التجربة الدّينية عند ماكس فيبر

بلحاج ارفيس (*)

مدخل: يُركِّز فيبر على التجارب الروحية للشخصية الدّينية ذات الخاصية الكاريزيمية ومدى تأثيرها على البُعد الكوني للجانب الذاتي لدى الأتباع . والذي يهمُّنا في هذا البحث هو الجانب الدّيني الشخصي الذي لفت اهتمام فيبر وكان محلّ دراسة بالمقاربة الفهمية بعنوان: التجربة الدينية عند فيبر.

غالباً ما تكون طبيعة الموضوع تحت الدِّراسة تفرض نوع المنهج الذي يتناسب وطبيعة هذا الموضوع، فالتجربة الدّينية التي هي جزء من الدّين في جانبه الجوّاني في الإنسان يصعب وصفه بِدلالات إحصائية، فطبيعة موضوع التجربة الدّينية في الدراسة السوسيولوجية تتطلّب اعتماد منهج الفهم، على أساس أنّ الدين يخضع إلى ثقافة المجتمع ما يجعله يُفهَم من خلال البعد الإنساني الذاتي الذي تنطلق سلوكاته من تصوّراته ومقاصده ضمن تفاعله الاجتماعي. فهكذا الوقائع الاجتماعية تحتاج الفحص من الداخل، على عكس الوقائع الطبيعية فإنّها تكتفي بالملاحظة الخارجية.

ولعرض التجربة الدّينية بالمقاربة الفيبرية، فماذا تعني عنده أوّلاً؟

1- تعريف التجربة الدّينية:

يُعرِّف شلايرماخر التجربة الدينية بأنها “الشعور بالاعتماد على موجودٍ مُطلقٍ وحقيقةٍ مُطلقة، ويرى أنّ هذا الشعور بالاعتماد على الموجود المطلق هو شعور بالاعتماد الكامل الشامل على جهة أو قوّة تمتاز عن. العالم “[1].وكما يسمّيه البعض بالدّين اللاّمرئي، وبما أنّ التجربة الدينية متعلِّقة بالعالم فوق الطبيعي وأنّ هذا العالم لا يُدرك بالحس ويُستعصى على الفهم، فإنّ هذه التجربة لا تُنال إلاّ بممارسة العبادة على شكل طقوس وشعائر ونُسك يُعبِّر عنها الإنسان عن علاقته بالمقدّس واسترضائه بها. “إلاّ أنّ فيبر تجاوز الملاحظة الخارجية للتجربة الدّينية كحالات شاذة وسلوكات سخيفة وغريبة،أي ليس لها نفع ظاهري ولكنّه درسها من الداخل أي الحالة الداخلية للشخص، انطلاقا من وجهة نظرتين اثنتين:

واقع الحالة النفسية للتجربة الدينية وتأثيرها على سلوك الفرد في تجربته التي يختصّ بها لوحده.

المعاني الشخصية التي تعكسها التجربة الدينية عند فاعليها أنفسهم.”[2]

ومن هنا يرى فيبر أنّ التجربة الدّينية تقوم أساساً عل طابعها المفارق للحياة المعتادة، ما يجعلها إذن في مُقابل الحياة الدنيوية العادية التي يألفها الناس.

لا يتناول فيبر الأديان باعتبارها نظاما من المعتقدات، وإنّما ينظر إليها باعتبارها أنساقاً لتنظيم الحياة، من هنا أعطى اهتماماً خاصّاً للسلوكيات العملية للأفراد وللمعنى الذي يُعطونه لأفعالهم، “فالمجال الخاص للنشاط الدّيني يتمثّل في تنظيم علاقات القوى الفوق طبيعية، إذا كانت الأديان قد أدّت إلى خلق ترتيبات ثيولوجية (لاهوتية) وإنّ البعض منها اعتمد على ما هو مُتعلِّق بالعالم الآخر، يتبقّى كما يقول فيبر:«الأشكال الأكثرية أوليّة للسلوك الذي تُحرِّكه عوامل وبواعث دينية أو سحرية يتوجّه نحو هذه الحياة الدّنيا، على الأفعال المكتوبة والمقرّرة مُقدّما من قِبل الدّين أو بواسطة السحر، أن تُنجز وتُستكمل حتّى يُمكن الحصول على السعادة وطول العمر في هذه الأرض.» هكذا يُحدِّد فيبر الذي يظلّ مُتمسِّكاً بحذره الشديد تعريفه التمهيدي للظاهرة الدينية.”[3]

2- أبعاد التحليل في التجربة الدّينية:

يعتمد التفسير السوسيولوجي للتجربة الدّينية على بُعدين وهما:

“بُعد الكثافة الوُجدانية، حيث تُميِّز التجربة الدينية صاحبها بسمات خاصّة.

