الحقيقة النفسية والتجربة الدينية عند برغسون وجيمس

مصطفى بابنات (*)

هنري برغسون:  فيلسوف فرنسي (1859 ـــ 1941).  لقد كان بيرغسون هو الفيلسوف الذي أكّد شأن الحدس ورفع من مكانته وقد أكّد قوّة الحدس معارضا الإسراف في الإعلاء من شأن المعرفة العلميّة التّجريبيّة ، و الحقيقة عند بيرغسون في مجموعها شيء حيّ وهي ماثلة خلف المادّة ، ومن ثمّ لا يمكن أن نفهم شيئا فهما كاملا إلّا عن طريق الحدس و الحدس هو الوسيلة لفهم ما نحتاج معرفته إلى نوع من التّعاطف و الاندماج الدّاخلي . يذكر محمد إقبال ” أنّ الحقيقة عند بيرغسون هي دفعة من صبغة الإرادة حيويّة حرّة لا يمكن التّنبّؤ بها حرّة خالقة ، والفكر هو الذي يربطها بالمكان أو الحيّز وينظر إليها على أنّها تعداد لأشياء .فالتّيّار الحيوي الذي ينادي به بيرغسون ينتهي إلى ثنائيّة من الإرادة و الفكر لا يمكن التّغلّب عليها . ينظر إلى العقل نظرة جزئيّة ، فالعقل في رأيه قوّة تسلك الأشياء في الحيّز أمّا الفكر له حركة أعمق فبينما يبدوا أنّه يجزّئ الحقيقة إلى أجزاء قارّة إذا بوظيفة الحقيقة هي تركيب عناصر التّجربة معا باستخدام مقولات ملائمة للمقامات المختلفة التي تعرضها التجربة”. 

والحدس كما يعرّفه بيرغسون في «المدخل إلى الميتافيزيقة» هو ذلك الجهد الذي به ننفذ إلى باطن الموضوع لكي نَعْرِفَهُ «من الداخل»؛ أما في «التطور الخالق» فالحدس هو ضرب من «التعاطف العقلي» الذي يمتزج فيه العقل بالغريزة. وعلى هذا يكون الحدس البيرغسوني عملية ذهنية عسيرة، أقرب إلى «التفكير» منه إلى «العاطفة»، ولذلك فالحدس ليس وليد الغريزة، بل هو وليد التفكير العقلي المتواصل والتأمل الفكري المستمر. ويمتاز الحدس من العقل والغريزة، بأن الحدس هو «التجربة الميتافيزيقية» التي فيها تنكشف لنا ذواتنا، فندرك «المطلق» في صميم نفوسنا. وعلى هذا كانت نقطة البدء في فلسفة بيرغسون عن مشكلة الوجود والديمومة هي معطيات الشعور، وهي معطيات «مباشرة» بمعنى أن «الحدس» يدركها إدراكاً عيانيّاً، فبيرغسون لا يعرض للوجود على أنه تصور، وإنما بصفته وجوداً حياً. وهو يتخذ من الإنسان محوراً لدراسة طبيعة هذا الوجود. والغاية من تحليل الوجود الإنساني هي معرفة مقومات الوجود على الإطلاق.

يقوم الوجود على الجمع بين حقيقة الذات وحقيقة الموضوع، بمعنى أن الذات ليست مجرد مجموعة من الآثار الصادرة عن العالم الخارجي، فهي ليست منفعلة دائماً، والموضوع هو حقيقة خارجية له وجود في الواقع ومستقل عن الذات المُدرِكة. بيد أن كلاً منهما ليس مغلقاً على ذاته، فثمة مجال للاتصال المباشر قائم على الرؤية. وهكذا يضع بيرغسون اتفاقاً مقدماً بين الفكر والشيء موضوع الفكر.

والديمومة الحقيقية المشخصة هي الزمان النفسي أو الزمان الداخلي، والحياة النفسية تلقائية أو هي انبعاث من باطن وخلق مستمر أو «ديمومة» لاتحتمل رجوعاً إلى الماضي، ولاتوقعاً ضرورياً للمستقبل، كما تحتمل الظواهر المادية. ويخلص بيرغسون إلى أن الأنا في جوهرها وحدة لاتنفصم.يذكر محمد إقبال ” أنّ بيرغسون يرى أنّ اندفاع الباعث الحيوي قدما في حريته الخالقة لا يضيئه قبس من غاية قريبة أو بعيدة فهو لا يستهدف نتيجة ، بل هو تحكّم مطلق لا يهديه شيء ولا يربطه نظام ، ولا يمكن التّنبّؤ بسلوكه .فالماضي و المستقبل يؤثّر كلاهما في حالة الشّعور الحاضرة و حالة الانتباه تتضمّن الذاكرة [i] و الخيال بوصفهما عاملين مؤثّرين ،

