تفاعل حول كتاب أسس العلوم الاجتماعية..

أولا: إشكالية العلاقة بين الهويتين الطبيعية والتاريخية 
سؤال: استفسر بشأن حدود الاتصال والانفصال بين الطبيعي والثقافي لتفسير تطور الظاهرة العمرانية في ظل ثنائية التفاعل الأداتي والغائي خاصة مع تآكل الحدود بينها في الراهن الثقافي اليوم وكيف يفسر ذلك تنامي مظاهر العنصرية الثقافية بين المجتمعات العالية اليوم هل هي نكوص للطبيعي بفعل الوصل بين الطبيعي والثقافي ؟؟ ولما تحقق فعلها العنصري تحديد ؟؟ ..لا أدري لفت انتباهي هذه الفكرة واتمنى ان اجد توضيحا من حضرتكم مع تقديري لجهودكم الفكرية المميزة …
الجواب:
الأداتي طبيعي والغائي ثقافي. الطبيعي حاضر على الدوام في أي واقع اجتماعي تاريخي، إنما الثقافي هو الذي يظهر فيقوى فيخفت حسب كل مرحلة وإنسانها، وهو مرتبط بتخلي الإنسان عن غفليته وإخلاده إلى وعيه وإرادته وحركته، فالمقصود بالثقافي هنا هو التاريخية بما هي فعل الإنسان وإرادته بما هما مؤثرين وفاعلين في الوجود الاجتماعي يصل في أقصى تأثيره إلى القدرة على جعل الطبيعي يتغير..
يمكن أن أفهم من قولك “تآكل الحدود” هو انحسار الغائي لصالح الأداتي. وبالفعل فإن تنامي التحيزات العنصرية هو دليل فقدان للروح الثقافية التي يتحد الإنسان وفقا لها “كهوية ثقافية عليا” بعيدا عن الهوية الطبيعية. والمعلوم أن الهويات العنصرية اليوم لم تعد طبيعية بالمعنى الحقيقي، وأقصد القرابة الدموية. إنما أصبحت هويات أيديولوجية تقوم على هوية مصطنعة مفروضة على الأفراد:
1- لا هي طبيعية صرفة: فالانتماء العائلي والقبلي بما هو انتماء قرابي واسع الامتداد أصبح مفتتا بين قوميات عرقية وطائفيات دينية.
2- ولا هي ثقافية متسامية: فالرابطة الأخوية بما هي انتماء اختياري واسع الامتداد أصبح مفتتا بين أمم تبتعد عن جذرها الحضاري وأخرى تراوح فيما دون الحضارة.
لذلك فيمكن أن نتفق اليوم أننا في مرحلة ابتعاد ثقافات عن تساميها الذي كان يسمها ماضيا، وأخرى تبتعد عن طبيعتها الحقة الذي كانت عليه، فأصبحت الثقافات اليوم تعيش “بينَ-بين” لا هي طبيعية ولا هي تاريخية. إنما ضرب من الهويات تم تثبيتها في مرحلة معينة من التاريخ فتجمدت مفهوم الهوية لديها وأصبح مقدسا، هذا الجمود الثقافي للانتماء الهوياتي هو الطابع الذي يسم جل مجتمعات اليوم على مختلف أشكالها ومستوياته، بما فيها الهوية الوطنية الذي يشمل جميع الكيانات القائمة على مبدأ “الدولة الحديثة” والتي دائما ما تجمد على تعريف وتمثل محدد متفق عليه لا يتجاوز، بحكم ضرورات تحقيق مبدأي الوحدة والنظام.
لذلك، فإن الهوية النموذجية أصبحت مفقودة لا بشقها الطبيعي، وأقصد به الكيانات القبلية الواسعة الامتداد والقائمة على القرابة الدموية الحقيقية. ولا بشقها الثقافي، وأقصد به الكيانات الأخوية الواسعة الامتداد والقائمة على الانتماء الحضاري الموحد، الذي يجعل من الانتماء الطبيعي أداة على غرار تقسيم الميراث، أما الاختلاف الثقافي داخل الحضارة الواحدة فلغاية الوحدة الإنسانية التي تعتبر غاية الديانة الأخيرة.
