نظرية المعرفة-التربية القرآنية الشاملة(*): شرح وتلخيص

لتحليل نظرية المعرفة-التربية القرآنية الشاملة باعتبارها فنا قائم الذات يقسم أبو يعرب المرزوقي مقالته إلى مرحلتين هما:

المرحلة الأولى: بحث مقومات نظرية المعرفة الشاملة للتعرف إلى أسسها

المرحلة الثانية: بحث كيفية التطابق بين نظريتي المعرفة والتربية الشاملتين

المرحلة الأولى: معنى  الطريقة والمنهج

يتم التركيز في هذه المرحلة على مفهومي “الطريقة” و “المنهج” لبحث دلالتهما، فتعني الأولى تلك الصلة الموجودة بين المعرفة بوصفها عملية ذهنية والإنسان بوصفه القائم بفعل المعرفة، والثانية تعني الصلة الموجودة بين المعرفة وموضوعها الذي تشتغل عليه، بحيث تكون المعرفة وسيطا بين الإنسان والموضوعات التي يقوم ببحثها، ولا تخرج الموضوعات التي يبحثها الإنسان في الوجود عن خمسة محاور هي: الذوق، الرزق، النظر، العمل، الوجود. حيث نكون قد حصرنا كلا من الإنسان والمعرفة في صورتي إطارهما الكلي، صورة الإنسان المنحصر وجوده في الفكر والسلوك، وصورة المعرفة المحصورة في أصناف الوجود الخمسة المذكورة.

يقوم المنهج القرآني بتحديد العلاقة بين الإنسان وأصناف الوجود من خلال الوعي بالترابطات الموجودة بينها، فهو إما وعي بأنها ترابطات تتم حسب الأحكام الشرعية فتكون شهودا للحق، أو يكون وعيا منافيا للأحكام الشرعية ضمن تصور طاغوتي ليكون جحودا للحق.

ويقابل المفهومين لفظتان وردتا في سورة المائدة هما “الشرعة” و”المنهاج” لوصف العلاقة بين الدين الكلي في تعاليه وتعينات فعل تحقيقه في الواقع، فالدين الكلي يقتضي تصوره منهجا وأما تطبيقاته فتعتمد طريقة معينة هي معنى لفظة الشرعة، فيكون الفرق بين اللفظتين متمثلا في:

 كون الطريقة تعني الأخلاق التي تتحقق بين الفاعل وذاته، حيث المعيار هو “السمو الخلقي” الذي ينعكس لطفا وسماحة على الخَلق، وكذلك كان خلق الرسول (فبما رحمة من الله لنت لهم)

والمنهج الذي يعني التقنية التي هي بين الفاعل والموضوع، الذي معياره “الحذق التقني” المنعكس على صاحبه في إتقان فنيات التبليغ لما يقوم بتبليغه بعد أن يكون قد استوعبه.

فإما أن يكون فعل التربية ضمن المعنيين (الطريقة والمنهج) يحقق مطلوب البلاغ بالتزام شرطيه المذكورين (السمو الخلقي و الحذق التقني)، وإما أن يحول دون تحقيق المطلوب في حالة الإخلال بهما. فأول قواعد الفعل التربوي هي سعي المربي لأن يجعل من المربى مشاركا في فعل تربيته بالالتزام الذاتي، وهو ما يسمى بإحياء الضمير الذي يحاسب به المرء نفسه قبل أن يحاسبه الآخرون، كما أشار إلى ذلك ابن خلدون في مسألة التربية التعسفية التي لا تفسد تعلم الإنسان فحسب بل تفسد عليه معاني الإنسانية جملة، فكانت الرؤية القرآنية إذن لا تتوقف عن مجرد إتقان المادة العلمية وطريقة تعليمها بل تتعداه إلى التربية التي هي تكوين شامل للإنسان تسعى لتحقيق جميع الأبعاد الإنسانية ومقوماتها نقلا إياها من الفطرة الغفلة إلى الفطرة الواعية بترتيب العلاقة الصحيحة بين الإنسان والوجود في إطار مجالات القيم الخمسة بالتربية الذوقية والتربية الاقتصادية والتربية المعرفية والتربية السياسية والتربية الروحية.

وتمثل التربية الروحية-الدينية الجامعة صوريا لكل أنواع الفعل التربوي السابقة (ما فرطنا في الكتاب من شيء)، لذلك كانت أسمى فعل تربوي والذي من أجله تم ابتعاث الرسل الكرام الذين يصبحون حين بعثتهم أصحاب الأهلية الوحيدين في توجيه حياة الناس الدينية ومنه الحياة عامة.

