محاضرة مقياس المدخل إلى مجتمع المعلومات
انطلق هيدغر في مساءلة موضوع التقنية (1) من حقيقة التهديد الذي تمثله التقنية المتمثل في الاستلاب المحتمل لحرية الإنسان، أي أن التقنية ترهن الإنسان إلى درجة لا يستطيع أن يتصور الوجود بدونها، بحيث غدى الإشكال كامنا في عدم إمكان استعادة الوجود لطهوريته التي كان يتمتع بها قبل ظهور التقنية ومن ثم افتكاك حريته المسلوبة من جديد.
ويتصور هايدغر أنه وإن كان بقي أمل في التحرر من سجن التقنية فإن مدخلا وحيدا يمكنه أن يكفل ذلك وهو “الوعي بماهية التقنية”، وماهية الشيء جوهره، وفي ذلك يقول هيدغر: “إننا نسائل موضوع التقنية ونريد بذلك أن نقيم علاقة حرة معها، والعلاقة تكون حرّة عندما نفتح كينونتنا على ماهية التقنية” ص 45، وذلك انطلاقا من أن السعي الدائم للفلسفة ليس إلا الحفاظ على حرية الإنسان أمام تهديد الطبيعة لها، فما بالك بشيء غير طبيعي.
فيميز هيدغر بين التقنية وماهية التقنية:
- التقنية: هي الوسائل المادية التي يخترعها المخترعون وتنتجها الآلات الصناعية.
- ماهية التقنية: تكمن في الدوافع الثقافية-الاجتماعية التي أنتجت التقنية، وذلك يعني أن التقنية ليست أداة صماء لأن الإنسان يضفي عليها المعنى (2).
إن إدراك ماهية التقنية لا يتعلق بمدى استهلاك الإنسان لها أو مدى الإقبال عليها أو حتى الإعراض عنها، أي أن الموقف من التقنية لا يفيد في إدراك ماهيتها، فليست القضية هنا مناقشة الموقف بقدر ما هو مناقشة التقنية، على أنه في الوقت ذاته لابد من التأكيد على أن التقنية ليست أمرا حياديا مادام إنتاجها مرتبط برغبة من الإنسان وإرادته.
صناعة الآلات والأجهزة التقنية تعد في حد ذاتها جزءا من ماهية التقنية، والتقنية في النهاية هي المحصول المادي من فعل الصنع في حد ذاته، والإنسان يصنع الأشياء لتحقيق غايات، وأن الأشياء التي يصنعها (التقنية هنا) تعد أدوات لتحقيق غاياته، فالتقنية إذ هنا هي أداة (Instrumentum)، ومن ثم فإن التقنية هي الأداة وماهية التقنية هي البداية والغاية التي من أجلها تصنع.
وهنا يأتي التعارض وتحضر المفارقة كيف للأداة التي تتوسط البداية والغاية أن تتحكم في الإنسان مادام الإنسان هو الذي يحدد البداية والغاية؟
إن هذا يعني انقلاب التقنية على الإنسان الذي أنتجها، فحياة الإنسان صارت مبنية كلها على التقنية، وأكثر من ذلك صارت هي التي تمده بمعنى وجوده وتحدد له طموحاته المستقبلية، ومادامت التقنية المادية هي التي تصيغ حياة الإنسان فإن غاياته الروحية (الحقيقة) ستنتهي، وتتحول الروح عنده إلى مجرد انجذاب إلى التقنية وتحقيق الإشباع من خلالها، فلم تعد هناك روح متسامية هي التي توجّه وتصوغ الرؤية الإنسانية بفضل العقل أو الأخلاق، وإنما انقلب الأمر لتصبح التقنية هي روح الإنسان، أي استحالت المادة إلى روح في ذاتها.
