مشكلة الضعف اللغوي في تحرير الرسائل الجامعية

مكامن الخلل وشروط العلاج (*)

في أحد وجوهها، ليست الرسائل الجامعية إلا جملة من الكلمات والجمل والفقرات، وبتعبير آخر فإن الرسالة الجامعية وقبل أن تكون موضوعا يتم بحثه وبناء علميا لإشكاليته وتخطيطا لفصوله واختيارا لتقنيات إنجازه هو قبل ذلك جملة من التعابير والأساليب اللغوية التي تشكل مادته الأساسية.

لذلك يفترض بصاحب البحث أن يكون صاحب كفاءة وقدرة على إنتاج النصوص، ما يعني أن بلوغ درجة البحث العلمي يشترط تكوينا قاعديا متينا في اللغة عبر مسار تكوين الطالب الجامعي، تكوين يجعله متحكما في اللغة وقادرا على التعبير بطلاقة شفويا وكتابيا؛ والمعلوم أن  الرسالة الجامعية هي العمل الذي يكشف عند نهايته أحقية الطالب في استحقاق درجة البحث العلمي من عدمها.

وإنّ فَقْد القدرة والكفاءة على إنتاج النصوص هو مما لا يمكن تداركه خلال مرحلة إنجاز الرّسالة الجامعية، لكونه يقتضي تدريبا وتكوينا طويلا يفترض بالمراحل الأساسية من التعليم أن تزرعه في الناشئة، لذلك فإن الإتقان في إنجاز الطالب الجامعي لرسالة التخرج سيصبح منطقيا غير ممكن، “وفاقد الشيء لايعطيه”؛ ويحق لمعترض أن يسأل، قد يكفي النزر اليسير من اللغة والأهم هو إتقان الجوانب المنهجية، فلماذا التركيز على إتقان اللغة؟

اللغة في أحد تعريفاتها بناء من قواعد متفق عليها، من خلالها يُكّيٍّف المتكلم أو الكاتب أسلوبه حسب موضعه وموقعه ليتناسب معه، ومعنى ذلك أن منطق اللغة ليس اعتباطيا، إنما لابد أن يتناسب مع الظرف من حيث أزمنة الأفعال، التأنيث والتذكير والإفراد والجمع وغيرها مما هو مشترك في جميع اللغات، وفضلا عن ذلك فإن اللغة هي عدد غير محدود من المفردات كلما اكتسب منها الطالب أكثر كلما صار أكثر تحكما، فضلا عن قابلة اللغة لتعدد الأساليب، وأسلوب الطالب في تحرير رسالته يصبح أفضل كلما استعت قراءاته الأدبية والعلمية.

ومحصّلة القول أن التمكّن من اللغة شرط تأسيسي وحتمي للتمكّن المنهجي في البحث العلمي، ومعنى ذلك أن التكوّن في اللغة هو في الأصل تكوين أساسي في منهجية التفكير العلمي، وأن منهجية البحث العلمي تأتي كبناء فوقي على الكفاءة اللغوية للطالب الجامعي، فإذا لم يبن البناء التحتي (اللغة) على أسس متينة جاء كل بحث علمي مهلهلا وغير كامل الأركان.

إذن للغة منطق خفي غير ظاهر تستند إليه، وهذا يعني أن الطالب الذي تكوّن جيدا لغويا يكون بالضرورة قد حصّل تكوينا منطقيا في طريقة التفكير من حيث ضبط ودقّة: أ- النحو ب-المفردات، ج- الأسلوب.

ولمّا كانت غاية البحث العلمي –ومنه الرسائل الجامعية- هي الدقة والضبط كان التحكم في اللغة هي القاعدة الخلفية لكل بحث علمي منجز بإتقان؛ وعلى ذلك فإن أغلب آفات البحث العلمي وخاصة الرسائل الجامعية تنتج عن ضعف التحكم في اللغة بشكل مباشر أو غير مباشر:

  • ضعف الأسلوب اللغوي، لا يمكن أن يصل الطالب إلى التحكم في الأسلوب العلمي للكتابة إذا لم يسبق ذلك تمكنه من الأسلوب العام للكتابة مثل الأسلوب الأدبي أو أسلوب التقرير الصحفي وغير ذلك، حيث يمكن اعتبار الأسلوب العلمي أعلاها مستوى من حيث توجه الخطاب العلمي إلى فئة محدودة هم المختصون في الميدان، كما لا يمكن أن نبحث ونتحدث عن بناء علمي لإشكالية البحث دون رصيد لغوي متين، ولما يفشل البناء العلمي للموضوع فلا يجب انتظار خطة بحث ذات مستوى علمي مقبول.
  • الانتحال أو ما يسمى بالسرقات العلمية بمختلف أنواعها، بداية من الاقتباس الكامل للفقرات والنصوص، أو عدم الإشارة إلى صاحب النص وانتهاء إلى انتحال السبق العلمي، بحيث يكون الغرض ملء الصفحات بالكم النظري، والاعتقاد بأن النتائج التطبيقية هي الأهم، وهذا تصور شنيع في حق البحث العلمي وتكامله وهو ما سبب ضعفا معرفيا رهيبا في التكوين والانتهاء إلى تخريج تقنيين في العلوم الاجتماعية.
  • الاختيار الاعتباطي للمناهج والنظريات دون استيعاب تام، إن عدم تضلع الطالب في اللغة التي يحرر بها بحثه كلغة عامة يجعل من استيعابه لها كلغة اختصاص غير ممكن، فإذا لم يتعود الطالب على القراءة الدؤوبة في المجالات الأبسط والأقرب إلى الذاتية مثل القصص والروايات والمقالات الصحفية، وثم يرتقي بعد ذلك إلى مكبدة النصوص العلمية ذات المفاهيم التجريدية فلا يمكن أن يستوعب بحث جملة المناهج والنظريات فضلا عن أن يحسن اختيار أحدها لبحثه.

