بعض محدّدات الفكر الفلسفي عند أبي يعرب المرزوقي

الاستئناف غاية والاستخلاف منهجا

– الورقة مقدّمة في الأصل إلى ملتقى كانت الجمعية الفلسفية الأردنية تعتزم إقامته حول تقييم أعمال عدد من المفكرين العرب بعمّان خلال الصائفة الماضية أوت 2016، لكن تعذر تننظيمه.

كما هو وارد في العنوان (*)  سنخصص هذه الورقة البحثية لمكاشفة بعض المناحي الأساسية في أعمال الأستاذ أبويعرب المرزوقي التي تختلف في عناوينها وتتوحد في تخصصها الفلسفي، ولعل المدخل الأفضل لاستيعاب أعماله يكمن في محاولة تفكيك أطروحته الفكرية إلى شطرين أحدهما تخصصي ينهل من كبار فلاسفة الإسلام والغرب، والآخر عمومي يصدر عن قراءة شبه موسوعية للواقع الحضاري والتاريخي والراهن، لذلك سنحاول في هذا البحث القصير الوقوف عند أحد أهم مفهومين في فكر أبي يعرب المرزوقي الأول فلسفي تخصصي وهو مفهوم الكلي والثاني حضاري عام هو مفهوم الفعل المؤسس كما يلي:

1- فكرة الكّلي بوصفها مدخلا للطرح التخصصي عند أبي يعرب.

فقد يكون المدخل لاستيعاب فكر المرزوقي هو فكرة الكلّي باعتبارها "مفهوما تأسيسيا" من الناحية التخصصية، وباعتبارها "أداة منهجية" في تحليل الواقع الحضاري الراهن من الناحية العامة، ذلك أنه وجد فيه ما يمكن أن يصله بجذور الأزمة التي يعيشها الفكر العربي عامة سواء ما تعلّق بالنخبة أم بالجمهور، وما يمكن أن يكون قد ميّز مساره في تحقيق المطلوب أمرين:

أولا: تحديد طبيعة الكلي كما تعيّن في الفلسفة اليونانية والتقليد التوراتي.

ثانيا: خاصية هذا الكلي كما تعيّن في الفلسفة العربية والرؤية القرآنية.

إن الكلّي أولا مفهوم عقلي محض وظيفته توحيد ما يبدو مشتتا من الناحية الظاهرية، أو بعبارة أخرى مفهوم يتحقق بعد المرور بالجزئيات الكثيرة التي يقوم العقل بعدها باكتشاف المشترك بينها، له دور اكتشاف الرابط الناظم والموحِّد للأشياء، والنتيجة أن الكلي يجعل الوجود أمرا معقولا، لذلك فقد اعتبر المرزوقي أن منزلة الكلي في الفلسفة والكلام جاء من السعي إلى تحديد منزلة العلمين النظريين (المنطق والرياضيات)  والعلمين العمليين (التاريخ والسياسة) وجوديا ومعرفيا[1].

ومن التعريف المتقدّم نفهم أن الكلّي يقع في لبّ الاشتغالين الديني والفلسفي باعتبارهما العنصران الجامعان المانعان لكينونة الإنسان، ومن ثم فلا يخل أي دين أو فلسفة منهما، بهذا الفهم عرّج أبويعرب إلى منابع الفكر الفلسفي متتبعا تاريخ هذا المفهوم بغاية اكتشاف خصائصه، ولعل الخاصة المبتغاة من طرف أبي يعرب هي خاصة منهجية، فمما تقدّم اتضح أن الكلي ليس ذات متجوهرة وإنما هو ما يحصل عن ديمومة عمل العقل، وبالتالي فإن المرزوقي أراد أن يكتشف منهج الوظيفة الانعكاسية[2] للعقل في التاريخين الفلسفي والديني، إذ هنا يكون قد بلغ بالسؤال المنهجي غايته، فماذا كانت النتيجة؟[3]

