لا شك أن ما حصل إلى غاية اليوم في الجزائر هو مبدئيا انتصار استراتيجي للحركة الشعبية، قياسا إلى الوضع الجيوسياسي والحضاري للجزائر ومحيطها الإقليمي والدولي الراهن، إذ من غير الموضوعي الحكم على أي وضع سياسي بقياسه إلى ظروف وأوضاع مفارقة جذريا، فكان انتصارا حقيقيا خاصة بعد تحيز الجيش العلني إلى جانب الشعب، الأمر الذي كان الضمانة الأساسية لتحقيق سلمية المسيرات الأسبوعية، وكذا لتحقيق مطالب الشعب بالتغيير الجذري.
وأما القول بأن السلمية يمكن أن تتحقق بمجرد الوعي الشعبي، وأن تنازل الحكام عن السلطة قد يتحقق بمجرد الاحتشاد ورفع شعارات الرفض هو ضرب من التحليل الغُفل غير المدرك لقوانين التغيير السياسي في التاريخ، وهو لا يخرج عن استسلام العقل للأوهام أو اتباع النفس للأهواء، فالتحليل الموضوعي لا يمكنه أن يغفل عن دور “الشوكة” في تحقيق الغلبة.
لقد أضفى تحالف الجيش مع الحركة الشعبية في الجزائر جدية كبرى على التغيير المنشود، كما سرّع بتحقيق المطالب بدءا بإزاحة الرئيس، ومرورا بإسقاط رموز النظام، إذ شمل الإسقاط التنحية من المنصب والإحالة إلى العدالة وانتهاء إلى المحاكمة وتسليط الأحكام، خاصة ما تعلق بالتورط في ملف التآمر الأمني وملف الفساد المالي، وانتهاء إلى تنصيب الرئيس المنتخب كمطلب دستوري عاجل يضمن العودة بالبلاد إلى مربّع الأمان.
إلا أن الإجراءات المتقدمة وعلى أهميتها لم تلق القبول المتوقع إذ وجد من لم يقتنع بها، ووصل البعض الآخر إلى استعداء الجيش واعتباره جزءا من المشكلة، وهو ما اعتُبِر تعنتا وعنادا لا مبرر له يفتح البلد على مخاطر أمنية كبرى، وأن الهتاف ضد الجيش هو تعبير عن سيطرة خطاب شعبوي (Populism) غير متعقل على الحشود سيفضي في النهاية إلى حُكم الرعاع والهمج من الناس على الأغلبية (Ochlocracy)، الأمر الذي خلق انسدادا حادا كان على مؤسسة الجيش تجاوزه لاعتبارات المصلحة العامة، والعمل على تنظيم الرئاسيات في كل الأحوال، ويعود ذلك الرفض في نظري إلى حيثيات كثيرة أهمها:
- ما ترسخ من عدم الثقة في مؤسسة الجيش التي تورط قادتها -من جنرالات فرنسا- خلال التسعينات في تبعات العنف التي خلفها توقيف المسار الانتخابي.
- الاختراق الذي حصل للحركة الشعبية من كتلتين:
أ- كتلة بقايا “العُصبة الحاكمة” التي لاذت بالحراك كخطوة مرحلية للعودة لاحقا، مثّله تحالف غير معلن مكون من إسلاميي وعلمانيي مرحلة التسعينات، تحالف يهدف إلى استنساخ مرحلة مابعد انقلاب جانفي 91.
ب-كتلة المعارضة التي يقبع أفرادها في الخارج، مثل حركة رشاد وحركة الـ”MAK”، والحركتان ذات توجهات تفكيكية للدولة.
حيث تسببت الكتلتين في توريط الحركة الشعبية وتعويمها في نوع من الهلامية والمطالب التي لا سقف منطقي لها، وذلك لخوف الكتلتين من أن التحام الشعب بالجيش سينتهي إلى نتائج لا تتناسب مع مشروعيهما.
- الشعور بالغموض واللامعنى السياسي وعدم ثقة الجميع في الجميع الذي شاع بداية من نهاية التسعينات والذي تسبب فيه غياب صورة واضحة عن إحداثيات السياسة في الجزائر وهو ما أدت إليه أحداث أهمها:
أ- الحركة الشعبية الاحتجاجية للخامس أكتوبر 1988.