وعليه، فإن التساؤل الجدير يتغيا في عمقه البحث عن أساس ثقافي مبني على فكرة “تجاوز الذات الثقافية الطبيعية” لبناء “ذات ثقافية متسامية” تتجسد واقعيا في مفهوم المنفعة العامة والتعارف بين الشعوب، والابتعاد عن الصراع سواء داخل الهوية الإسلامية الكبرى وبين أبناء الحضارات المختلفة، وهذا كله لا يبنى بمجرد الرغبة والتشهي بقدر ما يقوم على حقيقة “التغلب الحضاري”، لأن النموذج الموصوف خاص بقيم الإسلام التي تطرد المسلم الذي لا ينتمي إليها وتجذب إليها غير المسلم الذي يؤمن بها ويعمل لها.. فالتغلب يكون لغاية تحقيق القيم التي تحاربها الحضارات التي تقوم على أساس فكرة “العبد والسيد” بينما حضارة الإسلام ليس فيها إلا أسياد دنيويين على أنفسهم وهم في الوقت ذاته كلهم عبيد ليس لآلهة دنيوية لكن لإله خالق يستحق أن يعبد.. والله أعلم. د/ محمد عبد النور 21/10/2024
الحنيفية المحدثة.. الأصل والفصل
السؤال: من عادتي أحب فهم المصطلحات وعند قراءة كتابك اسس العلوم الاجتماعية لو تفضلت ان تفهمني المعنى الاصطلاحي في كلمة التقليد الحنيفي السطر الاول صفحة 12.. …الصفحة 13 في الفقرة الثانية كلمة مشروع الاستخلاف القائم على السنن الفكرية للحنيفية المحدثة .. ما المعنى من كلمة الحنفية معذرة استاذنا الكريم وبارك الله فيك؟
الجواب: من المهم بداية أن أوضح إن إرفاق كلمة “تقليد” بالحنيفية ما هو إلا تجوز من عندي، ذلك أن الروح الحنيفية أبعد من أن تكون تقليدا اجتماعيا أو ثقافيا ميتا كما هو غالب ما يكتنف التقاليد مهما بلغت عراقتها وانتشارها، ذلك أن معنى الحنيفية المنسوب تأسيسه إلى النبي إبراهيم عليه السلام، يشير في أهم مدلولاته إلى معنى إخضاع التصورات الذهنية الدينية للتحري والتمحيص التجريبي العقلي بخصوص المسألة العقدية، أعني بناء الإيمان بطريقة السؤال المنطلق من الحس لإخضاع الصور والتصورات المسبقة والجاهزة للاختبار، وبناء معتقد حي بعيد عن الآبائية، وذلك معنى تكرر التحري الإبراهيمي لمرتين في مناسبتين بحثا عن الله ثم بحثا عن كيفية الخلق..
تواصلت الحنيفية في شبه الجزيرة بعد إبراهيم على استحياء، فأحياها النبي محمد (ص)، لم يكن إحياء تعصّب لأب من الآباء، إنما كان إحياء عفويا -وهو الأمي- عبر سلوك التحنّث حتى نزل عليه جبريل، فكان النبي بسلوكه التعبدي المبتعد عن الأوثان الجاهلية محييا للتقليد الإبراهيمي، وذلك معنى التحديث للحنيفية المحدثة الذي يشار به إلى “الإسلام” وصاحب رسالته محمد (ص)، وعلى ذلك الأساس كله بني الإسلام كدين فطري طبيعي ودين سماوي منزل، وتلك كانت الحالة التأسيسية الخام للحنيفية.
ثم كان لابد بعد ذلك من تأسيس الحنيفية بالشكل العقلي المركب، بعد أن استطالت المدة من وفاة النبي واتساع الرقعة الإسلامية، والأهم هو تسرب الفكر العقلي اليوناني إلى الفكر الديني الإسلامي، وذلك ما أدى إلى ظهور الطريقة التجريبية في البحث العلمي كامتداد للسلوك التجريبي في الدين، كما أسسه إبراهيم عليه السلام عبر الفروض الدينية واختبارها (مسألة البحث عن الخالق) ومحاولة إخضاع المسلمات الإيمانية للاختبار الحسي (في مسألة التأكد من الخلق).
وعلى ذلك الأساس ظهرت المدرسة النقدية العربية كما اكتشفها الأستاذ أبويعرب برموزها الثلاثة الذين أسسوا مراجعاتهم الجذرية للفكر اليوناني على أساس التمحيص الاختباري للتصورات السائدة في الفكرين العلمي والديني إذ جاءت كل مساهماتهم قائمة على مبدأ “الاختبار التجريبي”، فالغزالي أقام نقده للفلاسفة بناء على حقيقة أن القوانين الطبيعية رغم تكررها الرتيب والمستمر إلا أنها لا يجب أن تخدع حسنا، لأنها تتكرر تكرر إمكان لا تكرر ضرورة، وابن تيمية الذي فصل بين المقدرات الذهنية والمقدرات الواقعية لألا نتوهم أن اللغة هي الواقع ذاته، إذ وبهذين التأسيس أتم ابن خلدون قيام “الحنيفية المحدثة” كنهج للتفكير العلمي والفلسفي بديلا عن “الافلاطونية المحدثة” التي أقامها أفلوطين بناء على فلسفتي أفلاطون وأرسطو، وقدّم فيها فكرا دينيا خليطا من الفكر الأفلاطوني واليهودية والنصرانية والعقائد الشرقية.
