أو في العلاقة بين الحيرة الفردية والإكراه الإجتماعي.
لعل من الأهمية بمكان بيان العلاقة بين الواقع الحاصل راهنا والمثال المنشود مستقبلا، والذي هو في جوهره العلاقة بين سعي فردي للسمو الروحي والمعرفي (الذوق الفردي) وبين إدارك علاقته بالشروط الاجتماعية الإكراهي والقهري (الحس المشترك) في سبيل تحقيق الآمال والطموحات، لذلك وعلى على سبيل الإنارة سأحاول بسط الرأي في موضوع العلاقة بين الفردي والاجتماعي؛ إذ وتأكيدا على أن مفهوم النظر والتنظير لا يتعلق بالمسائل العملية المباشرة للفرد، يأتي السؤال ماذا يفيد النظر والتنظير إذا لم يفد الشخص ذاته وبشكل مباشر في تخطي مشكلاته الذاتية، تلك التي تحاصره من كل مكان، فليس على الفرد أن يستحضر زاده النظري (العلمي) ليتصرف، ومحاولة مثل هذه هي بمثابة محاولة في تخطي الحقائق الموضوعية وتجاوزها.
ولإيضاح الأمر لابد من معرفة كيف تتحول النظريات والأفكار لتصير واقعا، إنه مسار طويل يقاس عمره بعدد الأجيال، وهذا يعني أن الإنسان يتعرف بأنه كائن طبيعي وفي نفس الوقت كائن ثقافي،
فالكينونة الطبيعية تتعرف بأنها الحياة العملية اليومية التي يجد الإنسان نفسه ملقىً داخلها ليس عليه إلا أن يحذو حذوها حتى يضمن بقاءه العضوي والسيكولوجي، أي تحقيق الاتزان الجسدي والنفسي وضمان العيش،
أما الكينونة الثقافية فتتعرف بأنها البعد المتسامي عن الحياة الطبيعية المباشرة، وأنها عملية إدراكية انعكاسية على الكينونة الطبيعية، وأن غاية الكينونة الطبيعية هي تحقيق مصلحة البقاء وأن غاية الكينونة الثقافية هي تحقيق “المثال” أو المبدأ،
تتجلى الكينونة الطبيعية في العادات والتقاليد الاجتماعية وكل ماهو ضروري للحياة: قواعد العيش داخل المجتمع، الحاجات البيولوجية اليومية، الوظيفة الاجتماعية، الزواج، الانجاب، التنشئة…
أما الكينونة الثقافية فتتجلى في الإنتاج الثقافي المتمثل في الأفكار والآداب والفنون: البحوث العلمية، المؤلفات، الروايات الأدبية، القصائد الشعرية، المسرحيات والأفلام، المقطوعات الموسيقية، واللوحات الفنية.
والسؤال الأهم الآن هو عن العلاقة بينهما؟
الواقع أن العلاقة بينهما مزدوجة، مباشرة وغير مباشرة.
هي مباشرة عندما تتجه من الكينونة الطبيعية إلى الكينونة الثقافية، وذلك عندما تعمل كمحفّز على الإدراك العقلي، لكي يحاول فهم واقعه الذي وجد فيه دون اختياره، ومن ثم يظهر هذا التحفيز في شكل خميرة إبداعية (إنتاج ثقافي) في أحد الميادين التي تقدم ذكرها.
ومعنى أن الكينونة الطبيعية محفِّزة والتحفيز غالبا ما يتجلى في أزمة يلقيها الضمير الاجتماعي في الضمير الفردي، وهذا الالقاء ليس واعيا ولا مباشرا، بل يظهر فيما يواجهه الفرد من متاعب ومصاعب تختلف درجة حدتها،
وهنا تقوم الكينونة الثقافية بدور التفريغ أو التعويض عن النقص الحاصل فيما سيتجلى إبداعا فكريا أو فنيا، فهي في الأصل بمثابة سعي واع أوغير واع للإنسان لاستكمال عالمه الواقعي الذي تعترضه إشكالات يستحيل حلها حلا مباشرا.
وهي غير مباشرة عندما تتجه من الكينونة الثقافية إلى الكينونة الطبيعية، ذلك أن الإبداع الثقافي (الذي كان بمثابة تفريغ وتعويض نفسي عن النقص) سيُعد بمثابة نقطة صغيرة جدا في المحيط الثقافي الاجتماعي، فالإبداع هو غالبا فردي، فيه يقوم الفرد ذاته بمحاولة توعية محيطه به، ومن ثم تحويل الهم الثقافي الفردي إلى هم جماعي عام يستحيل شيئا فشيئا إلى الضمير الإجتماعي،
ومن ثم يصير قضية أو مطلب جماهيري لا يلبث أن يكون انشغالا للسلطة الاجتماعية والسياسية التي ستسخر جهدها وطاقاتها الجبارة لتلك القضية بما سيجعلها تتحول في النهاية إلى عادات وتقاليد اجتماعية،
أي أن تحول الكينونة الثقافية الفردية إلى كينونة طبيعية اجتماعية يقتضي مدة من الزمن، ويقتضي أن يتحول عبر تدرجات من مستوى الفرد إلى مستوى الجماعة.
ونصل هنا حقيقة محيّرة فعلا وهي أن الفرد لا يمكنه أن يحول قضيته الخاصة (مشكلته اليومية المباشرة المتفاقمة يوميا) إلى قضية اجتماعية دون المرور بقانونين رئيسين هما (المدة اللازمة التي قد تأخذ عمر أجيال كما تقدم-ونقل الانشغال الفردي إلى الانشغال الجماعي الذي تطول مدته أيضا).
وهنا نصل أيضا إلى بسط كيفية تصرف الفرد حيال هذه المفارقة، ليس أمامه إلا أن يمارس السياسة بشكل مضاعف
مع ذاته حتى لا يؤدي ذلك إلى إعضال نفسي مفقد للتوازن، فيخسر ذاته ويخسر قضيته في التغيير، أن يُمارس السياسة مع نفسه بأن يجد لها مجال تصريف وتفريغ على المستوى الإدراكي فيحاول نقل شحنات الضغط الاجتماعي السلبية إلى شحنات إيجابية مبدعة (فكرا أدبا أو فنا).
وأن يمارس السياسة مع العالم (محيطة الاجتماعي) حتى لايفقد توازنه النفسي أيضا، وذلك في محاولة إنشاء خطوط تواصل بينه وبين الجماعة، ومعلوم أنه قد يعسر إيجاد سبل تفاهم بين عالم ثقافي فردي معزول يتجاوز العالم الطبيعي الاجتماعي بمراحل ضوئية، لكن لا حيلة، فلا بد من الإجتهاد العملي لتحقيق ذلك لكونه ملاذا وحيدا لتقريب المسافة ورأب الهوة البعيدة الشقة. بين ماض يمتد بمخالبه وأشواكه ومستقبل نسعى لقطف رياحينه ونداه.
وذلك الاجتهاد الجهاد بقضه وقضيضه. الاجتهاد بما هو إبداع ثقافي، والجهاد بما هو إبداع في التفاوض وسبل الإقناع الاجتماعي والسياسي… وللحديث بقية باقية.