هشام المكي
يأتي كتاب “شذرات في قضايا التجديد والنهوض” لمؤلفه محمد عبد النور، ليقدم تحليلات متنوعة، لقضايا متعددة ومختلفة، يوحدها الهدف المشترك في النهوض المأمول للأمة الإسلامية. والمؤلف أستاذ جامعي جزائري، يجمع بين سعة الثقافة والاطلاع، وعمق التحليل المكتسب من تخصصه في علم الاجتماع.
ويأتي الكتاب في ثلاثة أبواب:
الباب الأول عبارة عن تجميع للمقالات التي نشرها الكاتب في منابر متعددة على امتداد سنوات خمس؛ ويجمع هذا الباب ستة وثلاثين مقالا/ تأملا في قضايا متعددة، لكن كلها تلتف حول بؤرة التجديد والنهوض الحضاري. ورغم أن المقالات جاءت معنونة ومرقمة، دون تصنيف موضوعاتي في فصول محددة، إلا أننا يمكن أن نحصر تلك المقالات ولو تعسفا، ضمن سبع مجموعات أساسية هي: قضايا التبعية والهوية والعلاقة بين الحضارات، قضايا المجتمع، قضايا العقل والتفكير، قضايا الأخلاق، تأملات قرآنية ودينية، قضايا النهوض الحضاري، قضايا الخطاب.
يستهل المؤلف تأملاته بطرح أسئلة الرؤية الحضارية، وتقليب النظر في زوايا هذه الرؤية، في صيغة إشكالية تحفز القارئ على المشاركة في التفكير وإنتاج المعنى خصوصا والمؤلف يعدد أمامه الاحتمالات، ويفتح على عقله الإمكانات: فهل على المفكر البحث في كيفية التعامل مع الآخر متكئا على فكرة الكلي؟ أم عليه أن يفكر في كيفية النهوض الحضاري معتمدا على فكرة الخصوصية؟ أم يستند إلى الماضي برؤية تاريخية؟ أم يعتمد على الحاضر بنظرة ظاهراتية؟… ليخلص في الأخير إلى أن الرؤية الحضارية ينبغي أن تنطلق أساسا من مشكلات الواقع وليس من خلفية نظرية صرفة.
وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن الوعي التاريخي الذي ينبغي أن يسير في اتجاهين متوازيين، يبحث الأول في كونية المعنى القرآني بالانفتاح على الأنساق الحضارية المحيطة والتفاعل معها. ويبحث الثاني في أسس استكناه جوهر الرسالة الإسلامية في ارتباطها بتاريخ وجغرافيا العالم الإسلامي. وبعد تأسيس الوعي التاريخي يصبح سؤال الهوية ملحا، أمام التحديات التي تفرضها العولمة، خصوصا مع الفقر الثقافي والفني الذي تعاني منه الثقافة الإسلامية؛ والذي أنتج هوية مترهلة ضاعت بين هيمنة الآخر واغتراب الأنا.
أما المعرفة، شرط التحرر الأول، فهي مرتبطة كل الارتباط بأخلاقية الإنسان، وينبغي أن تتحرر بدورها من التصور المادي النفعي.. خصوصا وأن العلاقة المبدئية بين الإنسان وربه هي علاقة معرفة أساسها الكلمة. لذا فالوعي بالهوة بين الواقع والإرادة، الذي ينتج القلق والهم البشريين النازعين نحو الكمال هو المفتاح الذي يفتح آفاق التجديد ومعانيها التي لا نهاية لها، وبدون اكتفاء أيضا، لأن اكتفاء الإنسان بحد معين من ذلك الوعي يكون أعظم الأخطار التي ينتجها المثقفون الذي يدعون التجديد على مجتمعاتهم.
وينطلق المؤلف من قصة أصحاب الكهف، ليستخرج بعض الخلاصات الأساسية، ويبين من خلالها أن القرآن الكريم لا يعدو أن يكون إضافة سننية تتساوق تكامليا وسننية الكون، وليس خوارقيا. وبهذا المعنى يصبح التوحيد رؤية للقرآن والكون، باعتبارهما انعكاسين متكاملين للخالق عز وجل. وهذا يعطي الإنسان مساحة أكبر للفعالية الحضارية، المستندة إلى “المعادلة الاجتماعية”، والتي تقوم على معادلة الوعي الإنساني بالواقع الموجود والناتج عن أسباب وقوانين موضوعية تحكمه.