وأما المنهج القرآني البديل الذي يمثل العوض عن تربية الرسول المسددة بالتوجيهات الإلهية –إذ الوحي قد ختم- فهو الوارد في سورة العصر من خلال مفهومي التواصي بالحق في الاجتهاد النظري المعرفي والتواصي بالصبر في الجهاد العملي السلوكي، ولما دلت مفردة التواصي على الجهد الجماعي كانت هي المؤسسة البديل عن عصمة الأنبياء الفرادى، ومن ثم كان إجماع الأمة مصدرا من مصادر التشريع، يضاف إلى ذلك الترابط العضوي بين المؤسستين (التواصي بالحق والتواصي بالصبر) في إطار وحدة كلية تشكل في الأخير الشخصية القرآنية الملتزمة بالأحكام الشرعية، وتلك دلالة ورودهما المتتابع في أقصر السور القرآنية. وهو ترابط منطقي أيضا حيث بلوغ الحقيقية نظريا يقتضي حتما الصبر في سبيل إحقاقها في الواقع، كما أن خلق الصبر لا يورِّث إلا العزم على بلوغ الحقيقة مهما خَفَت أو نَدُرت، أما الباطل فلا يجد الإنسان الأسباب التي تجعله يصبر عليه.

هكذا تكون هذه النظرية قد حررتنا من أمرين هما جوهر الغاية التي جاءت من أجلها:

  • الفصل بين الدين والدنيا حيث حقيقة الوحدة الحية للوجود
  • تحويل الدين إلى رهبانية تعطي سلطة للناس من دون الله

وبعد تحليل سريع وعميق لآراء كانط الفلسفية في موضوع النظر والعمل وملكة الحكم توصل المرزوقي إلى القول بأن نظرية المعرفة-التربية القرآنية الشاملة هي التي يتأسس عليها منهج الفهم والقراءة لكل آيات الوجود نصيها وطبيعيها، وقد غفل عنها الفكر البشري قبل الإسلام ثم عاد إلى الغفلة عنها منذ أن توقف اجتهاد المسلمين وجهادهم في تحقيق شروط الرسالة.

فيكون الفلك الذي تدور فيه هذه النظرية كما يلي: (الشكل في الصورة)

 

 

والكذب ضد الصدق في جهتيه النظرية والعملية وهو مبدأ الخروج عن النظرية القرآنية، وأما جوهر الكذب فهو ماهية بلا وجود وصورة بلا مادة، ومأتاه القدرة على الفصل بينهما التي هي آفة التعليم التي لا يمكن التحرر منها إلا بشرطين هما:

  • أن يكون التعليم أقدس وظائف العمران بشكل لزم معه التدخل من الله تعالى عن طريق بعث الرسل
  • أن لا يحوله المشرفون عليه أداة طغيان – تزوير طوية – على المتعلمين، طبقا للآية (فما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله)

وبهذا يصير ما يسمى فلسفيا بالدليل الوجودي، أي الدليل على وجود الله،  – وهو متعلق بالتعليم من حيث كونه إما مبني على تصور صحيح عن الله والإنسان فينتج عنه تعليم يورّث الصدق وبالتالي تحقيق الاستخلاف أو خطئا فينتج عنه تعليم يورّث الكذب وبالتالي تحقق الطغيان -، يصير في التصور الإسلامي “عرفت نفسي فقد عرفت ربي” (الانطلاق من الذات إلى الله) بديلا للدليل الوجود الذي صاغه ديكارت “أنا أفكر إذن أنا موجود” (مراوحة الذات)، حيث ارتبط هذا الدليل بوعي الإنسان لذاته من خلال ذاته على خلفية أن الإنسان هو الغاية، أما الدليل الإسلامي فينطلق من غاية أساسية هي إدراك كينونة الخالق إدراكا فعليا فيضع الإنسان ذاته الواسطة التي بها يتعرف إلى الله من خلال الوسائط الكونية الخمسة.

وقياسا على ذلك تكون اللغة مجرد إشارات إلى الواقع وليست الواقع ذاته، فإذا قلت إن زيدا قتل عمرا فليس قصدي أن كلمة زيد في تلفظي قتلت كلمة عمرو أو أن معنى كلمة زيد في ذهني قتلت كلمة عمرو فيه، بل القصد أن زيدا الفعلي الموجود في الواقع هو الذي قتل عمروا الموجود فعليا في الواقع.

فإذا لم يكن التعليم قائما على شروط التربية الشاملة كما يبينها القرآن يتحول إلى أهم أدوات الطغيان –فساد الأنفس وإفسادها لغيرها بخروجها عن التقيد بالأحكام الشرعية-  الذي شرطه عدم التطابق بين الماهية والإنية واللغة والوجود. وفي ذلك يحدد جودت سعيد مرتبة خامسة للوجود هي مرتبة الوجود السنني، باعتبار السنن بالمفهوم الإسلام الذي يدل على وجود ناظم يقوم بإيجاد هذا السنن ويهيمن عليها.