ب- الانفتاح الديمقراطي والانقلاب عليه فترة 91/90.
ج- المآل العنفي الذي انتهى إليه جزء من الإسلاميين بعد الانقلاب.
د- الحل الارتجالي لمسألة العشرية السوداء فيما سمي بـ”المصالحة الوطنية”
لقد كان مطلب الجيش الجزائري الرئيس والملح بعد الأسابيع الأولى من بداية الحركة الشعبية الاستعجال بانتخاب خليفة بوتفليقة المعزول بما هو إعادة السلطة للمدنيين، وذلك بعد اضطرار الجيش لتولي شبه مباشر لزمام السلطة إثر الفراغ الذي حصل بعد إزاحة جملة الرؤوس التي طالبت الحركة الشعبية بزوالها، إضافة إلى التدخل التاريخي للجيش لمنع “مؤامرة حيدرة” التي كانت لتشكل أرضية لحرب أهلية في الجزائر لم تكن شروطها متوفرة لسبب مباشر وآخر تاريخي.
السبب المباشر هو افتضاح المؤامرة عن طريق الجنرال ورئيس الجزائر الأسبق اليامين زروال الذي حضر اجتماع حيدرة وغادره بعد أن رفض تكليفه بقيادة المرحلة الانتقالية التي كان يحضّر لها وكان ذلك منه استعصاما بمصلحة الشعب.
أما السبب التاريخي الرئيسي فهو التحول الأيديولوجي الذي طرأ على المؤسسة العسكرية، إذ وبعد نهاية عهد “جنرالات فرنسا” إن بالوفاة أو بالتقاعد، خلا السبيل أمام طبقة جديدة من القادة في مقدمتهم الفريق الراحل أحمد قايد صالح رحمة الله عليه، والذي اتسم بميزتين، يمكن لحاظهما من خارج، تلخصان نزعته الوطنية:
- بداية مساره العسكري بحمل السلاح لمقاومة المستعمر الفرنسي منذ سن السابعة عشرة، بعكس جنرالات فرنسا الذين تأطروا تحت عقيدة الولاء لفرنسا.
- نهايةً اشتهاره بمعاداة فرنسا وأتباعها، إذ وتحت قيادته أصبحت المؤسسة العسكرية أول مؤسسة تتبنى اللغة الانكليزية كلغة ثانية بعد اللغة العربية في الجزائر.
والمحصّلة، أن الطبقة القيادية الجديدة للجيش الجزائري ذات نزوع سيادي صرف، من حيث امتلاكها لقرارها وعملها لأجل المصلحة الوطنية، فقد مثلت السيادة بمعناها الحديث العقيدة الجديدة للجيش الجزائري؛ ولقد ظهرت بوادر هذا التغير منذ سنة 2015، حيث تولى الجيش إخماد الصراع الأهلي في مدينة غرداية، بعد أن فشلت أجهزة الأمن الأخرى التي كانت تحت تصرف إدارة “العصبة الحاكمة” في احتواءها لمدة عامين، حتى بلغت حدا أنبأ بنشوب حرب أهلية شاملة في الجزائر لولا تدخل الجيش. وهنا من المهم الوقوف للتساؤل: لماذا التركيز على دور الجيش في إحداث التغيير الحاصل؟ أو بعبارة أخرى ما مكانة حركة 22 فبراير الشعبية من تدخل الجيش؟
أولا، إن ما تحقق في الجزائر بعد 22 فبراير 2019 شكّل حالة مثالية لكل التغيرات التي حصلت وتحصل في البلدان العربية ومفاد تلك الحالة المثالية هو:
- إزالة رموز النظام ومحاسبتهم فعليا، زمرة من ألوية الجيش وأخرى من الوزراء ورجال أعمال.
- الحفاظ على السلمية المطلقة للمظاهرات والمسيرات لمدة طويلة، حتى بعد نهاية زخمه الأول.
- الحفاظ على الحالة الدستورية عزلا لبوتفليقة وانتخابا لتبون، رغم تعنّت أطراف في الحركة الشعبية.