أ- بُعد تأويل الحالة الوجدانية بصفتها امتداد نحو الغيبي.”[4]

ب- بُعد الكثافة الوجدانية هو بُعد الشعور الحقيقي بدلالة التجربة ومعناها، فقوّة الاتصال بالأمر القدسي يُشحِن الجانب الجوّاني بشعور خاص مُفارق للحياة العادية المألوفة، وهذا ما يظهر في بعض سمات وسلوكات خاصة، يمتاز بها صاحب التجربة الدينية، لذا يُميِّز فيبر بين تديّن الجموع وتديّن الملتزم الورع الذي يشعر بحساسية كبيرة تُجاه الصفة الدينية غير المتساوية للبشر.فالذين يكون عندهم حضور التجربة الدينية ضعيفاً، تتحوّل التجربة لديهم إلى ألفاظ صمّاء جافّة لا تحمِل طاقة دافعة.

أمّا بُعد تأويل الحالة الوجدانية يتمثل في التكلفة الاجتماعية النفسية وهي الميزة الخاصة للتجربة الدّينية،  يقول فيبر:”« منافع الخلاص المختلفة التي تقدّمها الأديان لا يجب على الباحث الإمبريقي مطلقاً اعتبار أنّها تتعلّق ولو مبدئياً بعالم الآخر فقط. إنّ فوائد الخلاص المقترحة من قبل الأديان سواء كانت أدياناً بدائية أو أدياناً جمعية، سواء كانت أديان الرسل والأنبياء أم أديانا أخرى كلّها تتعلّق بداية وبشكلٍ مُكثّف جدا بهذا العالم: الصحة، طول العمر، الثروة. »”[5]

خاتمة: التجربة الدِّينية هي انفعالات تغمر الحياة الدّينية يكون فيها الشخص عنصرا من عناصر التجربة الدِّينية، فالطبيعة البشرية لها ميزة الميول إلى المطلق الذي ينحصر في الدّيني، فيسعى الفكر البشري دائماً إلى أن يتّحد بشكل أو بآخر بالروح السائدة التي يعتقدها في الأشياء أو فوق الأشياء، ويزيد تعلُّق الإنسان بهذه الروح  كلّما زاد شعوره بالطمأنينة والراحة خاصة عندما يكون في يقينه أن جميع المنافع التي تحصّل عليها وأنّ الضرّ الذي كُشف عنه والكرب الذي فًرِّج عنه كلّ ذلك كان من اتِّحاده بالروح المطلقة اتِّحادا صحيحا لا يقبل الخطيئة، وإن حصُلت فهو يسترضيها من جديد بطقوس معيّنة وقرابين خاصّة حتّى يُحافظ على استمرار تديُّنه.

بحث مقدّم للمشاركة به في ندوة الفكر الظاهراتي التي نظّمت في نادي نزهة لألباب بغرداية يوم 01/04/2017 تحت إشراف الأستاذ محمد عبدالنور.

—————————

(*) –  طالب ماستر علم الاجتماع، جامعة غرداية

[1] –  عبد الحسين خسروبناه، حقيقة التجربة الدينية، ترجمة محمد حسين الواسطي، الفكر المعاصر، العدد الثامن، جمادى  الآخرة 1437 ه ،ص.115

 [2] محمد عبد النور، علم اجتماع الوحي المحمّدي، دار قرطبة، الجزائر، 1436ه- 2015م، ص13

   [3] – دانيال هيرفيه، جان بول ويلام، سوسيولوجيا الدين،ترجمة: درويش الحلوجي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2005، ص92.

  [4] – محمد عبد النور، مرجع سابق، ص14.

  [5] – دانيال هيرفيه، مرجع سابق، ص93.

داخل مسالك المعرفة
أبريل 2025
د ن ث أرب خ ج س
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
27282930  

الأرشيف

إحصائيات الموقع

167196
اليوم : 78
الأمس : 117
هذا الشهر : 4372
هذا العام : 15908
مشاهدات اليوم : 333
مجموع المشاهدات : 506487
المتواجدون الآن : 3