حوار ميشال مافيزولي مع صحيفة لوفيغاروفوكس بتاريخ 31/10/2014
بمناسبة صدور كتابه "نظام الأشياء" (1) يكشف السوسيولوجي ميشال مافيزولي للوفيغارو فوكس عن أسباب تنبؤه بأفول المجتمع الغربي، وتشوقه لميلاد عالم جديد.
لوفيغاروفوكس: قمت في كتابك الأخير بامتداح مابعدالحداثة مرة أخرى والتذكير بنوع من التفاؤل أن "نهاية عالم ليست نهاية العالم"، ألم يأت كتاب "نظام الأشياء" كترياق فلسفي مثالي لتشاؤم "الإنتحار الفرنسي" (2) لإريك زمور؟
مافيزولي: أكنّ ودّا لإريك زمور، لكن فعلا أنا أحاول علاج مواقفه، لا أحكم عليه بأنه "خطير" أو "فاشي" كما يفعل بعض الوثوقيين، بل لأني لست منبهرا مثله بالماضي ولا محافظا على قالب الحداثة كما يفعل، فأنا أشتغل على فهم العالم المعاصر، هنا والآن، وفعلا أعتقد أن الحديث عن الشأن العام (Res Publica) أمر ممكن لكن خارج سياق التصور النمطي للجمهورية (Republique) كنموذج نشأ في هذه المنطقة الصغيرة من العالم والذي على أساسه قامت أوروبا القرنين التاسع عشر والعشرين. لقد حدث وأن قامت حضارات كبرى ثم سقطت، فقامت بدلا منها حضارات جديدة، لم تكن بالضرورة حسنة أو سيئة، حضارات قامت على أنقاض حضارة سبقتها، حسب عبارة أناكسيمندر الميلي (غينيزيس كاي فتورا) أو نشأة وأفول، إنه التجدد الأبدي للأشياء وما أسميه بحلزونية الحياة.
لوفيغاروفوكس: ألا تبدو متناقضا في ملاحظتك لظاهرة "توحش العالم" وأفول الحضارة الأوروبية عندما تظهر ابتهاجك بذلك؟
مافيزولي: يجب أن نميز بين البهجة التي تتملك العالِم عند شعوره باكتشاف حقيقة ما، بمعنى عندما يفهم الكون الذي يحيط به، وبين بهجة السياسي عندما يتملس تأثير آرائه على الناس، بصفتي الشخصية وباعتباري بورجوازيا صغيرا منتجا ومكررا للإنتاج، وكذا مرتبط بالكتب وبعض التقاليد القديمة، هذا كله لا يمنعني من أداء الجهد لفهم مابعدالحداثة التي تحيط بنا وهو ما أقوم به منذ حوالي أربعين سنة، وما أنظّر له لا يسعدني ولا يحزنني، فأنا ألاحظ الظاهرة من منطلق "الحياد النسقي" حسب ماكس فيبر، وإضافتي تكمن في التقمص العاطفي لذلك العالم الجديد. ألاحظ وعلى غراركل التركيبات الاجتماعية بأن مجتمعنا ينتج ما هو سيء وما هو حسن أيضا، طبعا يمكن أن نشجب سير العالم نحو التوحش لكن دون أن ننزه الحقبة الماضية من حصول إبادات جماعية وكوارث أخرى تسبب فيها الإنسان وشهوته إلى السلطة.
لوفيغاروفوكس: توحش العالم أيضا يعني اعتبار الجانب الحيواني في الإنسان، أو إذا افتككنا الحيوانية الكامنة في الإنسان فإننا سنسقط سريعا في البهيمية ! (3) فأين هي الملائكة… وما هي حدود العالم مابعد الحديث برأيك؟
مافيزولي: من الصعب أن ترسم حدود هذا العالم الذي يخرج شيئا فشيئا عن الضباب الذي يلفه بحيث تخترق أشعة الشمس السحب في نهار شتوي، لكن يتعذر علينا رسم الحدود حتى لو نحن حاولنا ذلك، سنصطدم أولا بتغيرات مستمرة ليس لها عد، منها ما هو موجود على الشبكات الاجتماعية و "مواقع" أخرى لتبادل المعلومات والرأي والاستعلام… لكن علينا الحذر، لا أقول بأن التكنولوجيا تتحكم في الإنسان، وعكس ذلك هي تشارك في صياغة مرحلة تاريخية ضمن مناخ وأجواء ثقافية محدثين. وهذا يعني أن القانون الذي يحكم الروابط الإنسانية لم يعد ذلك القانون الأبوي لكنه صار "قانونا أخويا"؛ ميزة أخرى هي عودة العواطف المشتركة ومظاهرها من حفلات وتجمعات رياضية ودينية وموسيقية… أخيرا، بالتأكيد سمة الكونية كمميز لهذا العالم، لكنها كونية مكبوتة ومكبوحة بتصاعد النزعة المحلية والتي أعبر عنها رمزبا بـ (الكاسوليت: أكلة محلية، والماك دو: أكلة عالمية).
