما يسمى بافتكاك موضوع البحث.
ومدلول الافتكاك يشير من بين ما يشير إليه القدرة على الانتقاء الأنسب لموضوع البحث، والمناسبة هنا تتعلق باستيعاب الباحث لأهم ما يدور في خلده هو من جهة ومن جهة ليتناول موضوعا يستحق البحث فعلا، كما أن الافتكاك في أحد مدلولاته هو دقة الاختيار من بين خيارات عديدة، كما أنه منافسة على حيازة السبق بين الأقران والزملاء، وكذلك وهذا الأهم المنافسة ليس على تجويد البحث فقط ولكن في محاولة الارتقاء إلى المسائل الحارقة والراهنة في التخصص.
وطرح السؤال هو التفاعل مع ما يتلقّاه الطالب من معارف، وذلك ما يظهر مثلا خلال الدروس الجامعية حينما يتدخل بعض الطلبة باستفسارات أو حتى إشكالات هي قبل أن تعبر عن قدرتهم تساعد الأستاذ في إيضاح الدرس وتفسيره أكثر فأكثر…
والتدخل الإيجابي خلال الدروس والمحاضرات يقوم بتدريب الطالب على روح السؤال، وثقافة السؤال المسؤول، لذلك فإن الروح العلمية تتجلى في هذه القضية طرح السؤال والرغبة في التفاعل مع الحقيقة المعرفية أيا كانت دون الاستقالة… والاستقالة تعني أمرين إما شعور الطالب بالبعد التام عن المستوى المطلوب أن يصله وهذه حالة يأس يجب أن تعالج، أو تعبير عن حالة تضخم الذات واستغناء عن المعارف وهذا أيضا مرض يجب أن يعالجه الطالب في نفسه بنفسه.
لذلك لابد من الاهتمام بمسألة بناء الطالب للروح العلمية في نفسه بذاته وأن يفهم بأن ذلك يختلف نوعا ما عن مسألة التحصيل العلمي الإجبارية، وأن أهمية التحصيل العلمي تتحقق عندما نمتلك السؤال الأمثل الذي يساعدنا على توظيف معارفنا المحصلة، فلابد أن نكون حاملين لقضية علمية كاهتمام وكهم أيضا حتى نتمكن من الإبداع والإنتاج العلمي الحقيقيين.
أما إذا سألنا لماذا كل هذا؟ فعلينا أن نعرف أن المؤسسة العلمية هي مبدأ كل حركة ونهوض يمكن أن نسعى إليه، أعني أن السير بالأمور نحول الأفضل يبدأ من المجال الرمزي الذي يعتبر البحث العلمي جزءا هاما منه إضافة إلى الفنون والآداب وغيرها…