2- المرحلة الثانية:  مفهوم التربية الإسلامية

وقد اعتبر القرآن الكريم النبوة مشروطة بأمرين متقدمين عليها هما الكتاب والحكم في قوله (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله بل كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون)، فالآية نفي مطلق لتأليه الوسطاء (الشرك) مهما كان نوعه وتحصر العبودية لله وحده، “ذلك هو الجمع بين الكتاب والحكم في النبوة الصادقة: وذلك هو جوهر التعليم الديني بالكتاب سلطة بذاتها ودون وسيط، مما يقتضي أن يكون الكتاب سلطة بذاته متضمنا لكل أبعاد المعرفة والتربية الشاملتين.”

وأما الشرط الرئيسي في صحة النظرية بين يدينا هو:

  • قدرة الإنسان الفعلية (أي المتحققة وفي ذلك استثناء للصبي والنائم والمجنون) على الفهم والقراءة اللذان شرطهما الكتابة التي ترسم الصورة وتسجل الصوت، ومنه قدرته على “التسمية” التي أهلته للاستخلاف ردا على اعتراض الملائكة، (وعلم آدم الأسماء كلها) أي أعطاء مبدأ تسمية كل الأشياء، وهو المبدأ ذاته الذي أهله للاستخلاف، باعتبار تلك القدرة ضرورية وكافية لذلك، لكنها في ذات الوقت لا تؤهله للصدق فقط بل تفتح له الباب والخيار فإما صادقا وإما كاذبا (فألهمها فجورها وتقواها)

إذن فكيف يحصن القرآن الإنسان من الوقوع في عدم الصدق خاصة مع إمكانية الخلط بين اليقين العفوي الغفل الناتج عن اتباع الهوى أو سوء النية والخبث القصديان؟

لقد حدد القرآن أداتين عاصمتان تخرجان الإنسان من الغفلة التي لا يتجاوز فيها الإنسان المعنى النفسي مقابل المعنى الفعلي الواقعي لإدراك الحقيقة، وهما الأداتان المؤسَّستان التواصي بالحق والتواصي بالصبر، وذلك لإخراج الإنسان من الادراك الانطوائي للحقيقة إلى إدراكها المنطقي الجمعي.

من أساليب التربية الإسلامية

من أساليب التربية الإسلامية الشاملة ترك الخيار للمدعو بأن يختار تصورا للذات الإلهية من بين عدة تصورات ودليل ذلك تعدد اسماء الله الحسنى الدال على عدم إمكان حصر الذات الإلهية في تصور كلي أوحد ومن ثم فتح إمكانية الاختلاف في تصور الذات الإلهية من بين عدة تصورات، وهذا من آداب عدم التنفير حيث تجاوز التصورات الحدية القسرية، ويندرج ضمن ذلك أسلوب اللاإكراه الوارد في الآية 256 من البقرة

وقياسا إلى أسلوب عدم التنفير العناية بجمال المنظر وعذوبة الصوت التي تعود إلى الطبيعة وهيأة الزي ونظافته والزينة المشروعة التي تعود إلى ثقافة الإنسان.

وغاية التربية الشاملة تأتي من خلال الآيات السبع الأخيرة من سورة الإسراء التي تقوم على نفيين هما نفي مبدأ تحرف الأديان المنزلة، نفي مبدأ الأديان الطبيعية، وإثبات السلطان الإلهي المطلق، ومن ثم الحمد رمزا إلى التسليم بإرادة الخالق وبعده التكبير رمزا إلى الحرية المطلقة والعبودية لله.

خاتمة:

ومحصلة القول في نظرية المعرفة التربية القرآنية الشاملة هي الحاجة اليوم إلى إعادة بناء كل من العقيدة (فلسفة النظر) والشريعة (فلسفة العمل) باعتبارهما مجالين مفتوحين لا إلى نهاية، وإمكانية المراجعة تأتي من كونهما مجموعة من المناهج الشكلية التي لا تتعلق بالمضمون تهدف إلى فهم الوجود والمعرفة في العقيدة وفهم القيم والسلوك في الشريعة، وذلك بشكل ينفي عنها أية مقابلات خاطئة بين الفلسفة والدين؛ فقد تبين مما تقدم أن علاج إشكالية المعرفة-التربية شامل لكل جوانب الوجود الإنساني بالتفكير الفلسفي المستند أساسا إلى الخلفية القرآنية النابعة من قيم الفطرة الإنسانية التي فطرها عليها الله جل وعلا.

(*)- النص ملخص لمقال أبو يعرب المرزوقي المذكور أعلاه نشره في موقع الملتقى الفكري للإبداع (2006) وكذا كتاب “صونا للفلسفة والدين” نشر دار الفرقد (2007)، إعداد: أ/محمد عبدالنور (2011)

داخل شروح
أبريل 2025
د ن ث أرب خ ج س
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
27282930  

الأرشيف

إحصائيات الموقع

167188
اليوم : 70
الأمس : 117
هذا الشهر : 4364
هذا العام : 15900
مشاهدات اليوم : 294
مجموع المشاهدات : 506448
المتواجدون الآن : 4