لقد توصّل إلى أن سقراط كان أول من نبّه إلى وجود عالم يقابل الحس هو عالم الأفكار وأن هذه الفكرة بلغت غايتها عند أرسطو الذي صاغ مفهوم "الكلي الواقعي" ويعني به إمكان حصر الوجود في العقل أو إمكان محايثة العقل للوجود، ومعنى هذا القول أن داخل كل شيء صانع يبدع مادته (مادة الشيء) حسب مثال مسبق، وهذا يعني أن الماهية تكمن في صلب الطبيعة، وأن الطبيعة تستغني بذاتها عن أي عنصر خارجي بما فيه الإله، وذلك معنى الكلي الواقعي أي أن ما ليس بواقعي ليس موجود فننتهي في الأخير إلى فكرة إمكان المطابقة بين العقل والوجود هذا الذي سيجد فيه المرزوقي إشكالا ينقله إلى استكشاف التعامل مع فكرة الكلي في الفكر العربي[4].

استنادا إلى الآيتين (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) و (لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) وكذا إلى أعمال أبي حامد الغزالي رأى المرزوقي أن القول بماهية ثابتة في الطبيعة سيحد العقل من الاستمرار في البحث وسيجعله يكتفي بما قد تحقق من المعرفة حولها توهما لإمكان استنفاذ حقائق الطبيعة كما وكيفا، وأن إدراك الغزالي لمفهوم الإمكان في السببية عوضا عن الضرورة فيها حصل انطلاقا من السببية الفقهية، وهذا ما يوصل المرزوقي إلى استكشاف السنّة[5] التي تسم الطرح الفكري العربي الإسلامي[6].

فحتى لا يبقى العقل منفعلا بالطبيعة ومراوحا للتعلّم والشروح كان لزاما الإحاطة بما حدث في الفكر العربي من "تغيير للشرط الوجودي للمعرفة" بوصفه نقلة نوعية وإضافة أساسية لم يُنتبه إليها كثيرا والتي مفادها السلبي يكمن في رفض القول بحتمية العلاقة بين العلل والمعلولات في الطبيعة وتصورها ضرورية بما يجعل من العلم لا يجاوز أمور جاهزة نتعلّمها ونردّدها، وأما المفاد الإيجابي للثورة الفكرية في الفلسفة العربية فهو بالنتيجة الفصل التام بين العقل (الماهية والقيم) والطبيعة (العلاقات السببية) أو نهاية الوحدة المتصورة بين العلم وموضوعه، ومن ثم نكون قد أزحنا الكلّي من أن يكون جوهرا ثابتا إلى اتخاذه وسيلة إجرائية في معرفة حقائق الطبائع والشرائع، وفي هذا يشير محمد شيدوقة في خضم تعريفه بالعمل اليعربي بخصوص الكلي إلى ما يلي: "فالمعرفة نظام إجرائي يؤسسه العقل بعد النظر في الطبيعة، ومهما بلغ من الدقة فلا يمكن أن نخضع له نظام الطبيعة، فهذا تساو بين الإدراك وموضوع الإدراك وفي ذلك تجميد للعلم، وللفعل الحضاري ككل."[7]

وننتهي من ذلك كله إلى أن الكلي الذي كان قطب الرحى في تفكير المرزوقي سار به ليبدع بين المفكرين من مجايليه على غير مثال، فهو لم يسع لنحت مفهومات خاصة به يطبع بها المشهد الفلسفي العربي ولا إلى الدعوة إلى مشروع فكري محدد المعالم، لأن ذلك لم يكن ليخرج به وبنا إلى تنسّم حقيقي لآليات الإبداع ومصادره بما سيُبقي بالضرورة ضمن فلك الاستهلاك الفلسفي لما هو حاصل من المعرفة والارتهان بها، إنما كان سعيه أساسا إلى استكشاف الجوهر المنهجي في الممارسة الفلسفية الحقة وتفكيك "العلبة السوداء" التي فيها تتم صياغة ليس الرؤى والتصورات وإنما صياغة طبيعتها وتحديد محل صدورها، ليبقى جهدا تأسيسا خطيرا خطورة مسألة الوعي بصياغة أسس النظر والعمل في الواقع الإنساني، وهذا يعني أن اختيار موضوع الكلي لم يكن مسألة تحكّمية تخضع لرغبة واتجاه الباحث، لذلك فإن الكدح الأساسي لفيلسوفنا تجلى في البحث أولا عن الثغرة الرئيسة التي تعدم إمكان التفلسف الحقيقي والتي لابد من المرابطة عليها انطلاقا من التشابه والاشتباه الحاصل في التغراث البيّنة في سور الانحطاط العربي الإسلامي.

