المعادلات الصعبة للحراك الجزائري

أشرت في مقال سابق إلى أن الفعل الثوري هو في الواقع “مقاومة استباقية” للأخطار والتهديدات غير الآنية التي يشعر بها الأفراد، وهنا لا مناص من الحديث عن “عقل جماعي” أقدم على الهبّة عندما أدرك أنه ليس له منها بد، ذلك أن الأمر متعلق بحياة أو ممات رمزي وحتى فعلي، حيث خروجه كان هروبا منه من موت سريري شبه محقق في ظل أوضاع وظروف غير طبيعية تعيشها المؤسسة السياسية وطبقاتها في الجزائر، كما كان اندفاعا في مغامرة شجاعة لكنها غير مضمونة النتائج، فكيف ذلك؟

لاشكّ أن كل من خرج إلى التظاهر لم يكن يعرف نوع المعاملة التي سيلقاها في ساحات التظاهر،  لكنه في الوقت ذاته كان موقنا أن التزامه البيت سيكون له تكلفة مستقبلية تتعلّق بفقدان نزر المزايا الذي بقي بين يديه، من حيث التهديد بفقد الثروات التي تحوزها البلد والتي تشكل مصدر رزق الأفراد والدخل الذي يحقق الملبس والمسكن الذي يحقق الكرامة في حدها الأدنى، وعلى ذلك هي حماية للمستقبل في ظل غياب تام لإرادة حقيقية باتجاه تحقيق رفاه الشعب وحقوقه الدنيا، فلا وجود لتخطيط أو تنمية للمستقبل القريب فضلا عن البعيد.

والواقع أن أخذ قرار الخروج وتنفيذه ينطوي على حتمية أن الوضع قبل الخروج سوف لن يكون أبدا الوضع بعد الخروج إلى ساحات التظاهر، ومن ثم فإن المستقبل سينفتح على احتمالات أهمها اثنان: 1- إما تحقيق نتيجة مرضية من الخروج تنبئ ولو بشيء من النماء والازدهار.

2- إما صراع أهلي يودي بالكيان الفردي والوطني والمقدّرات إلى الضياع.

والسؤال الأهم اليوم يتمثل في مدى الرؤية التي تحكم الحراك والمتحدثين باسمه وموجهيه، فالمعلوم أن السلطة قدّمت عرضا للجمهور النازل إلى الميدان، إلا أنه بدا أسوأ مما كان عليه واقع الأمر قبل ذلك، فهو تمديد دون انتخابات ودون سند من القانون.

 وأول ما يستشف من الأمر هو استعجال الجمهور التنحي التام ليس للرئيس فقط إنما لجميع رموز النظام، ذلك ما يجد فيه البعض ضربا من التهور ذلك أن الفراغ الحتمي الذي سينتج في السلطة سيشكل لحظة ضعف حقيقية للوضح الأمني والسلطوي، خاصة إذا فوجئ الجمهور بإعلان غير منتظر للاستجابة لمطالب الشعب، فالأرجح أن مغادرتهم للسلطة سوف لن تسبق باستخلاف أنفسهم برجال ذوو ثقة ومستأمنون على مستقبل البلد.

وما يزيد من خطورة الوضع هو أنه وبمرور الوقت تتجذر المطالب أكثر فأكثر راديكالية بما من يقلل من فرص التقارب بين السلطة والجمهور، على أن الجمهور معتمد في تجذير مطالبه على المؤسسة الأمنية التي يثق في اتخاذها موقفا محايدا، ما يعني أنه مهما حدث من فراغ فما تزال جبهة أخيرة تحفظ الأمن من الانفلات والسلطة من الاختطاف.

والمعلوم في كل الأحوال أن الإرادة الشعبية ستكون بين فكي كماشة، ذلك أن التدخل الخارجي يحصل من جهتين:

أ- جهة التدخل المباشر للقوى الخارجية في صناعة القرار داخل السلطة

ب- جهة التدخل الاستخباراتي غير المباشر في التحكم في مطالب الحراك.

ذلك ما يعني أن الأمر هو كله بيد خارجية، فلا تبقى الإرادة الشعبية إلا ورقة تستند إليها الإرادة الخارجية في الضغط على السلطة باتجاه اتخاذ قرارات لا تلبي المطالب بشكل تام، و في الوقت ذاته دفع الجمهور إلى اتخاذ موقف أكثر راديكالية.

و هنا لابد من القول أن ادعاء التحكّم في الوضع من قبل الإرادة الشعبية لوحدها ليس له ما يسنده في الواقع، خاصة في ظل رفض واضح على عدم انتخاب قيادة قبل حصول تنازلات معينة من طرف السلطة، فضلا عن ذلك أن المطالب غير واضحة بدقّة، وهذا يدل على عدم وجود حدود تضبط هذا الحراك، والسؤال الملح هنا هو عن منطق الإصرار على رفض انتخاب قيادة، فحينا نسمع أن القيادة موجودة وبقي فقط الاعلان عنها، وحينا آخر نسمع أن تطور الأحداث هو الذي سيفرز قيادات.

