لست هنا لأعرض رأيا فلسفيا بقدر ما أنبه بداية إلى أن المقصود بالمكانة هو المكانة الفعلية والمتعيّنة للفرد، حيث السؤال ما المعيار الحقيقي لمكانة الفرد في المجتمع، وذلك استنادا إلى أن المكانة إنما لها ظاهر ولها باطن، فأما الظاهر فمشهود ومعلوم لكنه ليس بالضرورة حقيقيا، فالجمهور قد يرفع شخصا لا مكانة له أو قد يفعل العكس، فأما المكانة الباطنة فهي أيضا فعلية وليست ميتافيزيقية، كما أنها لا تتعلق بالكفاءة الأخلاقية، إنما تتعلق أساسا بالبذل ومداه.
كم يبذل الإنسان إيثارا وكيف يبذل؟ لا يتعلق الأمر بإنكار الكفاءة الأخلاقية، لكن وددت التنبيه إلى ما هو أسبق منها في التراتب، ويشكل مرجعية للأخلاق وهو البذل، ذلك أن الأخلاق قد تختزل إلى سموت وآداب تنال بالكسب الشرطي (=التنشئة الاجتماعية) الذي لا يتعدّ ضربة حظ، حيث لا خيار للفرد في تحديد محيطه ولا استعداداته الفطرية، فكل ذلك يبتعد عن حقيقة البذل التي تقوم على:
1- مغالبة الذات و2- التنكر لرغباتها و3- إنكار أفضالها و4- الإذعان للصواب، بما يمكّن من بناء الضمير الصادق الذي لا يذعن لغير “الصواب” ويتعالى على كل محاولات التهوين والتهويل منه كشخص ممثل لتلك القيم. فالانتصار للكرامة يكون لما يمس القيم المعيارية أو الموضوعية لا الذات الأنانية. فقطب الرحى في مسألة “البذل” ليس هو التمرن على الالتزامات رغم ضرورتها، إنما الأساس هو كيفية الحفاظ عليها في ظل منزع إنساني غريزي نحو الاستسلام لما يهون من البذل أو ما يهول منه، فكثرة الإطراء مقعدة وكثرة الجحود أيضا مقعدة، فتنبّه الإنسان إلى ضرورة محاربة المتملقين والمتنمرين من حوله لئلا ينحرف تباهيا بالاستجابة للتملق الزائف أو إخلادا بالاستجابة للتنمر الحقود.
البذل هو الأثر الحسن، وكلما اتسعت دائرة الأثر الحسن للفرد ارتقى في معايير المكانة الأخلاقية، فهي مكانة فعلية حقيقة لا توهم أو خيال فيها بعيدا عن أحكام الجمهور، فقد يكون أثرا معنويا أو قد يكون ماديا لكنه في الحالين فعلي جدا لأنه يخترق الفرد في كينونته الشعورية، ومراتب البذل أربع: 1- كلمة طيبة. 2- هدية قيمة. 3- مساعدة آنية. 4- تعليم قمين. إلا أن شروط البذل ومحصناتها هي مقدمات فحسب، أما المعيار أولا وأخيرا هو السلوك لأنه يتجه نحو الآخرين وهو منتهى المسار الأخلاقي. والله أعلم