أما في ما يتعلق بتأصيل العمل الحضاري الإسلامي، فينطلق فيه المؤلف من ملاحظة هامة، مفادها أن الفكر الإسلامي لم تتح له فرصة السعي الجاد للتأسيس لمنهج حضاري نهضوي إلا بعد نضوب العقل الحداثي الغربي وتآكله، عبر انكشاف أوهامه المركزية، سواء عبر النقد الحداثي نفسه أو من خلال الدعوة إلى نفي العقل ونسف مركزيته ومسلماته. كما أن التفاعل بين الفكرين الحضاريين الغربي والإسلامي، لا يعدو أن يكون انفعالا شكلانيا غير واع، ومحكوم بهيمنة تاريخية، وبتقييد استعماري للروح الإسلامية؛ في حين أن اللقاء بين الحضارتين هو ممكن ضمن التعارف والاعتراف.
والوعي بهذه الهيمنة وأشكالها المتعددة، يقود إلى تخليص العبودية من شكلها التاريخي المألوف، وتحليلها نفسيا وثقافيا، لتوسيعها كي تشمل مظاهر اجتماعية وفكرية وحضارية متعددة، تعود في أصلها إلى سبب نفسي نجد جذوره عند ابن خلدون: إنه شعور بالدونية تجاه إنسان آخر.
ينتقل المؤلف إلى تقليب النظر في أزمة المجتمع العربي الإسلامي المعاصر، والوقوف عند مظاهر تلك الأزمة وأشكالها وأسبابها العميقة، ثم استشراف المستقبل الذي يخلص فيه إلى أن دخولنا التاريخ الحضاري، يبقى رهينا بالارتقاء بفهمنا للتاريخ والنص القرآني؛ هذا الفهم المأمول، يعرض المؤلف ملامحه، في إطار علاقة فهم القرآن الكريم بطبيعة رؤية العالم من حيث هي فلسفة للوجود والعالم.
وقد ناقش المؤلف العديد من القضايا الفرعية التي ترتبط بقضية الكتاب الأساسية وهي النهوض الحضاري؛ فتعرض المؤلف لإشكالية العلاقة بين الفكر والواقع، والتي تعكس واقعا حضاريا مأزوما نتج عن انعدام الصلة بين الخطاب ذي المضمون القرآني والممارسة المخالفة له. كما بين أن استقلال الأمة الإسلامية يرتبط بالجمع بين الإرادة والقدرة معا، على ضوء ما بينه الأستاذ جودت سعيد في كتابه: العمل قدرة وإرادة.
وفي إطار إعادة تأسيس العقل المسلم، يناقش المؤلف سبل تحصين المجتمعات المسلمة من الارتداد إلى الأشكال الفكرية والعقلية التي يفترض أنها قد تجاوزتها؛ خاصة والعقل من عادته الانسياق وراء استدراجات الواقع التي لا تخضع لأي منطق سوى سيرورة الأحداث.
كما تعرض المؤلف لمسألة الاختلاف، الذي ينظر إليه إيجابيا في الفكر الإسلامي باعتباره رحمة. فانطلق بداية مما يقوم به الإعلام في العالم العربي الإسلامي من تشتيت الرؤية الكلية للقضايا، من خلال تقديمه الخلافي لها. بالإضافة إلى أن الاختلاف أصبح مرتبطا في الغالب ببعض النخب المخترقة من خارج النسق الذاتي الحضاري للأمة، مما يطرح معه إشكالا مهما، صاغه المؤلف على هذا النحو: كيف يمكن أن تتحقق رحمانية الاختلاف في ظل الوصاية الفكرية والسياسية التي يفرضها الأجنبي على الأمة، خارقا بذلك حصنها المنيع الذي من دونه لا يمكن أن تقوم لها قائمة؟
كما تعرض المؤلف إلى واقع مناهج التعليم، ووقف تحديدا عند كل من الأستاذ الجامعي وشيخ المسجد: الأول يفتقر إلى تحصيل الأثر الواقعي والثاني يفتقد سعة الاطلاع، في انعكاس لمعضلة حقيقية تسكن فكرنا برمته، هي التوحيد القسري بين الفكر والعمل، فأفرزت خلطا مريعا جعل الديني دنيويا والدنيوي دينيا. أما الأفق المطلوب، فاتحاد روحي يحصل بتوافق الممكن بين التلقين (شبكة العلاقات الاجتماعية) والمعرفة (أرضية التأسيس العلمي)، لذلك يجب أن لا تكون غاية كل من المثقفين الدنيوي والديني إلا المضي قدما في محاولة الشحن التربوي على اختلاف مجاليهما، فيحدد الأول الأطر اللازمة لممارسة المعرفة نظريا، ويحدد الثاني الأطر الواجبة للتطبيق العملي المباشر للدين.