وعليه فإن أي تفكير عقلي ديني وفلسفي لم يكن ليخرج -قبل تأسيس الحنيفية المحدثة- من إطار الأفلاطونية التي يعرفها النقدان الغزالي والتيمي المذكوران بشكل سلبي فهي تقوم على اعتبار الضرورة في تكرر القوانين الطبيعية كما أنها تعتبر الكليات العقلية حقائق فعلية وهو ما أثبت النقد التيمي بطلانه.
بهذا فإن صعوبة تلقي هذا التأسيس، وأعني به الحنيفية المحدثة، تماما كما كانت صعوبة تلقي اجتهادات المدرسة النقدية، قائم على عدم استيعاب حقيقة “وحدة الفكرين الديني والعقلي” والتعامل مع المسائل العقلية وكأنها يمكن أن تكون مستقلة عن التأسيس الديني له، وهذا أكبر وهم تعاني منه النخب العربية اليوم، وهم الاعتقاد بإمكان التفكير العقلي دون أساس المعتقد الديني، وهو ما كان أفلوطين قد أتمه كمحصلة حتمية وضرورية لما بدأه افلاطون وأرسطو.
فكان الإسهام الخلدوني المتمثل صوريا في تأسيس “علم العمران” قد أقام السنن الحنيفية المحدثة على سوقها في مضامين المقدمة بشكل نسقي شبه تام، وذلك بواقعيته التجريبية المتينة التي جاءت على أسس البناء العقلي لكل من فقهاء ومتكلمي وفلاسفة عصره ومن قبلهم ممن بقي على الفهم البسيط للحنيفية أو ممن اعتنق مبادئ الأفلاطونية.. فكان بذلك المخلّص من الجمود الأفلاطوني ومجدد للاختبارية الحنيفية..
وعليه كان التجريب في المعرفة العلمية ابتكارا إسلاميا وامتدادا للاختبارية الدينية، لذلك كان السبق الإسلامي إلى التجريب كأداة تحقق علمي، لكنها استحالت عند الغرب الحديث إلى فلسفة شاملة للإنسان ألغت القيم، وأصبح الطبيعي قاضيا على القيمي، فعدنا إلى الأفلاطونية التي ألغت القيمة وحصرت التجريب في العلم، وجف النبع الخلدوني الذي بنى علم عمرانه على تواشج الطبيعي مع القيمي، فأنتج نظريات اجتماعية لا تأبه للقيمي على غرار الوضعية التي جعلت الإنسان كائنا أصم و أخرى مثالية جعلت القيمة مبدأ ممكن المحايثة..
وأما وحدة الفكرين فقد اضطر أفلوطين لإنهاء التأرجح بين المثالية الأفلاطونية والواقعية الأرسطية بما هي استجابة غير واعية وغفلة لاستحالة الكمال العقلي تصورا وحسا، أتم البناء النسقي للأفلاطونية بإضفاء فكرة الفيض باعتبار العالم كله نتاجا عرضيا عن العقل الإلهي، محاولا تقديم خلاصة نسقية جمع فيها الأفلاطونية إلى الأرسطية واليهودية إلى المسيحية، فغدى الخلاصة العقلية الوحيدة لكل فكر فلسفي وعلمي إنساني، وهو ما دعى إلى محاولة تقديم البديل الشهودي في الإسلامي، باعتبار الأفلاطونية المحدثة نموذجا جحوديا قام على تأليه الإنسان عقلا وإرادة، يقوم على تقديس النماذج الصورية والفعلية، إلى نموذج لا قدسية فيه لأي رأي أو فعل إنساني، وذلك ماكانت النهضة الأوروبية قد استندت إلى مبادئه المؤسسة عند قيامها وليس إلى الرشدية كما يدعى ذلك زورا.. والله أعلم 24/10/2024
داخل أسئلة الفكر وأجوبتها
أبريل 2025
د ن ث أرب خ ج س
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
27282930  

الأرشيف

إحصائيات الموقع

167205
اليوم : 87
الأمس : 117
هذا الشهر : 4381
هذا العام : 15917
مشاهدات اليوم : 359
مجموع المشاهدات : 506513
المتواجدون الآن : 4