ثانيا، بماذا طالبت الجماهير المنتفضة؟ طالبت ضمنيا بالقضاء على القوى غير الدستورية التي اجتمعت لآخر مرة في حيدرة، وهي القوى نفسها التي كان بيدها قرار عزل الفريق قايد صالح عن منصب نائب وزير الدفاع وقيادة الأركان وإفقاده مصدر قوته، وهو ما حدث فعلا، ووثيقة الإقالة متداولة، إلا أن مفعولها أبطل بفعل ما سيكون أهم عمليتين عسكريتين استعجاليتين في تاريخ الجزائر المعاصر وهي عملية تطويق قصر المرادية وتطويق مبنى التلفزيون.
وهي في الواقع عملية استرجاع ختم الجمهورية من القوة غير الدستورية وكذا استرجاع لهيئة الإعلام الأولى؛ ولم يكن لهيئة أو مؤسسة وطنية ضمان القيام بذلك بسلمية مطلقة إلا مؤسسة الجيش التي كان ديدنها من الوهلة الأولى العودة إلى الدستور الموجود أولا ثم استعادة الدستور الشرعي ثانيا.
كانت عملية الاسترجاع حادثا جللا، فلو استقام الأمر لشقيق الرئيس بوصفه عرّاب القوة غير الدستورية لتمدد الوضع غير الدستوري على حساب الوضع الدستوري ولتفاقم المشكل، فكان تدخل الجيش التاريخي لإصلاح الوضع باسترجاع الموقف الدستوري موفّقا تمام التوفيق توقيتا وتنفيذا.
والمحصلة أن جوهر الصراع قد تحدد على أساس استعادة الوضع الدستوري أو الاستمرار في الانحراف عنه، ومن المفارقات أن مؤسسة الرئاسة “المدنية” هي التي أرادت تكريس الموقف غير الدستوري بينما مؤسسة الجيش “العسكرية” سعت لاسترجاعه، وتلك هي إحداثيات الصراع التي للأسف لم يدركها جانب عريض من جمهور الحركة الشعبية وقطاع واسع من الشعب فالتبس عليه الأمر، ولم يعد يدرك الكثير مما يحدث من حوله واندرج في ترديد شعارات وتقديم تحاليل أبانت بوضوح على أن الأحداث تجاوزت قدرة الكثير من العقول على استيعاب ما يحصل، فضلا عن الأطراف المغرضة التي لم تسعد بالوضع الجديد فعملت على تمييعه والاستخفاف بمنجزات الحركة الشعبية عن طريق الدعم الفعلي والقوي للجيش.
والسؤال هنا، أي دور قامت به حركة 22 فبراير الشعبية؟ والجواب المباشر، هو أنها أزاحت الحاجز الذي كان يمنع تحقق الاستقلال الثاني للجزائر، وأفسحت المجال للجيش ذو النزوع الاستقلالي للتدخل المباشر لإزالة الورم والداء الذي كان ينخر جسد دولة ومجتمع كان على شفا انهيار فعلي؛ بعبارة أخرى وفرت مبررا وغطاء سياسيا للداخل والخارج لتدخل الجيش لعزل “العصبة الحاكمة”، وعرابيها من النخب الاستئصالية، التي كانت تتلاعب بمصير الأمة اقتصاديا وأيديولوجيا.
الخلاصة، لم يكن للحركة الشعبية في الجزائر أن تحقق نجاحها الأولي الحالي، الشارط لتحقيق باقي التطلعات، لولا أن المؤسسة الحامية وقفت إلى جانب الشعب في سابقة تاريخية في البلاد العربية، وهذا ما يؤكد مرة أخرى على أن الأولوية القصوى في بناء الأمم الوطنية الحديثة له ارتباط عضوي بسيادة المؤسسة الحامية (=الجيش)، وهو ما يتلوه ضرورة العمل على تحقيق استقلال اقتصادي ينجر عنه بالضرورة استقلال القرار السياسي الذي يجعل من السلطة الحاكمة لكل بلد الضمير الفعلي المعبر عن الإرادة العامة للشعب.