وإذا قياسا على حياتنا الشعوريّة لا تكون الحقيقة دافعا حيويّا مكفوفا عن الغاية ، لا تضيئه الفكرة بالمرّة ، بل إنّ طبيعتها غائيّة إلى أقصى حدّ . على أنّ بيرغسون ينكر غائيّة الحقيقة على أساس أنّ الغائيّة تجعل الزّمان باطلا ، وهو يرى أنّ أبواب المستقبل يجب أن تظلّ مفتوحة على مصراعيها أمام الحقيقة ، وإلّا فإنّها لن تكون حرّة وخالقة ، وإذا كانت الغائيّة معناها تنفيذ خطّة للوصول إلى هدف أو غرض سبق تحديده ، فلا شكّ في أنّها تجعل الزّمان غير حقيقي ” .

وترتبط الحرية عند بيرغسون بالديمومة التي لاتعرف انفصالاً في الحياة النفسية، والتي تؤلف وحدة لا يمكن تقسيمها إلى لحظات. فليس هناك آلية أو جبرية في النفس إذ أن الديمومة كَيْفٌ محض، والحرية عين صيرورة الأنا، والفعل الحر هو مايصدر عن الأنا. وترتبط الحرية بفكرة «الخلق أو الإبداع»، لأن الإنسان هو ذلك الموجود الذي تنحصر حريته في خلقه لنفسه بنفسه. الحرية في أعلى صورها عند بيرغسون «تلقائية روحية خالصة». وبهذا المعنى فالحرية تعبير عن الشخصية.

وليم جيمس : فيلسوف أمريكي من رواد المذهب البراغماتي (1841 – 1910).

كانت بحوث وليم جيمس حول وظائف المخ و الجهاز العصبي ، وكان يرى بأنّ اكتمال السّيالات العصبيّة يكون عند حدوث سلوك متكرّر. و الأفكار السّابقة هي التي تحدّد طبيعة تصرّف الفرد مستقبلا من خلال الرّوابط التي تنشأ في الدّماغ .

يعتقد جيمس أنّ أيّ فرد لديه روح موجودة في الكون الرّوحي و تقود الشّخص لأداء السّلوكيات في العالم المادي . ويقول بأنّه رغم أنّ البشر يستخدمون الرّوابط الذّهنيّة للانتقال من حدث لآخر لكن هذا لن يحدث بدون الرّوح .

يقول جيمس : ” إنّ أساس العادات الجيّدة هو التّصرّف الحاسم مع الحلول و القرارات التي يتّخذها المرء ،إنّ الأفعال تخلق آثارا حركيّة في أجهزتنا العصبيّة وتحوّل الرّغبة إلى عادة فيضطرّ المخ أن ينمو حتّى يتوافق مع أمانينا ” .

انتهى جيمس في بحثه إلى التّفريق بين الدّماغ و الشّعور فالشّعور حسبه ” مقاتل من أجل غايات أو هو تيار كشيء مستمرّ ترتبط أجزاؤه فيما بينها ارتباطا عضويّا “

إنّ جيمس يرى أن كل معارفنا تبدأ من ميدان الشعور وليس كما كان يعتقد جون لوك عدد معين من العناصر التي هي إحساسات وصور وأفكار والتي يجب أن نفرض بينها علاقات خارجية حتى نتمثلها حقيقة متميزة متعالية .

وهكذا فإن الثورة التي ظهرت في علم النفس اعتبرت أن الـمُعطَى لكل معارفنا هو ما يسمى بميدان الشعور وتعني حالة الشعور الكلية في وقت من الأوقات عند شخص مفكر وأن الخاصية المميزة لهذا المعطى الجديد أنه بدلاً أن يكون محدود المعالم يصبح له امتداد لا يمكن تحديد نهايته بالضبط ذلك أن حالة الشعور تتركب في بؤرة هامشها يزيد أو يقل في التحديد وهذه البؤرة شديدة التعقيد ولا ترد إلى عدد محدود من العناصر التصورية فهذه هي المعطيات الأولية التي بها يباشر ذهن الإنسان نشاطه .