قد كانت هذه نماذج من القضايا الفكرية الغنية التي تعرض لها المؤلف في الباب الأول. وتضمن الباب الثاني من الكتاب، قراءات نقدية للمؤلف في خمسة مؤلفات، هي على التوالي: كتاب احميدة النيفر، الإنسان والقرآن وجها لوجه: التفاسير القرآنية المعاصرة، قراءة في المنهج؛ وكتاب فكرة كمنويلث إسلامي، لمالك بن نبي؛ ثم كتاب آفاق فلسفة عربية معاصرة، وهو يجمع كلا من أبي يعرب المرزوقي والطيب تيزيني، في إطار سلسلة حوارات لقرن جديد، التي أجرتها دار الفكر في لبنان، بالإضافة إلى فصل: الهوية الذاتية للمرأة في القرآن والشريعة الإسلامية، لكاتبته ميسم الفاروقي، ضمن مؤلف جماعي، وأخيرا دراسة عبد المجيد النجار الموسومة ب: المقتضيات المنهجية لتطبيق الشريعة.
وختم الكتاب في بابه الثالث والأخير بترجمتين، الأولى إبستمولوجية لحوار مع الباحث الفرنسي “لورون ميشيللي” عنوانه: المبدأ الموحد لجميع العلوم، والثانية فلسفية، هي مقال عنوانه: طريق خوصصة الإنسان؛ للفيلسوف الفرنسي الجنسية اليوناني المولد “كورنيليوس كاستورياديس”.
على سبيل الختم:
على سبيل الختم، يمكننا أن نقول أن نقطة قوة الكتاب هي في نفس الوقت نقطة ضعفه: فالتنوع الكبير لمواضيعه ومقالاته يعكس ثراء الكتاب، والحس الفكري الإبداعي لمؤلفه، الذي ينسج من ظواهر المجتمع الواقعية، وقضايا الفكر المقلقة، خيوطا للتأمل الفكري المبدع، تحيط كلها وتلتف بالقضية الأساسية للكتاب في تناغم وتكامل رغم تعدد زوايا المعالجة.
لكن في نفس الوقت، قد يتيه القارئ بين كثرة العناوين والقضايا الفرعية، التي وصلت إلى الستة والثلاثين قضية/ مقالا؛ في حين قد يكون من الأفيد للقارئ لو أن المؤلف ألف بينها في فصول واضحة، مع بعض التصرف لإضفاء الانسجام بينهما.
غير أن جمال الأسلوب الذي ينهل من شعرية كتابات طه عبد الرحمن، وسلاسته المنطقية التي تنبع من صرامة تفكير أبي يعرب المرزوقي، جعلا من قراءة الكتاب تجربة ممتعة، يلتقط فيها القارئ جماليات الفيلسوفين المغاربيين، دون مكابدة استغلاق أسلوبهما المألوف أمام كل قراءة أولى أو متعجلة لهما؛ ولعلها من حسنات مؤلفنا، أن ألف بين أسلوبين متفردين، لفيلسوفين كبيرين، في صيغة ثالثة، تجمع بين جمال النظم، وصرامة المنطق، وسهولة الاستيعاب.
نشر المقال لأول مرة على موقع مركز نماء للدراسات والبحوث
http://www.nama-center.com/ActivitieDatials.aspx?Id=20460