وليس من نافل القول أن الحل اليعربي لمسألة الكلي[8]، سوف لن يبقى حبيس الاشتغال الفلسفي بل ستكون له امتدادته النظرية لا محالة في مجالات علوم الطبيعة منها وعلوم الانسان برمّتها، وكذا امتدادته العملية في ميادين السياسة والاقتصاد والمجتمع بشكل شامل.

والمحصلة أن اختيار الكلي كمبحث والتعمق فيه حدّ مكاشفة مغاليقه التي استعصت على المفكّر الغربي قبل الشرقي كان اختيار موضوعيا، أعني أننا أمام فيلسوف بحث إشكالا كونيا يعترض الممارسة الفكرية بعامة، لذلك سنمر الآن إلى معاينة تجلّيات هذا الاختيار من خلال الوقوف أهم مفهوم طرحه في كتاب شروط نهضة العرب والمسلمين وهو مفهوم الفعل المؤسّس.

2- الفعل المؤسس بوصفه مدخلا للطرح الحضاري عند أبي يعرب.

يتصور أبويعرب أن تماما حصل منذ البداية في الحضارة الإسلامية وأن هذا التمام قبل أن يحصل جاء بالتدريج على مرّ التاريخ الروحي البشري الذي جسّدته الرسالة الإسلامية في الوحي الخاتم، وهنا يشدّد فيلسوفنا على أنه ليس مجرد وحي بل هو وحي خاتم للوحي، وهنا نكون أيضا أمام خصوصية تضع الإسلام وحضارته في موقعها المخصص لها بأنها الرسالة الأتم والأكمل[9].

فالفعل المؤسس في الحضارة الإسلامية يأتي حدّا فاصلا بين زمنين كونيين هما زمن النبوة وزمن مابعدها، بعبارة أخرى فإن زمن المعجزات المرتبط بالنبوة قد ولّى وانتهى وأنّ المعجزة الوحيدة التي ميزت الإسلام هي الصفة المضافة إلى الوحي وهي الختم والتي اقتضت صفتان رئيستان له هما: الحفظ والمجد، أو قل ثبات النص وثراء معناه الذي يتكشّف عبر الزمن باعتباره المعجزة الوحيدة والمفارقة لنمط الإعجاز المتقدّم على الإسلام.

ويخصص أبويعرب في شروط نهضة العرب والمسلمين مبحثا في شرح هذا الفعل المؤسس ومدلولاته الرئيسة، منطلقا أولا من اعتبارين هما[10]: اعتبار منزلة اللغة العربية بوصفها الأداة المختارة التي بها تنزل الوحي بما لا يدع مجالا للخلط بين أن يكون تنزل الرسالة الإسلامية على العرب اختيارا لهم بمنطق "الشعب المختار" والمفضّل على سائر الأقوام، وبين أن يكونوا القوم المجتبى لأداء الأمانة الإلهية وتبليغها للعالم أجمع.