والمعلوم أنه لن توجد مطالب واضحة إلا بوجود قيادة جماعية تكون العقل المدبر للجمهور، فالجمهور ليس له إلا الإرادة والنزول إلى الميدان، ومن الطبيعي أن تصير مطالبه أكثر جذرية كل مرّة، لذلك فعدم الإقدام على إعلان قيادات توجه الحراك يبقى أمرا مفخخا رغم كونه مدعوما بمنطق الحفاظ على استقلالية الحراك، خاصة في ظل تشتت طبيعي راهن للأصوات المتحدثة باسمه، حيث السؤال الأخطر من يقرر أنه حان وقت انتخاب القيادة؟ زيادة إلى السؤال المتقدّم هل القيادة جاهزة ومختفية أم أن الأمر ينتظر أن تفرز من رحم الأحداث؟ فالواقع أنه سؤال مؤرق فعلا.

مما لا ريب فيه أن للحراك دوافعه الذاتية والموضوعية التي تضفي عليه الشرعية ولا نقاش في ذلك، إلا أن الحقيقة الموضوعية الأخرى هو أنه حراك جاء في وضع مفخخ داخليا وخارجيا، ومن ثم كان الهم الأساسي هو السعي للإبقاء على ذاتيته وتمليكه قراره، وذلك من خلال عملية تعقيل الجمهور، أعني أنه من الأهمية بمكان أن يعي الجمهور أنّ تحكّمه الحقيقي في حراكه وسيادته على الوضع ليس في الذهاب بعيدا في المطالب ولا في تحقيقها، بقدر ما أن تحكّمه يتجلى بصورة أفضل في قدرته على لجم ذاته في اللحظة المناسبة، أعني أن يوطّن نفسه على مطالب محدّدة ومعقولة جدّا، ويكون مستعدّا لتحويل نمط الاحتجاج الذي هو الآن مقتصر على التظاهر السلمي إلى أنماط أخرى من النضال.

فمن الموضوعي أن امتصاص الحماس المطلق الذي يتملك كل فرد بعد الخروج إلى الحراك لا يجب أن يتوقف فجأة فيخالف الطبائع والنفسيات، لكن يجب أن يتوجّه إلى الفعل الثوري البنّاء وهنا لابد من محاولة تصنيف لجمهور الحراك:

1- من خرج احتفالات وابتهاجا باتحاد الشعب في لحظة غير مسبوقة.

2- من خرج واضعا في ذهنه تحقيق تغيير على مستوى هرم السلطة.

3- من خرج باحثا لنفسه عن دور فعلي يشارك به في صناعة القرار.

4-     من خرج وفي ذهنه خطّة ما للمناورة على تحقيق كل ذلك.

5-     من يفكّر في كل ما يحدث لصياغة خطة دقيقة تنطلق من الوضع.

والغالب أنها أصناف مختلفة نوعيا في قصودها، يجمعها وطن واحد هو ذاته الحقل الذي تؤدي فيه فعلها، لذلك كان توجيه الحراك الذي سيبقى متحركا نحو تطور نوعي ليس باتجاه مطالب قد لا تكون في المتناول حاليا، بقدر ما يكون نحو هيكلة الوعي والسلوك ضمن الواقع الجديد.

فالواضح أن الحراك الآن لم يتجاوز مرحلة الفوران، ومن ثم كان من الضروري أن يتم التهيئة النفسية للجمهور العام بطريقة منظمة تنظيما ذاتيا على شكل عنقودي و على طريقة كرة الثلج، بتوجيه اهتمامه إلى متابعة الشأن العام عن طريق الرأي والتنظيم الذاتي وكذا العودة التحرك الفعلي في حال الاقتضاء، ولم لا التنظم بعد ذلك في أحزاب سياسية أو تمثيليات جهوية ومناطقية.

وتلك أفضل طرق إعادة التوجيه الإيجابي للحراك الجاري، بما هو تأسيس فعلي للوضع الجديد سياسيا وثقافيا، فالمعلوم أن الثورة قاضية على كل الحدود القديمة ومن ثم يبقى مطلب إعادة تأسيس النظام والحدود مطلبا استعجاليا ملحا تشارك فيها الفعاليات الحقوقية والقانونية بوصفها فعاليات بديلة مؤقتا لكونها هي من يقوم على المرحلة الانتقالية.

داخل المقالات
أبريل 2025
د ن ث أرب خ ج س
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
27282930  

الأرشيف

إحصائيات الموقع

167201
اليوم : 83
الأمس : 117
هذا الشهر : 4377
هذا العام : 15913
مشاهدات اليوم : 351
مجموع المشاهدات : 506505
المتواجدون الآن : 3