إن الوعي بخطورة الوضع الذي يتهدد الإنسان كما تقدّم وصفه يحفّز الإنسان حسب هيدغر على محاولة استعادة السيطرة على التقنية، وأن الأمر يصبح أكثر إلحاحا كلما تطورت التقنية حيث يزداد التهديد بانفلات الأمر من رقابة الإنسان، وأول شيء علينا أن ندركه هو أن التقنية لم تعد مجرد وسيلة فكيف يمكن نتحرر منها أولا ثم نتحكم فيها ثانيا، وهذا يعني أن هيدغر يشك في أن كل ما قد يفكر فيه هو بتأثير من مارد التقنية التي سكنت روح الإنسان، ومن ثم فهي قد أصبحت عقلا يتجاوز الإنسان ويهيمن عليه.
فهنا نصبح على وعي تام بأن ما هو حاصل في الواقع (حقيقي) ليس هو الأمر الذي يجب أن يكون (صحيح)، وأن هذا الوضع غير السليم صار بديهيا عند الجماعة الإنسانية، وبالتالي فالأمر يتطلب منا أن نكشف المفارقة التي تحكم الوضع وكشفها للناس من خلال التدقيق لكشف الملابسات للوعي، وذلك تسليما بأن وعي اليوم سيكون حقيقة الغد، أو فكرة اليوم ستكون واقع الغد، وأن المعضلة الكبرى تكمن في بقاء المشكل غامض وغير مكشوف.
لابد إذن من المرور إلى المرحلة التالية والتدقيق إلى بحث مفهوم العلّة غير المادية (السبب) التي أنتجت التقنية، أي أن هايدغر أراد أن يعود أدراجه لكشف العلة غير المادية لما هو مادي باعتباره الشرط الضروري لاكتشاف مصدر المشكلة.
اتفق الفلاسفة منذ القدم على أن الوجود قائم على أربع علل، ولإيضاحها نأخذ معنا مثال الكأس الفضية المصنوعة من أجل استعمالها في طقس ديني كقربان:
- العلة المادية: مثلا المادة التي صنعت بها الكأس الفضية.
- العلة الصورية: هي الشكل الذي يعطي للفضة لتعطينا كأسا.
- العلة الغائية: الهدف الذي من أجله صنعت الكأس.
- العلة الفاعلة: الصائغ الذي صنع الكأس الواقعية.
لكن هل انتهى مسلسل العلية هنا؟ وما الذي يجعل العلل الأربع تقود الواحدة منها إلى الأخرى لولا وجود علة غير ظاهرة، يجعل من العلل الأربع معلولة لعلة متقدّمة عليها؟
لقد تقدم أن الغاية من صناعة الكأس هو كونها صنعت من أجل طقس قرباني، وبالتالي فإن طبيعة العلة الخفية تتمثل في “فكرة”، ومن ثم فإن أصل الكأس الفضية كان فكرة أولا وقبل كل شيء، ذلك أنها هي الدافع الأول لصناعتها ولولا الطقس القرباني لما وجدت الكأس، أي أن وراء الفكرة دافع يسبقها، دافع قابع في عمق الوجدان الإنساني، والدافع هذا ينطلق من عمق غامض في الإنسان لا يدركه ويتجاوزه.
إذن فالدافع يستدع الفكرة لتكون واضحة في التصور، فتصبح هي الأصل لوجود الأشياء، وهي حسب هايدغر: “تتركه يحدث ويحصل وأن يكون قريبا من…إنها تحرره في هذا الاتجاه وتتركه يتقدم في مجيئه الكامل”ص50.
الدافع الخفي الذي به انقدحت فكر الكأس فكرة الكأس العلل الأربع لوجود الكأس
إن أي شيء في الوجود المرحلة التي يكون فيها الشيء غامضا قبل أن يتشكل في فكرة واضحة، وكأننا هنا أمام فكرة الخلق من عدم وفكرة الغيب قبل أن يتجسد، ومن ثم فمسير الشيء من حالة الغموض إلى حالة الوضوح، وقبل أن يتبلور في شكل فكرة واضحة هو بمثابة محاولة للتعرف إلى طريق الخلق من عدم، أو الغيب أن يتحقق، أو الجنين قبل الميلاد.