والاعتبار الثاني يكمن في أن للرسالة الإسلامية في حدّ ذاتها دلالات أسّسها النبي صلى الله عليه وسلم في المجتمع الإسلامي الأول بما هي وعي لابدّ منه، والمعنى استلهام التجربة المحمدية التاريخية وعيا بوصفه "نموذج مثالي" يمكن البناء وفقا له، ولعل الفعل المؤسس هنا كلّه يتمحور حول المعنيين الشعب المختار نفيا والنموذج المثالي إثباتا، فكيف تحققت الرسالة الإسلامية كما عبّر عنها القرآن ذاته؟

من أجل تمام مضامين الدين وبلوغها مرحلة الكمال المتجسدة في الإسلام روحًا وشريعة، كان لا بُدَّ من رسالات سماوية خمس كما تعينت عند أولي العزم من الرسل[11]: آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، حيث محمد  صلى الله عليها وسلم ورسالته جوهرٌ لتلك الرسالات يستمد منها وجوده وتجاوزه لها؛ «لذلك: فهو ليس رسالة سادسة، وإنَّما جوهر الرسالة في كل الرسالات الأخرى المتضمنة للجزر والمد في التدرج الإنساني نحو الإدراك السليم لعلاقة الاستخلاف أو لشهود المطلق»، فما هي التأسيسات التي قامت بها الرسالات السابقة على الإسلام؟

1- آدم تأسيس المؤسسة الأسرية وانطلاق التاريخ الروحي للبشرية، والتاريخ الروحي هنا معناه التجارب الروحية وتطورها مضمونيا لتحقق غايتها في التجربة المحمدية حيث تكون الأسرة هي قطب الرحى في تلك التجربة من حيث تتالي النسل ذي العلاقة مع الاجتباء.

2- نوح استئناف الحياة الأرضية وانطلاق التاريخ الاجتماعي ذي المحور الاقتصادي، بعد البناء الروحي يأتي البناء الاقتصادي مع اقترانهما، وذلك ما تجلّى بناء السفينة ونجاة المؤمنين إحالةً إلى اقتران الإيمان بالسبب المادي من أجل النجاة بما هو تحقق لمفهوم الاجتباء بمعناه الاجتماعي العام.

3- إبراهيم، بعد تأسيس الزمان والمكان الروحيين جاءت مرحلة إدراك الإنسان استقلاله عنهما، ذلك كان جوهر السؤال الإبراهيمي الحائر الذي عالج به إشكالية موضع الإنسان في معادلة الوجود، ذلك ما أسس لفكرة التعليم وتأسيس مؤسسته عملا على حفظ التجارب وضمان التقدّم بالسؤال الروحي والعلمي.

4- موسى تجربة إصلاحية في تجاوز الاستعلاء والاستضعاف بوصفها حالتان مرضيتان، وأن تغيير ما بالنّفس يقتضي التحرر الجذري من مسبباتهما العميقة وليس تحررا من ظواهرها[12]، ذلك معنى تأسيس المؤسسة المدنية التي لا تفاضل فيها إلا على أساس التقوى.

5- عيسى تجربة إصلاحية في تجاوز الاجتباء على أساس النسل وتأسيس المؤسسة السياسية التي تسيّر شؤون العباد دون طغيان عليهم، إذن تكون المؤسسة السياسية هنا أداة في تحقيق الاستخلاف لا غاية في إشباغ رغبات الذات القاصرة.

