نحو تأسيس عقد اجتماعي جزائري على ضوء الحراك

يأتي كتاب “شروط نجاح الحراك: مسوّدة أفكار حول تأسيس عقد اجتماعي جزائري جديد” (الكتاب صدر عن دار النعمان للطباعة والنشر بالعاصمة سبتمبر 2019) محاولة لتقديم خلاصة عما تضمّنته المقالات التي نشرتها لفهم منطق الحراك الجزائري وأسسه الاجتماعية وطموحاته غير المعلنة، وقد كرّستُ ذلك كله لبيان كيف يمكن الانتقال الآمن من مرحلة إلى أخرى نحو بناء المستقبل المتوسط والبعيد للوطن، أما الفكرة الخلفية التي أطّرت لكل ذلك فقد كان التأسيس النظري لعقد اجتماعي جديد؛ مما يقتضي تحديد طبيعته ومضامينه. وفيما يلي عرض لأهم الأفكار التي جاءت في الكتاب.

1-     تقديم

ما معنى «عقد اجتماعي»؟ ولماذا الكلام عن عقد اجتماعي جزائري؟

يقتضي الكلام عن العقد وجود طرفين ينظمان من خلاله قواعد العيش هما السلطة والشعب، والعقد الاجتماعي حسب تعريفاته الجديدة أنه ليس مطلبا عقليا بقدر ما هو حقيقة غريزية: أي أن الاتفاق على طريقة العيش يكون عفويا وليس اختياريا، ومعنى ذلك أن تفاصيل العقد الاجتماعي لا تتحدد استنادا إلى أيديولوجيا فكرية بل تتحدد عفويا استنادا إلى معطيات طبيعية وظرفية.

ومن ثم فالعقد الاجتماعي حقيقة معطاة وليست كسبية، إنما يحاول الفكر تأطيره فحسب دون ادعاء اختلاقه، وهنا نصل إلى الجواب عن علّة طرح فكرة تأسيس عقد اجتماعي جزائري: وهو أننا بحاجة إلى تأسيس العقد، إن لم يكن موجودا (كفكر فلسفي، كتاب ميلاد مجتمع) أو تجديده إن كان موجودا (كوثائق تاريخية: بيان أول نوفمبر).

ومنطلق الكلام عن عقد اجتماعي هو محاولة علاج جذري لإشكالية الهوية التي عادت إلى الظهور  عالميا بعد الحرب الباردة، والتي تجلت في الجزائر: 1- الربيع الأمازيغي، 2- التيار الإسلامي، وبالتالي فإن علاجها في الواقع هو تصدي لمخلفات نتائج الحرب الباردة، وتخلص من تبعات الصدام الحضاري أيضا، والسؤال هو إذن على أي منطق سيقوم العقد الاجتماعي الجديد؟

2-     مدخل

أولا ما موقع «العقد الاجتماعي» من الخطوات السياسية والقانونية في إطار الحراك؟

من الواضح أنه سيحتل الأسبقية لكونه القاعدة التي ستقوم عليها بقية الخطوات، و كذا انطلاقا من أسبقية التنظير على العمل، والأسبقية هنا مجازية طبعا، والمقصود هو أهمية التفكير بشكل مواز للحراك الاجتماعي، وطبيعة التفكير تتجاوز بطبيعة الحال التنظيرات الكبرى التي تقوم على ثبات معين إلى رؤية تفاعلية منتبهة إلى تحركات الواقع اليومي، الواقع المجتمعي الراهن في الجزائر يمور بحالة من التقلبات في المجال الاجتماعي تتتالى بسرعة الضوء خلال الحراك، وهو ما حفز بظهوره حركة اجتماعية وسياسية غير مسبوقة داخليا وخارجيا.

وجوابا على سؤال طبيعة العقد الاجتماعي: «لاشكّ أن روح العقد الجزائري ستكون نفعية صرفة تسمو إلى رشد مصلحة الجميع داخل الجغرافيا الواحدة التي تطمح أن تتحدد داخلها وقائع الأمن الشامل وعدالة القضاء والرفاه الاقتصادي».

3-     شروط قيام العقد الاجتماعي

بداية العقد الاجتماعي يقوم على فكرة السيادة التامة على الذات الوطنية، بمعنى استقلال تام، وإلا فإن الكلام عن العقد سيكون متعذرا، وحتى يمكن تحقق عقد اجتماعي فعلي وفاعل لابد من توفر مناخ مناسب هو:

  • التحرر والسيادة التامين.
  • أن توجد دولة متكاملة الأركان.