أيضا المعلوم أن جل تراث العلوم الاجتماعية مترجم من لغة ثانية، وبين المفاهيم المجردة والترجمة العسيرة، فكيف لمن لم يملك ناصية اللغة أن يستوعبها بل هو في الغالب ينصّب نفسه حكما على المترجم، صدق حكمه أو لم يصدق!

ولمّا كان قد تقدّم أن علاج الضعف اللغوي عند الطالب الجامعي -والذي يظهر بشكل واضح وصريح خلال وبعد إنجاز رسالته- لا يمكن أن يكون في فترة إنجاز البحث ذاته، وحتى التدارك المسبق قد لا يجدي نظرا لكون اللغة تتطلب مرانا مستمرا ومنهجيا منذ مراحل التعليم الأولى، فإن التدارك يجب أولا أن يكون على مستوى التعليم القاعدي، وليس من المبالغة أن يتحدد الهدف من التعليم منذ اليوم الأول للمرحلة الابتدائية في تحضير وتكوين الناشئة لبلوغ مرحلة البحث العلمي والذي سيكتمل في آخر يوم في التدرج الجامعي الأول، أعني يوم مناقشة الرسالة الجامعية.

لكن ولما كانت الحالة تلك كان من المهم التفكير فيما يمكن تداركه وقد لا يتجاوز السنة الأولى من المرحلة الجامعية، أي أن يبدأ التدارك منذ اليوم الأولى لدخول الطالب أروقة الجامعة من خلال ما يلي:

  • عناية المكوّنين باللغة وتحفيز الطالب على إتقانها وعلى تحرير نصوص الأعمال الموجهة بأنفسهم.
  • عناية الطّالب بالمطالعات الحرّة والتخصصية معا لتعزيز قدراتهم الأسلوبية والثروة اللغوية وكذا تحسين القدرة النحوية.
  • تخصيص مقياس أو مادة خاصة بالجانب اللغوي والرفع من مستوى الكفاءة التحريرية.
  • تخصيص تكوينات مغلقة للاستغراق في اللغة الوطنية اولا واللغات الحية ثانيا، فالمعلوم ما للاستغراق أو ما يسمى بالتعليم المكثف للغات من أهمية.
  • تعزيز المزج بين اللغة العلمية وتدريس مناهج البحث العلمي.
  • تخصيص مراقبين لغويين عابرين للتخصصات لتحقيق ومراقبة نصوص الرسائل الجامعية قبل إيداعها كتتمة ضرورية لموافقة المشرف على الطبع والإيداع.

في الأخير، لا يمكن علاج الضعف المنهجي على مستوى الرسائل الجامعية بشكل جذري إلا بعلاج جذري لمشكلة الضعف اللغوي عند الطالب الجامعي، وإن تمكن باحث ما من إنجاز بحث متقن في جميع جوانبه لا يمكن أن يكون إلا بتميز لغوي حصله الطالب قبل دخول مدرجات الجامعة، وإن الهوة بين الضعف اللغوي الذي يعاني منه الطالب الجامعي يجعل الكلام عن تطبيق الشروط الدولية للنزاهة العلمية في البحث الجامعي عموما والرسائل الجامعية على وجه الخصوص مجرّد أمنية لا يمكن أن يتعمّم تحققها إلا بتدراك الضعف اللغوي النسقي للطالب الجامعي.

—————————————

(*) – مداخلة مقدّمة في الندوة العلمية الموسومة بـ: إعداد مذكرة الماستر في علم الاجتماع الشروط البحثية وأسس النزاهة العلمية الذي نظّمه قسم علم الاجتماع بجامعة غرداية يوم 2019/02/18، وعنوان المداخلة: أساسيات التحرير في البحث السوسيولوجي.

ملاحظة: تم تعديل العنوان ونصه ليكون جامعا لكل التخصصات خاصة منها تخصصات العلوم الاجتماعية وكل الرسائل التي يكون التحرير النصي مادتها الأساسية.

داخل الملتقيات
أبريل 2025
د ن ث أرب خ ج س
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
27282930  

الأرشيف

إحصائيات الموقع

167184
اليوم : 66
الأمس : 117
هذا الشهر : 4360
هذا العام : 15896
مشاهدات اليوم : 277
مجموع المشاهدات : 506431
المتواجدون الآن : 2