بهذا الإيجاز التاريخي تتشكل الرسالة الإسلامية بمؤسساته الحضارية الخمس المتقدّم ذكرها: الأسرة، الاقتصاد، التعليم، المجتمع المدني والنخبة السياسية، والتي تعالج كيفياتُ قيامها وطرقُ عملها أدواء البشر على مر التاريخ، ذلك الذي شكّل جماع مفهوم الفعل المؤسس كما عرض له أبويعرب المرزوقي والذي أحاله إلى فكرة "الوحي الخاتم للوحي"، أي أنه مصدر ديني للتأسيس الحضاري تماما كما كان الكلي الإسمي المصدر الحضاري للتأسيس الديني، هذا الذي يسم الفلسفة اليعربية في عدم مناصبتها العداء للدين وتفيؤها ظلاله، حتى أنه يمكننا القول أنه الحل اليعربي لمعضلة الدين لمابعد النبوة وهو ذات الحل للمعضلة الفلسفية في العصر الحديث، حتى أن اللحظة التاريخية لتأسيس الفعل المؤسس ستأخذ مكانتها التاريخية باعتبارها لحظة تدشين لا تكون اللحظات الأخرى ضمنها إلى لحظات جزئية سواء ما تعلّق بالدين كما تقدّم أو حتى بالفكر، أعني أن لحظة الفعل المؤسس ستبقى اللحظة الكلية فلا تتمايز اللحظات الحضارية إلا قياسا إليها وتميزها يقاس بمدى اقترابها من لحظة التأسيس وذلك معنى قول أبي يعرب بأن كل محاولة استئناف تكون سعيا في التدرج لإدراكها[13].

فهو الفعل المؤسس لنظرية الاستخلاف بوصفها تجاوزا للوعي الجحودي المؤدي حتما إلى الموقف الحلولي ذي المنطلق القائم على الكلي الواقعي إلى الوعي الشهودي ذي المنطلق القائم على الكلّي الإسمي المؤدّي حتما إلى الموقف الاستخلافي.

3- بمثابة الخاتمة: كيف تدرّج أبويعرب وصولا إلى الكلي الإسمي؟        

مما تقدّم نستطيع القول بأن الفعل المؤسس عند أبي يعرب هو المرآة العاكسة لفكرة الكلي الإسمي فهما الوجهان لعملة واحدة، ذلك أن الفعل المؤسس هو التجسيد التاريخي لفكر الكلي المطلقة حصرا لها ولبدايتها في لحظة ظهور الرسالة الإسلامية التي جمعت بين التمامين العقلي والديني معا، التمام العقلي لما سيأتي والتمام الديني لما مضى، ومنه فإذا كانت فكرة التمام اكتشافا فلا يمكن نسبتها إلا لأبي يعرب، لذلك كان السؤال عن التدرج الذي بلغ به إلى ذلك التمام، أعني المحطات التاريخية التي جعلت منه يصل إلى الخلاصة المتقدّمة.

غير خاف أن أبا يعرب يمرّ بثلاث فلاسفة في تاريخ الفكر العربي معتبرا إياهم العماد الرئيس الذي من دونه لم يكن ليحصل تمام اكتشاف التمام وهم الغزالي، وابن تيمية، وابن خلدون، وسنحاول النظر إليهم من الرؤية السائدة فنقارنها بموقف المرزوقي منها ومنهم.

1- الغزالي: يعرف في التقليد السنّي بأنه حجّة الإسلام وصاحب الإحياء العامل على تجديد الدين، ويعرف في التقليد الفلسفي بأنه أحد قطبي أشهر جدالات الفكر في تاريخ الفكر العربي الإسلامي، وأن الدارج في الشعور العام هو انتصارية ابن رشد على الغزالي بحكم انتصاره الظاهري للفلسفة والفلاسفة، بينما فيلسوفنا ينتصر للغزالي من بابين فهو أولا يميل بوضوح إلى موقف الغزالي، أي يميل إلى القول بتهافت الفلاسفة، وتفصيل ذلك أن تلكؤ الغزالي للفلسفة لم يكن إعراضا عن التفكير بل كان اعتراضا على منهج تفكير مقابل منهج موازٍ يتجاوزه، والمعضلة أنه بقي منهجا مجهولا وما يزال عند الغالب الأعم من الناس، والوجه الثاني لانتصارية المرزوقي للغزالي يأتي في ذات مضمون جدله مع ابن رشد، ذلك المتعلّق بالسببية، مبينا أن السببية عنده لا تقول بالضرورة في الطبيعة وإنما تقول بالإمكان فحسب وفي ذلك انقلاب منهجي أشبه بانقلاب كوبيرنيك بل هو أعظم منه والمفارقة أن نتائجه لم توظف أو تستثمر إلى غاية اللحظة، فكان الغزالي أول المكتشفين لروح التفكير في الإسلام المفارقة جذريا لروح التفكير الإغريقية، وهو الاكتشاف الضامن لإمكان استئناف الفعل الفلسفي في الفكر العربي حسب المرزوقي، ذلك أنه يعدّ كشفا لطريق جديدة للمعرفة المابعدية في المجاهدة الصوفية التي التي تروّض النفس بتطهيرها وتجعلها قادرة على الصعود إلى معرفة اللامتناهي معرفة حدسية[14].  