لقد ذكر وليام جيمس في كتابه تنوّع أو صنوف التّجربة الدّينيّة الخصائص المشتركة للتّجربة الصّوفّيّة وهي :

1 ـــ الاستعصاء عن التّعبير . 2 ـــ النّسقيّة الفكريّة . 3 ــ اللّحظيّة و التّلقائيّة . 4 ــ السّلبيّة التّامّة . و الخاصّيّة الخامسة موجودة في كتابه البراجماتيّة وهي التّأحّد بين الذّات و الموضوع ، وهذه الأخيرة هي شاهد القول ، حيث بيّن كيف أصبح الإيمان في التّجربة الصّوفيّة حدسا ، كذلك يدخل في التّجربة الدّينيّة و العامّة التي يرى فيها النّمو المطابق لقوانين علم النّفس العام حيث يرى جيمس أنّ الشّخص حين يستغرق كلّيّا في الإحساس بالاتّصال مع اللّامتناهي لا يميّز قطّ بين الواقعي و الوهمي فتكون انفعالاته في مثل هذه الظّروف حقيقيّة .

إذن الدين عند وليم جيمس هو الاعتقاد بعالم غير منظور ، و أنّ خيرنا الأسمى كائن في إيجاد تلائم بيننا و بين ذلك العالم ، وما يدلّنا في وجود ذلك العالم هي تجاربنا الدّينيّة و الصّوفيّة و النّفسيّة ، وعليه فإنّ جيمس يقدّم لنا تحليلا سيكولوجيّا يرفض على أساسه أن يكون جوهر الإيمان العاطفة و العقل بل هو الإرادة .

ويعد جيمس التجربة الدينية تتفق مع وقائع التجربة النفسية لأنها تدلنا على أن تحت المجال الضيق للشعور منطقة عميقة تستمر فيها الحياة الباطنية ، ومن هذا التيار السفلي تظهر عواطف وإلهامات فجائية تبدو في الشعور ، فهناك نوعاً عالياً مما تحت الشعور يرفع النفس فوق الحياة الجسمية إلى حياة روحية ممتنعة عن العقل والإرادة .

إذاً في المنطقة اللّاشعوريّة يتم الاتصال بيننا وبين الله وبين سائر النفوس وعلى هذا يلوح أن خصائص التجربة الصادقة تجتمع في التجربة الصوفية .

بحث مقدّم للمشاركة به في ندوة الفكر الظاهراتي التي نظّمت في نادي نزهة لألباب بغرداية يوم 01/04/2017 تحت إشراف الأستاذ محمد عبدالنور.

———————————–

(*) – السنة الثانية ماستر علم النفس، جامعة غرداية

[i]  ـ يرى بيرغسون أن الذاكرة ليست ظاهرة فيزيولوجية، بل ظاهرة نفسية تعبر عن صميم حياتنا الشعورية، فيميز نوعين من الذاكرة: الذاكرة العادة والذاكرة المحضة. فالذاكرة العادة مكتسبة بالتكرار ولها جهاز محرك في الجهاز العصبي، وتلك هي الذاكرة التي تقيم في الجسد وتنصب على الفعل، وهي تستعيد الماضي بطريقة آلية بحتة. وهذه الذاكرة هي التي تعي شعراً أو نثراً محفوظاً عن ظهر قلب. أما الذاكرة المحضة فهي تختزن الماضي كله وتحيا في ديمومة مستمرة، إنها «الأنا العميق»، ذاكرة النفس، وهي تَصوُّر حادثةٍ انطبعت في الذهن دفعة واحدة، واحتفظت بخصائصها وتاريخها. ولأن الجسم «مركز عمل» وأداة الوصل بين الأشياء المؤثرة فينا وما نؤثر فيه من أشياء، فليس بوسعه أن يحفظ صوراً ولا أن يبعث صوراً، ولكنه يوفر للصور الوسيلة كي تصير مادية وتعود إلى الشعور. ففي حالة فقدان الذاكرة ليست الذاكرة هي المعطلة بل الدماغ، وليس هناك محو للذكريات بل اضطراب في الأجهزة المحركة.

 

 

داخل مسالك المعرفة, مساهمات
أبريل 2025
د ن ث أرب خ ج س
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
27282930  

الأرشيف

إحصائيات الموقع

167182
اليوم : 64
الأمس : 117
هذا الشهر : 4358
هذا العام : 15894
مشاهدات اليوم : 267
مجموع المشاهدات : 506421
المتواجدون الآن : 2