تشكل جملة الآراء التي أدلى بها أستاذ اللسانيات وتلميذ مالك بن نبي رشيد بن عيسى مجالا مهما للملاحظة يلخص الكثير من المجريات الحاصلة في المجال الفكري الثقافي والأيديولوجي في الجزائر، سواء فيما ارتبط باستمرار مدرسة مالك بن نبي الفكرية أو ما تعلق بالكدح والنضال السياسي من أجل التغيير النهوض بالجزائر والعالم الإسلامي.
بداية أهم ما يميز خطابه هو التحرر من الاعتبارات والتحيزات الفكرية والسياسية الداخلية والتي غدت اليوم حاجزا كبيرا أمام انطلاقة المثقف الساعي للتحرر الذي أصبح خائفا من التصنيف يختار كلماته بعناية شديدة إلى حدّ التلعثم؛ إضافة إلى احتفاظ البروفيسور بمميزات نوعية لم تعد متوفرة في المثقف الجزائري، أهمها الفصاحة والطلاقة التشبع بالتكوين إضافة إلى لمسة الطرافة التي يعرف بها، كل ذلك جعل الكثير من المتابعين يقفون عند الحكم عليه بأن آراءه تكشف عن انقطاعه عن الشأن الداخلي للجزائر خاصة وأنه منع من دخول الجزائر لقرابة نصف قرن، وما سأحاوله في هذا المقال بيان الأشياء الجديرة التي غفل عنها المتابعون في حق الأستاذ بن عيسى، وذلك طبعا في سياق نقدي. وأكرّس كل ذلك لمحاولة الإجابة على السؤال هل حافظ بن عيسى على إرث بن نبي؟
بداية لم يهتم الأستاذ بن عيسى بتقلد صفة التلميذ لبن نبي وهو لا ينفي ذلك طبعا بقدر ما أصبح أكثر عناية بموضوعات مفارقة لانشغال بن نبي الرئيسي كما سأيبنفي هذا المقال، لقد ركّز أكثر على الوضع السياسي حيث انتهى به الأمر وانطلاقا من إعجابه بشخصية الخميني وثورته الإسلامية إلى التشيع، ويحتج بذلك أنه الوحيد الذي عادى إسرائيل علنا؛ كما أن عناية بن عيسى باللسانيات انتهت به إلى القول بأن لغة التيفيناغ ليست إلا اللفظ البربري لكلمة الفينيقية، ومن ثم فهو مدافع عن اللغة العربية كلغة علم وإدارة في الجزائر ومعارض لتحويل الأمازيغية إلى لغة رسمية لأن في ذلك حسبه إفساد لها ولطبيعتها.
يردّد بن عيسى كثيرا عداءه لحزب فرنسا الذي كان السبب في رحيله من الجزائر، حيث رأى أن الجزائر تطهرت منه ومن أزلامه إلى حد كبير، وهو في هذا له موقف جد إيجابي من السلطة الحالية التي حذفت اسمه من قائمة الممنوعين من دخول الجزائر مع آخرين، لذلك فهو هنا يبدو متحررا من الارتهان إلى الفترة السابقة التي تورط فيها الكثير من المثقفين بشكل مباشر أو غير مباشر، كما يحكي بن عيسى عن معاناته كموظف في اليونسكو والعراقيل التي يتعرض لها المسلمون في فرنسا خاصة والغرب عموما، وهو ما يذكرنا بما أورده بن نبي في كتابي الصراع الفكري والعفن من معاناة شخصية مباشرة جراء مواقفه السياسية المعلنة والتي تقوم أساسا على مقولة أنه لا تحرر ولا نهوض حقيقي للجزائر إلا بتحقيق الغلبة على فرنسا وأتباعها في الجزائر.
عموما فإن بن عيسى لم يبد مشتغلا بتاتا بتطوير الخطاب النهضوي مالك بن نبي الذي عني بالحفر في تحليل المشكلات النفسية للإنسان المسلم بشكل رئيسي، لكنه احتفظ كما يبدو بنزعة التحرر المطلق من الولاء لفرنسا، وفي هذا يقول كلاما لا نسعمه كثيرا حول أركون من طرف المثقفين التجديديين باعتباره مجايلا له في البلد نفسه وهو يعطي شهادة حية عنه بأنه كان يغير لهجة خطابه في المحاضرات عندما يرى بن عيسى حاضرا! وأنه لم يكن محل احترام عند المستشرقين، لذلك فهو حسبه لا علاقة له بالتجديد وإنما كان مجرد مردد لبعض مقولات الفكر الفرنسي، لقد كان أركون حسب بن عيسى المعترض الوحيد على إشارة العلماء الفرنسيين على حمل القرآن لبذور الفكر العلمي.
كل ذلك يجعلنا نصل إلى الحكم بأن ما تبقى من بن نبي عند بن عيسى هو تحرره من الارتهان إلى البيع والشراء لصالح فرنسا، وأنه كما قال عن نفسه ليس من “المؤلفة جيوبهم”، وكذا دفاعه عن الأصالة بما هي قيم الإسلام واللغة العربية، لكن واقعا من التشرذم والتخبط الفكري والاجتماعي اجتاح العالم الإسلام أدّى بمريد بن نبي إلى التشيع العقدي والسياسي، وهو ما أنكره في حواراته الأخيرة بعد دخول الجزائر.