وهو واقع بين حقيقةٍ ما “تترك الشيء يتقدّم” إذ لا نقوم نحن إلا بالاستجابة عندما نقوم بـ”الإتيان بذلك الشيء”، تماما عندما كانت فكرة الكأس الفضية ما تزال في مرحلة العدم، وكثيرا ما يعبّر عن “الإتيان بالشيء” عندما يصبح فكرة واضحة في الأذهان، وهي اللحظة التي يعبر عنها بأنها “كانت مناسَبة لـ” كتعبير عن صدمة أولية واندلاع، وأن الأمر قد بلغ مرحلة ثانوية وهي اتضاح الفكرة، مع أن صاحبها يبقى جاهلا لمصدرها.
والمحصلة أن العلل الأربع ليس إلا المرحلة النهائية (المتأخرة) من العلل الموجِدة للشيء، “إنها فقط تترك ما ليس حاضرا يصل إلى الحضور” ص 52، فلا تقوم العلل الأربع إلا بفعل اقتياد شيء حاضر إلى الظهور، وفي ذلك يقول أفلاطون: “كل إتيان، أيا كان يمر ويتقدّم من اللاحضور إلى الحضور، هو إنتاج” ص 52.
وبيت القصيد هنا أن نستوعب كلمة “إنتاج” في كل مداها، أي بمعنى الإنتاج، ليس فقط الصناعة الحرفية، وليس هو الإنتاج الشعري والفني الذي ينبثق في شكل صورة، إن الإنتاج كامن في طبيعة الوجود الذي فيه ينفتح الشيء من تلقاء ذاته –تماما كالوردة التي تتفتح- وهو الإنتاج في أرقى صوره.
(1) – هذه قراءة شارحة لفصل “مسألة التقنية” الوارد في كتاب مارتن هايدغر: التقنية-الحقيقة-الوجود، ترجمة: محمد سبيلا، عبدالهادي مفتاح، نشر المركز الثقافي العربي، بيروت الدار البيضاء.
(2)- وذلك ما شرحه مالك بن نبي عندما قال بأن لكل منتج مادي لازمة ثقافية ترتبط به، أي أن الإنسان لا ينتج شيئا إلا إذا كانت له به حاجة فعلية أو دافع حقيقي، وبالتالي فسّر مالك بن نبي أن المعضلة حقيقية عندما يستورد مجتمع ما منتوجات صناعية ليست له بها حاجة حقيقة، وذلك ما يضعه في وضع غير طبيعي إطلاقا، بحيث ينساق في دوامة من المظاهر الترفية –من خلال استهلاك منتوجات لا حاجة حقيقة له بها بدليل أنه لم يتحفز لإنتاجها- ومن ثم فهو يستهلكها في ذات الوقت الذي يفتقد فيه لأدنى قدرة على إنتاج الحاجات الحقيقة التي هو بحاجة إليها، بما يمكن أن نسمّيه التضخّم الذي يحصل بفعل الفارق الذي يحصل بين الاستهلاك الفعلي والحاجة الحقيقية، حيث يتجه الاستهلاك إلى الترفية بعيدا عن الحاجات الحقيقة، وهو تضخم ثقافي-اجتماعي نابع من عدم تحقيق الوعي لانقلابة يجعل إنسانه ينتقل من غفلية الاستهلاك وبالتالي التضخم الثقافي إلى فقه الاستهلاك وتحقيق الوصل الفاعل بين الحاجة والاستهلاك. ولو أردنا العودة إلى تاريخ المسلمين نفهم مثلا كيف كان استئناف علوم التقنية (علم الحيل) كان استجابة لدافع ثقافي أساسه احترام حقوق العبيد والحيوان التي كرستها الشريعة الإسلامية، فتأسيس العلم نفسه كانت له لازمة ثقافية هي ذاتها اللازمة التي تؤدي إلى إنتاج التقنيات أيضا.