وتحقق هذه الحالة المثالية يعوقه إشكالان، داخلي وخارجي:

أ- الداخلي: هو  عدم الكفاءة في تسيير الشأن الأهلي العام، والتبعية الطوعية للأجنبي التي تتراوح بين الإعجاب المفرط بقدراته وصولا إلى خدمة مصالحه.

ب- الخارجي: أن الجزائر تقع في محيط دولي تصاغ أسسه وتعاد كل مرة خارج إرادة الشعوب، ما يعني أن محاولة تغيير منظومته السياسية الوطنية سيصطدم في كثير أو قليل بالمنظومة الدولية: اقتصاديا عسكريا دبلوماسيا وثقافيا، وهو الصدام الذي هو حاصل الآن على أشدّه سواء بشكل خفي أو ظاهر.

4-     طبيعة العقد الاجتماعي

الأصل أن الاجتماع الجزائري على المستوى التفاعلي اليومي هو ذو طبيعة تبادلية منفعية، إلا أنه بقي على المستوى السياسي محكوما بقيم الجهة والقبيلة، فالواقع الإداري في الجزائر كان دائما كان محكوما بهوية تحت وطنية وهو ما تضاعف مؤخرا مثلا:

1- أحداث غرداية التي تجلى فيها غلبة الهوياتي على الوطني.

2- ظهور خطابات شعبوية وعنصرية.

لذلك فإن من البنود الأساسية التي يجب أن يتضمنها العقد الاجتماعي هو الحرية المطلقة للانتماء بشرط عدم المساس بالمصلحة العامة.

وذوبان الهويات على المستوى السياسي لا يعني إلغاءها الفعلي بل هو تحرير للهويات مقابل تصفية شاملة وتامة لها من على المستويات الرسمية، لذلك كان الحل هو تأطير الهويات بقواعد لعب محصورة ضمن الإطار الرمزي الثقافي، ولا تتعداه إلى الإطار الفعلي المتمثل في المكاسب.

5-     فحوى العقد الاجتماعي

كان سعي الجمهور من الخروج إلى الساحات العامة للتظاهر ليس القضاء على التناقضات الاجتماعية إنما لتأسيسها وفقا لقواعد جديدة تتجاوز الطابع الاحتكاري والاعتباطي إلى تنافس قائم على الكفاءة والأهلية التكوينية علميا وأخلاقيا.

وبعيدا عن الدوافع المباشرة فإن الدافع الفعلي العميق للحراك هو الشعور بعدم الأمان الآني والمستقبلي، بما هي دوافع غريزية عميقة أهمها ضمان العيش وتحسين شروطه، و بداية ضمان العيش وتحسين شروطه يكون بآلية أساسية هي آلية المراقبة الحثيثة للشأن العام والسياسات العامة للسلطة باستعمال جميع الوسائل الديمقراطية.

والغاية هي الوصول إلى  التخطيط الاجتماعي والاقتصادي الفعلي والجاد من طرف المشرعين والمنفذين، والذي يكون هدفه خدمة عموم الشعب، وتحقيق ما تقدم ينبني على إدراك تام لعمق الأزمة وأنها ليست نتاج اليوم أو البارحة وأنها لن تعالج اليوم أو غدا، “قد بلغ عمق الأزمة إلى أن أصبح الجميع يتنافس من أجل التورط في الفساد باعتباره مجلبة للمصالح الخاصة بما أغلق كل منافذ سياحة الضمير خارج أفق الفساد والتورط فيه بدرجة أو بأخرى”، “والمحصلة هو أن الحراك الثوري الحاصل كان فعلا استباقيا: احترازي واحتياطي، وهو حماية متقدّمة للأمة ومقدّراتها، حماية من الانهيار وعملا على تنمية مستقبلية مستدامة”.

6-     مبدأ المنفعة في الاجتماع الجزائري

إن لحظة الحراك الثوري فبراير 19 هي لحظة استكمال رمزية لثورة نوفمبر 54 بما هي سعي للتحرّر  ضمن الإطار الحديث الذي تكونت ضمنه معالم ومكونات المجتمع الجزائري الذي تأسس على مبدأ الاستقلال الذاتي في لحظة التحرير وهو يواصل تحرره في اللحظة الراهنة على مبدأ المصلحة العامة، أما الإطار الهوياتي العام المتمثل في: 1- الإسلام، 2- العربية، 3- الأمازيغية، وبقية المكونات الأصغر من قبيل: الثورة والاستقلال، وكذا الفسيفساء الاجتماعية والثقافية ومظاهرها، فتصبح كلها مكونات وظيفية في خدمة مبدئي الاستقلال والمنفعة العامة.

