أسئلة الفكر وأجوبتها (5)

تنوعت مسائل وموضوعات الحلقة بين معنى فقدان الإبداع الحر في مجتمع التقنية عند هايدغر، وعلاقة التكوين العلمي بالمشاركة الفاعلة في الحياة العامة، والضمير الأخلاقي الشارط لفاعلية الجماعة العلمية، وأخيرا وليس آخرا مآلات فكرة التأمل وتحولاتها من الفلسفة إلى علم الاجتماع، متابعة شيقة.

المسألة الأولى: (1) حسب هايدغر الإنسان في العصر القديم توصل إلى انكشاف بعض الأشياء التي كانت في العدم، بينما الإنسان  في العصر الحديث تخلى عن الانكشاف ودخل في دوامة التحريض والتخزين للطبيعة، فالأول بمثابة مبدع بينما الثاني يمارس فعل التكرير للطبيعة، (2) لكن هل يمكن أن يحصل الإبداع دون تكرير للطبيعة، فالذي صنع الطائرة قلّد الطبيعة ثم اكتشف الطريقة الميكانيكية، كما أن الرسام والشاعر أثره الفني والأدبي ما هو إلى أثر وتكرير لما هو موجود في الطبيعة ومحاكاة لها، كما أن كلاهما انطلقا بدافع الحاجة علما أن الحاجة تتطور؟

الجواب: أبدأ بالجواب على الشق الأول لإيضاح أن المقابلة بين “الكشف من العدم” وبين”تكرير المكتشف” ليست مقابلة زمنية بين ماضي مبدِع وحاضر مُتَّبِع، إنما مقابلة وجدانية بين نفس متحررة من الارتهان إلى كل إكراه يجعل من الإبداع عملية قيصرية وبين نفس مرتهنة إلى تلك المنظومة القيصرية، وهيدغر يتصور أن العصر الحديث أدخلنا في دوامة النفس المرتهنة وغير الحرة في إبداعها، وذلك نظرا لجملة الخصائص التي اجتمعت لديها خاصة: بُعد الكونية الذي صار يسم الحياة الإنسانية، وبعد تعقد عملية الإنتاج التي كانت بسيطة في الماضي وصارت معقدة في الحاضر (كما بينت ذلك في محاضرة هيدغر وفلسفة التقنية).

ومن ثم نفهم أن الفارق بين الماضي والحاضر لا يكمن في الإبداع من عدمه، وإنما يكمن في توفر “إمكانية” الإبداع الحر في الماضي وعدم توفرها راهنا استنادا إلى الكونية والتعقيد، والكونية هنا بالمعنى التقني الذي أتاح أن يتحول كل شيء إلى منتج عالمي إذا ما استجاب لشروط الرأسمالية، والرأسمالية ليست هنا المنظومة المقابلة للإشتراكية، وإنما تعني خضوع الوجدان الإنساني الحر إلى العملية الإنتاجية ذات الأبعاد الاقتصادية المحضة.

فإذا كانت إنسانية الإنسان تتحقق بتوفر إمكانية الإبداع التي هي شرط الإبداع، فإن الآلية الرأسمالية التي أضحت العولمة البديل الاصطلاحي الأنسب عنها، هي التي تنفي إمكانية الإبداع الحر، وبالتالي فإنها تهدد إنسانية الإنسان، وهذا الذي يحيلني إلى الشق الثاني من السؤال، والمتعلق بمثال إنتاج الطائرة، بداية لابد من التمييز أولا بين عمليتين: أ- اختراع الطائرة لأول مرة ب-تصنيع الطائرات كعملية مستمرة، فإذا كان واضحا أن العملية الثانية ليس إلا تكرار للفعل الأول فإن من المفاجأة القول بأن العملية الأولى أيضا ليست إبداع بل هي رجع صدى للمنظومة الرأسمالية التي تتطلب ابداعات واختراعات على مقاسها هي ومن ثم نفهم أن لتلك المنظومة ضحايا وقائمة محظورات، ذلك أن الإبداع لابد وأن يكون خاضعا لشروط المنظومة وينتج عن ذلك أمرين: أ- إما أن يحتفظ المبدع بحريته فيبدع وفقا لاختياره المحض، وهذا في حد ذاته أمر صعب يتطلب كفاحا فرديا وإيمانا عميقا بأهمية الاحتفاظ بالاستقلالية بوصفها حفاظا على إنسانية الإنسان وهذا نادر وقد ينعدم في بعض الأوقات، ب- وإما أن يستوعب المبدع قواعد اللعبة فلا يبدع إلا على مقاس المنظومة وهذا هو السائد والمتيسر إلى غاية اللحظة…