2- ابن تيمية: اتفق عليه الضدّان الوهابي وجميع خصومهم، اتفق عليه الوهابي في فتاواه واتفق عليه غير الوهابي ضد فتاواه، لذلك كان تولي المرزوقي شطر ابن تيمية شكّل ما يشبه فتنة، بينما كان الأمر متعلّقا بمحاولة تخليص من احتكار ابن تيمية واحتجازه ضمن مربّع القراءة الاختزالية لفكره، سواء كان مع أو ضدّ، واتفاق الخصوم حول ابن تيمية جاء من باب الفتوى الذي هو فقه عملي مرتبط مباشرة بالواقع لا تعبّر عن العمق النظري الحقيقي للرجل، لذلك فقد استند التصور السائد إلى ابن تيمية على ذات التصورات الراهنة التي بني عليها الفكر العربي والتي يصفها أبي يعرب بالعجلى غير المستندة إلى عمق في التكوين العلمي، حيث الإشكال أن النظرة الموصوفة عن ابن تيمية صادرة عن المثقفين العرب يفترض أنهم ذوو تكوين علمي في مجالاتهم، وهي تعبّر عن سطحية شاملة يعاني منها الفكر العربي[15]، أيا كان لا يتعلّق الأمر بأقنمة ابن تيمية، إنما توصّل المرزوقي إليه كنقطة ارتكاز في تحقيق شروط إمكان الفكر العربي، أي في تحقيق شروط الاجتهاد والتجديد التي تضمن اختصاص الفكر العربي بميزته الإبداعية في المسيرة الحضارية لتاريخ الفكر البشري[16]، فمن جهة توصل إليه من باب بحثه مسألة الكلّي وكيف كان ابن تيمية صاحب رؤية نقدية عميقة مكنته من تجاوز السنة اليونانية في استبطان مفهوم الكلي الواقعي واستنباطه الكلي الإسمي من روح النظرة القرآنية.

3- ابن خلدون: كذلك تناول أبويعرب المرزوقي ابن خلدون من باب الكلّي، فابن خلدون ومع فكره العقلي الموضوعي المشهور عنه، كتب فصلا في مقدّمته بعنوان: فصل في إبطال الفلسفة وفساد منتحلها[17]، وربما كان ذلك مدخل المرزوقي إليه، أعني المفارقة بين موضوعية ابن خلدون ونقضه للفلسفة، وكأنه مدخل عكسي لابن تيمية، ذلك أن الاتفاق على ابن خلدون عكسي تحيز إليه العقلانيون ونفر منه النقليون، إلا أن الغوص في تفاصيل المقدّمة يكشف عن تراثيته الراسخة في اجتهاداته، فقد نسج في المقدّمة على منوال الغزالي من رفض لمنهج المعرفة اليوناني، ذلك الذي يستعصي فهمه ظاهريا لكونه ينطوي على عمق منهجي يقتضي حفرا يتجاوز التصورات العجلى والمباشرة في تفسير الفكر الخلدوني، فإذا كانت نقدية ابن تيمية قد أحذن منحى نظري فأن نقدية ابن خلدون ارتكزت على الوجهة العملية، وذلك ما يدل عليه تسمية علمه الجديد: علم العمران البشري والاجتماع الإنساني.