إلا أن تسجيلات قديمة تثبت تشيعه العقدي بصريح العبارة: أشهد أن عليا ولي الله، صيغة الدخول في المذهب الشيعي، وأورد في نفس التسجيل اعتراضا على الشيعة الذين ساءلوه عن سبب تشيعه بالقول: يا عجب سؤالكم! يجب أن نسأل لماذا لا يتشيع الناس؟ فضلا عن تشيعه السياسي الذي صرح به بكل وضوح، بأنه منحاز إلى خيارات الجمهورية الإسلامية لما تقدمه من دعم للقضية الفلسطينية، وهنا نلحظ في تحليله سطحية واضحة، وهو أن إيران تتبنى الصراع مع إسرائيل كمناورة وتكتيك وليس صراع وجودي، أي أن الهدف من الصراع ليس إخراج المحتل بقدر ما ينطوي الأمر على مجرد كسب نقاط على حساب إسرائيل والداعمين لها، فالواضح أن إيران هنا راضخة للمنظومة العالمية التي تعتبر المسألة الوجودية لإسرائيل خط أحمر.
وهنا نجد الولاء الملموس لأستاذ اللسانيات للجمهورية الإسلامية، فهو ورغم نفيه التشيع في حواراته الأخيرة إلا أنه كان صريحا في تشيعه فيما سبق، وإذا أحسنا الظن بالسيد بن عيسى فإنه يكون قد تراجع عن تشيعه العقدي، وإن كان الأجدى أن يعترف بذلك وأنه الآن قد تغير وهذا أدعى إلى الثقة، على أنه أبدى نكرانه لكل تطرف مذهبي، في كل الأحوال فإن موقف بن عيسى القريب من المذهب الشيعي يجعله بعيدا عن مقولة أن التشيع دين مختلف عن الإسلام، وهذه النقطة تعيدنا إلى مالك بن نبي الذي صنف العالم الإسلامي إلى خمسة عوالم منها ما سماه بالعالم الإيراني، فكيف كان سيكون موقف بن نبي من الموضوع؟
المؤكد أن بن نبي كان مشغولا بمشكلة العالم الإسلامي وكيف يمكن لمواطني الدول الإسلامية أن يكونوا عالميين، كما أن اشترط أن التصور الصحيح للمسائل يجب أن ينطلق من منظور عالمي، لا من منظور محلي، لذلك فلا مكانة للمذهبية في فكر مالك بن نبي، وهي الظاهرة التي اكتسحت المشهد الإسلامي منذ حوالي ثلاثة عقود من الزمن، وهو ما حذر منه بن نبي مشيرا إلى أن حدوثة سيؤدي إلى انفلات الأمور من بين يد المسلمين وهو ما يبدو أنه حاصل بالفعل الآن ومنذ ثلاثين عاما.
لذلك يمكننا القول بأن الأستاذ رشيد بن عيسى استمسك بفكرة الاستقلال عن فرنسا، إلا أن موقفه من القضية الفلسطينية بدا أنه غير متوافق مع عمق منظور بن نبي للقضية حيث كان يرى بأنها عرض لمرض قديم، هو مرض القابلية للاستعمار الذي يسكن النفوس، وبالتالي فإن علاج القضية الفلسطينية علاجا جذريا وهو استعادة القدس والاراضي المحتلة إنما يبدأ بعلاج المشكلة التاريخية النفسية للمسلمين، وهي مشكلة القابلية للاستعمار، وعلى ذلك فرأيي أن رشيد بن عيسى ما زال يملك القدرة على التأثير في الوضع الفكري الحالي، إلا أن التأثير سيكون أقوى وأمضى لو احتفظ بكامل قواه العقلية فلم يتحيز إلى طرف من أطراف الصراع المذهبي، وهو ما نزال نأمله حتى الآن، خاصة وأنه عاد إلى الجزائر فقد يستعيد كامل لياقته الفكرية لولا أن يحاط بالعناية بوصفه قامة علمية وفكرية راسخة فينتفي السبب الدافع به إلى التشيع، لتكتمل الصورة عنده.
وأيا كان فإن لرشيد بن عيسى مميزات خطابية يندر وجودها الآن في مثقف جزائري من جيله، فهو يستعمل البرهان الواقعي المعاش بشكل مباشر، وذلك من قوة الحجة، شرط أن لا يكون برهانا شعبويا خاليا من الميزان العلمي كما حصل في تحيزه واندراجه في الصراع المذهبي الحاصل، فضلا عن الفصاحة والطرفة العفوية التي يتحلى بها، وكذا براعته الاشتقاقية في اللسانيات، رغم وقوعه أيضا في شرك المحلية التي تظهر جليا في خطابه مما يجعل ذلك عائقا على تلقي خطابه/ المحلية أيضا يمكن أن تعوقه عن التصوره الصحيح للقضايا…
أخيرا، رشيد بن عيسى نموذج للمثقف العفوي سلبا وإيجابا، سلبا لكونه الذي لم يحصل القوامة العقلية الكافية للسير بالنهج البنبوي إلى الأمام، نموذج من حيث فرادته وانعدام الشبه به، من حيث عيشه في المنفى خاصة، وإيجابا من حيث جمعه بين التشيع ورفض الفرنسة (Françaitude)، وهذه المفارقة هي التي تجعلني أحتفظ بشيء من الثقة فيه، من باب كون انسياقه الخاطئ مع التشيع كان وليد ظروف سياسية قاهرة جعلته يتكيف على طريقته مع الوضع، وليس وليد سفه ومتاجرة بالمبادئ، والله أعلم