ولابد أن يصبح النظر إلى الماضي نفعيا في حد ذاته فيفصل التاريخ عن التمدد الاعتباري واختراق الراهن، ومعنى ذلك أن تحصل قطيعة منهجية في فهم واستيعاب التاريخ بوصفه حقائق معبرة عن ظرفيتها، لا حقائق تكبّل إليها الإنسان الحاضر.

7-     مبدأ اليقظة السياسية

يتولى الشعب عبر نخبه رعاية التشريع ومضامينه ورعاية الاقتصاد ومضامينه، وأعني بها النخب التشريعية والتنفيذية وقبلها النخب المفكّرة بشقيها النخب المعرفية والنخب التقنية، فالنخب المعرفية هي من يحدّد روح العقد الاجتماعي أما النخب التقنية فهي تجسد تلك الروح في التفاصيل الفعلية والمادية على ألا يبقى للنخب الميدانية (السياسية والاقتصادية والثقافية) إلا التنفيذ، الدولة قبل أن تكون مجموع مؤسسات هي خلاصة روح الشعب.

وانتهاء إلى إعادة بناء الهرم الاجتماعي بروح الطبقة الرمزية التي تستعيد مكانتها وكذا بناء سلّم قيم وطنية جديد بروح المنفعة التي تشكل الخلفية لكل هوية أخرى، وتقوم اليقظة السياسية أخيرا في عموم الشعب لتشكل الوصل بين القيم المادية (الاقتصاد) والقيم الروحية (الدين)، فتكون اليقظة السياسية رقيبة على تحرير الاقتصاد من الاحتكار وسوء التخطيط، ورقيبة على تحرير الدين من الاختطاف وموت الضمير.

8-     مبدأ حرية الرأي

الحرية هي الشرط الذي من دونه يكون الحراك غير ممكن، ولما كان ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كانت الحرية أوجب الواجبات في المجتمع الحر القائم على قواعد سوية وصلبة، حيث يتعدّى وجوب الحرية من ضرورة للتحرر إلى كونها ضرورة وجودية.

ذلك أن مصادرة حق حرية الرأي والفعل تجعل الإنسان منقوص الإنسانية ومن ثم كان الحراك الثوري في جوهره استعادت للإنسان الجزائري إنسانيته، ولما كانت الحرية هي التصرف غير المقيّد إلا ضمن حدود القانون العقلاني المعلن، فإنها تشكل الأداة التي تخوّل الجميع الإسهام بالقول والفعل في صناعة القرار والمشاركة في تشريع وتنفيذ الخطط والسياسات الاجتماعية.

وفي كل الأحوال فإن الحماية والضمانة الرئيسة من الانفلات الذي يمكن أن تزرعه حرية الآراء هو احتكار السلطة لـ”حرية الإرادة”، ومعنى ذلك أن الشعب يحوز حرية الرأي أما حرية الفعل والتنفيذ فتحتكره الدولة لوحدها، فلكي لا تحدث الفوضى في ظل حرية الرأي لابد من أن تبسط الدولة سلطانها على الجميع من حيث الممارسة والتنفيذ.

9-     الخلاصة:

محصلة الأمر هو أن بناء منظومة حكم جديدة يقتضي تأسيس عقد اجتماعي يسعى إلى الأهداف التاريخية التالية:

أ‌-       إعادة الصلة التاريخية بالعالم من خلال بناء التنظيم الهيكلي العام، وكذا اللحاق بركب التقنية وتيسير التعاملات الإدارية.

ب‌-     الاستغلال الأمثل للثروات الطبيعية وعائداتها المالية وانعكاسها على الشعب بالرفاه الفردي.

ج‌-     إحياء العدالة وبناء أسسها مجددا، بالتوزيع العادل للثروة وعائداتها انطلاقا من استخدامها لتقوية البناءين الاجتماعي والاقتصادي للدولة.

د‌-      فتح المجال أمام الرأي الحر مهما كان شرط أن يقوم على الثوابت التي هي القيم التي يجب أن تحدد، ومقترحي حول تلك القيم: الوحدة. العدالة. التنمية. الرفاه.

ه‌-     الخلوص إلى بناء مجتمع مترابط اقتصاديا ونفسيا من الناحية الداخلية، وصاحب دور على المستوى الكوني بفضل الدور الاقتصادي والسياسي والعلمي الذي يمكن أن يقوم به.

داخل المقالات
أبريل 2025
د ن ث أرب خ ج س
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
27282930  

الأرشيف

إحصائيات الموقع

167203
اليوم : 85
الأمس : 117
هذا الشهر : 4379
هذا العام : 15915
مشاهدات اليوم : 356
مجموع المشاهدات : 506510
المتواجدون الآن : 3