وأختتم بالقول بأن الحاجة الإنسانية تفارق الحاجة الرأسمالية بل وتناقضها تماما، ذلك أن الثانية وعوض أن تكون في خدمة الإنسان تسعى جاهدة لتجعل الإنسان في خدمتها، وإما إذا سألنا إلى من يعود إليه ضمير التأنيث أعني “المنظومة” فالجواب هو “لا أحد” من جهة، لأن الهيمنة جاءت كنتاج تاريخي لم يكن أمام البشر إلا المواصلة على هديه، و”كلنا” من جهة أخرى، لأننا جميع نتوق لأن نكون في مكانة السيد ضمن المنظومة دون وعي بأن الجميع أقنان فيها بالضرورة وأن السيد الأوحد صار الفكرة المهيمنة.

وهذا يعني أن الصراع الحالي لم يعد صراع طبقات كما كان وكما ادعت الاشتراكية، إنما هو صراع إنسان من أجل إنسانيته، ومعنى ذلك أن التحدي الراهن يعرف صعوبة مضاعفة: أ- هو كون التحدي غير مرئي ولا يُعلم بوجوده أصلا (مثال ماركوز عن اللباس الأنيق الذي تشترك فيه السكرتيرة مع ابنة رب العمل)، ب- وحتى إذا تم استشعار الأزمة فلا معايير في الأفق إلا بما هو محض حدوس وتخمينات قد لا تقنع أحدا إلا عند تجسدها الحقيقي، ورأيي أن التحدي الحقيقي للإنسانية الراهنة يكمن في تخطيط وتأطير مسارات التحول من المنظومة السائدة إلى منظومة أرحب جوهرها استعادة الإنسان لإنسانيته المفقودة.         

المسألة الثانية: (1) بالنسبة لمقالك عن علاقة العلم بالاختصاص لاحظتُ أن الفكرة مقتصرة على السياسي والإعلامي، لماذا هذا الاقتصار؟ وهل كل التخصصات إذا ارتبطت بالعلم إما أن تسلك من خلاله مسلكا حسنا أم سيئا، (2) بعبارة أخرى هل التخصص هو العصب المحرك للعلم نحو أي اتجاه كان؟

الجواب: طبعا لأنهما المدخلان الرئيسان لإفساد التعلّم على المتعلم والباحث، وأن غاية المقال تستهدف عدم تحول الفكرة المجردة إلى فكرة مجسدة قبل نضوجها التام، وأقصد بالنضوج هو تحصيل المناعة التامة للعلم والتي تحصنه من التحول من البحث عن الحقيقة بشكل صادق ومطلق إلى توظيف الحقيقة لمصالح ضيقة، وأول ما يحصل في هذا الانحراف توقف التعلم والتقدم في التحصيل فيضعف التكوين.

وأول نتائج ضعف التكوين فقدان معايير الحكم الصحيح على القضايا بما فيها قضايا السياسة والإعلام، وفقدان المعايير وضعفها يؤدي أيضا إلى استتباع الأفراد دون رادع ولا وازع، ومعلوم أن الأفق الأخلاقي يتناسب تناسبا طرديا مع مستوى متانة وهشاشة التكوين العلمي، فكلما كان التكوين العلمي متينا كلما أصبحت الحصانة الأخلاقية أمتن، أما إذا انفلت التكوين العلمي عن الوازع الأخلاقي فقد تكون المعضلة أكبر ذلك أن هذا الانفلات دليل تبعية المنفلِت إلى منظومة غير أهلية ما يعني أن الاختراق حاصل بشكل رهيب وقد تستحيل معه أية مقاومة.