ذلك أن إدراك عمق المفارقة سينتهي بنا حتما إلى كشف رئيسي مفاده أن الفكر في طبيعته الأصلية يفارق المنهج اليوناني في التفكير، أي في النهاية التمكّن من فك الارتباط بين الفكر بما هو فكر والفكر بما هو منهج يوناني كان السائد الوحيد الذي حققّ تقدّما بالفكر البشري إلى درجة صار فيها الفكر والمنهج أمرا واحدا، ذلك الذي سعى أبو يعرب من خلال ابن خلدون خاصة إلى بيانه في سبيل إنطلاق عهد تنويري مفارق.

فكان من الأمثلة التطبيقية لتجاوز السنن اليونانية في التفكير كما صاغها الرجال الثلاثة ما تجلى في محاولة مركزية لأبي يعرب بعنوان "مبادئ العقل وقيمه"[18] سعى فيها إلى استعادة مبادئ المنطق المنسوب لأرسطو إلى المجال الإسمي الشهودي فانتهى إلى إدخال عنصرين جديدين عليه بما اقتضى إعادة تعريف جميع المبادئ السابقة وفقا لذات المنطق الإسمي، والمبدآن المضافان: 1- مبدأ الترجيح و 2- مبدأ التحقيق، فصارت معايير الجمال والأخلاق والمعرفة والقيم جهوية ووجودية تقوم على أساس جديد، فكان إصلاح مبادئ العقل والمنطق ذروة الاجتهاد اليعربي في إصلاح العقل العربي، وذلك لكونه أيسر الطرق إلى الإدراك الشهودي بوصفه اختصارا للجهد البحثي المضني الذي لن يكرره أحد غير أبي يعرب المرزوقي وإنما استثمار له بلا نهاية، وفي الأخير فإن المتوقع بخصوص مسار المنهج الذي أسسه فيلسوفنا أمران:

الأول: هو تواصل انتشار فكره أفقيا بين فئات متزايدة من الجمهور العربي بخاصة والمسلم بعامة بغض النظر عن أصول تلك الفئات الطبقية والثقافية، وذلك للطابع الذاتي الذي يتسم به فضلا عن خوضه كفكر وكشخص منفّذ لخطوطه الكبرى من علاج لقضايا الواقع العربي[19] التي تمس صميم حياة الفرد العملية والنظرية.

الثاني: ازدياد تأثير فكره عموديا في الوعي العام في مختلف مجالاته خاصة السياسية والدينية والعلمية بالمعنى العملي المباشر، ذلك أن إصلاحاته في موضوعات، 1- الكلي الذي يمس المعرفة و2- الفعل المؤسس الذي يمس الدين و3- المنطق المؤسس للعلم التجريبي منه والبديهي بما سيخلق حالة عامة من الفوران الحضاري ستنتهي حتما إلى تشكيل حقبة نوعية جديدة في تاريخ العرب والمسلمين عامة.

 

 


(*)  – هذه الورقة مقدّمة في الأصل إلى ملتقى تعذّر إقامته كانت الجمعية الفلسفية الأردنية تعتزمه حول تقييم أعمال عدد من المفكرين العرب والذي كان مزمعا بعمّان خلال الصائفة الماضية (أوت 2016).

[1]  – أبويعرب المرزوقي، تجليات الفلسفة العربية: منطق تاريخها من خلال منزلة الكلي، دار الفكر دمشق الطبعة الأولى 2001، ص 38

[2]  –  الانعكاسية هنا تأتي باعتبار أن الكلي لا يحصل في لحظة استخدام العقل في الجزئيات التي يمر منها بالضرورة وإنما يحصل بتقليب النظر فيها وهو ما سميناه بالوظيفة الانعكاسية.

[3]  – أنظر الدراسة المميزة التي جاءت بعنوان: الكلي في فلسفة أبي يعرب، محمد شيدوقة، موقع الحوار نت، نشر بتاريخ 24/04/2010 وشوهد بتاريخ 10/06/2016

[4]  – يذكر أبويعرب المرزوقي في أحد حواراته التلفزية إصابته بأزمة وجدانية عندما قرأ لهيغل قوله أن الحضارة العربية لم تضف شيئا إلى الموروث الإنساني، وهذا الذي دفعه لتحري قوله بالبحث في تاريخ الفكر العربي.