لوفيغاروفوكس: العالم القديم يتأسس من منظورك على ثلاث مبادئ ملموسة هي الفردانية والعقلانية والتطورية، فما هو ثالوث العالم الجديد الذي نعيش مخاضاته؟
مافيزولي: يجب أن نجد الكلمات المناسبة من أجل تطويع المرحلة القادمة، ومنه فلابد من التوقف عن تعاويذ الاطمئنان (الفردانية، الديمقراطية، العدالة…) لوصف دقيق للعالم الذي يتأسس أمام ناظرينا. نعم، بالنسبة للثالوث الحداثي فردانية وعقلانية وتطورية، أعتقد أن ما يضاده يتمثل فيما أسميه بـ"القَبَلية المحدثة"، العقل الحساس، والتطورانية، أما القَبَلية المحدثة فيشير إلى الهويات المتعددة للشخص الواحد ضمن مجتمعات مختلفة من مثل الحبور المشترك والمشاعر الموحدة اللقاءات العابرة والتضامن المناطقي، أما العقل الحساس فهو ضرب من الفهم متأنٍّ، لا يهتم بعقلنة الظواهر، لكنه يحاول "افتكاك العالم بالجملة" أو فهمه ككل موحد في كيانه وما يحيط به. بالنسبة للتطورانية فإنها تختلف عن التطورية، بحيث يكون التقدم ممزوجا بالماضي (التقاليد) لتوفير الحاضر هنا والآن، وتوفير الكثير للمستقبل. الحداثة هنا تستوحي النموذج اليهودي-المسيحي الذي كان ينزع كلية نحو المستقبل بتأجيل الابتهاج وميل إلى الاشمئزاز من العالم، على العكس من ذلك تقوم مابعدالحداثة على نزعة آنية، لكن ليس الآن "المتجاهل" للمستقبل، بل هو آن يحمل في الوقت ذاته مستقبله ويتدامج معه، وهنا تكمن فلسفة التقدم، وهنا أيضا الفكر الذي يتراءى لي أنه بصدد التحقق الفعلي.
لوفيغاروفوكس: أنت مبتهج بالانتقال من المعرفة العمودية إلى المعرفة الأفقية، لكن أليست الأزمة السياسية الراهنة تنبع تحديدا من فقدان المرجعيات في المجتمعات الحديثة؟ أليس عالم مابعدالحداثة بكل بساطة هو عالم فوضى؟
مافيزولي: مرة أخرى أنا لا أبتهج، أنا ألاحظ، لا أستنكر مال آل إليه وضع العالم بل أحاول التعبير عنه بالكلمات المناسبة، لأني أعتقد أن غياب الكلمة المعبرة يقوي مشاعر الإهمال، الكلمة التي يمكن أن تلمّ بمجتمع يمور بالتغيرات مثل مجتمعنا، من هنا، هل فعلا يعيش السياسي أزمة؟ لا أعتقد ذلك، أعني أنه لا يمكن للسياسي أن ينجح في مقاومته من أجل البقاء عند مروره بغربال مابعدالحداثة، وهذا هو أصل الأزمة. نعم، فالسياسيون جامدون على إبقاء النظام قائما على سلطة التمثيل، إنهم في نظر الآخرين هم لوحدهم من يعلم الحسن من القبيح، لهذا صار النظام السياسي نموذجا متهافتا، ليس فقط لتشوه سمعة بعض السياسيين، لا، فمادام لم يحصل تغيير في "الشكل السياسي"، أعني المرور من التمثيل (Représentation) إلى الحضور (Présence)، التحول من العمودية إلى الأفقية، إن هذا عمل جيد لو قاموا به، لكنهم مفصولون كلية عن الواقع؛ إذن، فهل هي الفوضى؟ يعرّف إليزي ريكليس الفوضى بأنها "نظام من دون دولة"، وصحيح بأن مجتمعاتنا بحاجة إلى تشكيل نظام ذاتي جديد، يجب إعادة إنتاج قواعد عامة للعيش المشترك، قواعد لا تكون مستوردة، بل على العكس قواعد تكون محايثة للمضامين الذاتية للمجتمع، وهو ما يسمى بالمجتمعي (4). من خلال ظواهر مشتركة ومتعددة من الاحتجاج والتضامن والاحتفال نبرهن بكل بساطة أن الأمر متعلق بانتظار الأجيال الشابة، نظام جديد للأشياء في طور المخاض، حدود العيش المشترك مابعدالحديث تنتصب أمامنا، علينا أن نراها دون خلفيات ودون مناظير مشوِّهة، فلا فائدة من بكاء عالم يؤول إلى الزوال، لا يوجد ما يُبكي ولا ما يضحك، وعلينا فقط أن نرى ونفهم ما أسميه بنظام الأشياء.
(1)- Michel Maffesoli, l’ordre des choses : pansé la postmodernité, SNRS Édition, 2014 –
(Eric Zemmour, le suicide français, Albin Michel, 2014 -(2
(3) – التمييز القاموسي بين الحيوانية (Animalité) والبهيمية (Bestialité): الحيوانية تشير إلى حمل الإنسان لبعض الخصائص الحيوانية فحسب، بينما البهيمية تؤدي معنى انصهار الإنسان التام في خصائص الكائن الحيواني كلها مع فقدانه لخصائصه الإنسانية، حيث الثانية أحط من الثانية بالنسبة للإنسان.
(4)- يميز مافيزولي بين الإجتماعي(Social) والمجتمعي (Sociétal)، باعتبار الأول تعبيرا عن المؤسسات الاجتماعية بينما يشير الثاني إلى العيش المشترك.
نشر أول مرة على موقع التقرير: الرابط http://altagreer.com/%D9%86%D8%B8%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B4%D9%8A%D8%A7%D8%A1-%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D8%A7%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D9%8A-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AF%D9%88/