أما بالنسبة للتخصص فهو وارد بشكل عرَضي أيضا، ذلك أن الظرف الراهن هو تخصصي بامتياز، حيث أن المناهج الحديثة تفرض التخصص، ذلك أن المداخل إلى العلوم تكون عبر مقاييس ووحدات جزئية تعرفنا بالتخصص العام، ومن ثم فهو ضرورة منهجية وبيداغوجية فحسب، بينما الحصانة الحقيقة من انحراف مسيرة التعلم وتوقفها كامنة في الوعي ليس فقط بوحدة المعرفة إنما بوعي علاقة المعرفة بالإنسان وهمومه وقضاياه الحيوية والشاملة.

وأخيرا لابد من الإشارة إلى أن المشاركة في الحياة العامة (السياسة والإعلام وغيرها…) ليست مرفوضة لذاتها إنما المحذور هو اختلاط ما هو علمي (إبستمي) بما هو حسي ومباشر (دوكسا)، فيحق لأي متعلم أو باحث المشاركة لكن لا يجب أن يصل إلى حد أن يرهن حريته لأي مؤسسة مهما كانت…

المسألة الثالثة: كيف سيكون التنظير العلمي في صالح المجتمع يعني يمس الجانب الايجابي منه باعتبار أن العلم أساس نابع من المجتمع (ما أسميته بالولادة الاخيرة السامية) يعني إذا كان المجتمع أساسا متخلف و لا يتقبل النقد في تخلفه كيف سيتولد منه علم أم أن حتمية الظهور لابد منها؟

الجواب: إذا ما سار العلم مساراته الصحيحة باعتباره بحثا عن الحقيقة فلا شك سيفضي به الأمر إلى تحريك الرواسب السلبية في أي مجتمع، والتخلف بالمفهوم العلمي هو الافقاد إلى معايير الموضوعية التي تقتضي تمرنا ومصابرة على تحصيلها، وإذا علمنا أن المزاجية والتسرع أمر طبيعي في المجتمعات أدركنا أنه بالضرورة يفتقد إلى شروط التقدم والنهوض، وأن على النخبة أن تجعل من العلم وقضاياه مسائل أخلاقية تنافح عنها حتى يحصل الاختراق المطلوب في الوعي، ذلك أن العلم الذي لا يستند إلى ضمير أخلاقي لن يمكنه يوما إحداث النقلة المطلوبة في المجتمعات الراكدة.

ولعل أولى شروط ذلك تحصيل الشروط الصحيحة لممارسة البحث العلمي، وتجاوز كل ما لا يعود على الجماعة الإنسانية بالنفع الذي يخترق وعيه المزاجي لإحداث النقلة…

المسألة الرابعة: هل يصح  ربط جدلية فيبر بهيغل من حيث أن:  البعد التأملي يكون (بانصهار العالم في الذات، والذات في العالم).

الجواب: بالتأكيد فيبر كان في فكره من سلالة هيغل التي فتحت المنطق الحديث على آفاق الاستمداد (استمداد المعنى) من خارج الحدود السببية، فمكنت البحث العلمي والفلسفي من الولوج إلى رحاب اللايقين السببي الذي يعتبر المحور الذي تحوم حوله فكرة الذاتية.

مع التأكيد أن الأمر متعلق بنسب مجرد، ذلك أن تحول الذاتية من المنطق والفلسفة (هيغل) إلى العلم الواقعي (فيبر) يمر بتعريجات كثيرة قد تتخللها غموضات وصعوبات ذاتية تصل حد التوهم، لكن يكفي أن ننطلق من إدراك أن جوهر السوسيولوجيا الفيبرية قام على درس الصلة بين الأفكار -التي هي الروح والذي هو مضمون الاستمداد من خارج الحدود السببية- والتاريخ، أو بعبارة أخرى كيف تتحق الأفكار في التاريخ، حيث توصل إلى أن الصلة بينهما هي صلة انتقائية عشوائية على غرار ما حصل من تسرب عفوي وغير مقصود لمفهوم العمل (Beruf) البروتستانتي الديني إلى المجال الدنيوي فأحدث الأثر الذي تمثل في فاعلية البروتستانت الملحوظة وهيمنتهم على الشأن الاقتصادي في الرايخ الألماني.

 

داخل أسئلة الفكر وأجوبتها
أبريل 2025
د ن ث أرب خ ج س
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
27282930  

الأرشيف

إحصائيات الموقع

167193
اليوم : 75
الأمس : 117
هذا الشهر : 4369
هذا العام : 15905
مشاهدات اليوم : 318
مجموع المشاهدات : 506472
المتواجدون الآن : 2