[5]  – نلاحظ هنا أن أبويعرب يعتمد اصطلاح السنّة بديلا عن مصطلح المنهج، وهو في رأينا نحت أصيل لكون كلمة المنهج أكثر عمومية وكثيرة الاستعمال بينما لفظ السنة يشار به إلى "طريقة" عمل الكلّي بوصفه أعمق وأشمل منهج، لذلك كان من الهام تمييزه عن بقية الطرق أو المناهج الناجمة عن الكلي…

[6]  – أبويعرب المرزوقي، مفهوم السببية عند الغزالي، دار بوسلامة للطباعة وللنشر، الطبعة الأولى، د ن، ص 110.

[7]  – محمد شيدوقة، المرجع نفسه.

[8]  – نقصد باصطلاح "الحل" النتيجة الأخيرة التي توصل إليها وهي استكشاف الخصوصية الفكرية العربية المفارقة في مسألة الكلي والمحررة له من الارتهان والتي ستطلق فكره في الدخول في تجربة إبداعية غير مسبوقة، وهو نفس الاصطلاح الذي يعتمده المرزوقي في كتاباته.

[9]  – أبويعرب المرزوقي، شروط نهضة العرب والمسلمين، دار الفكر دمشق، الطبعة الأولى 2001، ص 12

[10]  – المرجع نفسه، ص 100

[11]  – أنظر مقالنا: لماذا الإسلام أجدر بقيادة البشرية: أسس نظرية الاستخلاف عند أبي العرب المرزوقي، موقع مركز نماء للبحوث والدراسات، نشر بتاريخ 24/04/2016

[12]  – هنا تحضر فكرة القابلية للإستعمار التي صاغها المفكر الجزائري مالك بن نبي بوصفها العامل المتمم بل والشارط للإستعمار، لذلك فمواجهة الاستعلاء لا تكون بنفسية مستضعفة، أي بمعنى التحرر من العوائق الذاتية عن الاستقلال.

[13]  – شروط نهضة العرب والمسلمين، مرجع سابق، ص 12

[14]  – أبويعرب المرزوقي، مفهوم السببية عند الغزالي، مرجع سابق، ص 93

[15]  – وفي هذه الإجمال والمواقف العامة التي تسم آراء المرزوقي جاء موقف الدكتور الطيب تيزيني في أحد حواره مع أبي يعرب بأنه يقف موقفا "مباغتا للجميع"، أنظر: أبويعرب المرزوقي والطيب تيزيني، آفاق فلسفة عربية معاصرة، دار الفكر دمشق، الطبعة الأولى 2001،  ص 249

[16] – أنظر: المبحث: فلسفة هذه العلاقة (بين الصورية الرياضية والتجريبية النظرية) عند ابن تيمية،  أبويعرب المرزوقي، إصلاح العقل في الفلسفة العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الرابعة 2011. ص ص 173 179

[17]  – عبدالرحمن ابن خلدون، المقدّمة، دار الفكر بيروت، الطبعة الأولى 2004 ص ص 532 537

[18]  – أبويعرب المرزوقي، مبادئ العقل وقيمه، موقع عابد الجابري. بدون تاريخ النشر، شوهد بتاريخ 20/06/2016

[19]  – أنظر مساهمات أبي يعرب بخصوص الربيع العربي ومساراته إلى غاية اللحظة.

داخل الملتقيات
أبريل 2025
د ن ث أرب خ ج س
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
27282930  

الأرشيف

إحصائيات الموقع

167193
اليوم : 75
الأمس : 117
هذا الشهر : 4369
هذا العام : 15905
مشاهدات اليوم : 320
مجموع المشاهدات : 506474
المتواجدون الآن : 2