التشكل التاريخي والطبيعي للفضاء الثقافي والاجتماعي المغاربي.

تشكل منطقة المغرب الكبير وحدة جغرافية-طبيعية مستقلة، وذلك لتمركزها بين أربع فواصل جغرافية تحيط بها: 1- جنوب المتوسط، 2- شمال الصحراء، 3- شرق الأطلسي، 4- غرب النيل؛ إذ وضمن تلك الوحدة البيئية تشكل مخاض من أربع أبعاد أساسية كما يلي:

1- البعد التاريخي: وإشكاليته الأساسية جدلية السيادة والخضوع.

2- البعد الطبيعي: سمته الأساسية التنوع المناخي التضاريسي الكبير.

3- البعد اللغوي: وإشكاليته الأساسية التمايز بين الكلام اليومي واللغة الرسمية.

4- البعد الديني: إشكالية الانفصال والاندماج عن الدين الرسمي.

نشرت صحيفة ساينس الدولية سنة 2018 تقريرا عن اكتشاف فريق بحث جزائري-أوروبي لأدوات حجرية وبقايا حيوانية في منطقة “عين لحنش” بمدينة سطيف يعود تاريخها إلى حوالي مليونين وأربع مائة ألف سنة (2.4 مليون سنة)، وبذلك تصبح منطقة شمال إفريقيا ثاني أقدم موقع لتواجد الإنسان بعد منطقة غونا -في إثيوبيا- شرق إفريقيا التي يعود أقدم تواجد للإنسان بها إلى 2.6 مليون سنة، وبالتالي فإن المنطقة المشتركة -شرق إفريقيا وشمالها- يصبحان المهد الأول للإنسان العاقل، وذلك حسب ما توصلت إليه الأبحاث إلى اليوم، مع أفضلية لمنطقة عين لحنش المرشحة للكشف عن تفاصيل أو تواريخ أقدم ربما.

وأيا كان فإن المعلومات الجيولوجية تشي بأن الطبيعة الجافة لمنطقة الصحراء الكبرى اليوم والتي تفصل بين شرق أفريقيا وشمالها، هو طارئ عليها، إذ كانت خلال العهود الجيولوجية الأولى منطقة خضراء، إضافة إلى المعلومة القائلة بأن المسافات بيت القارات هي أيضا محدثة بفعل التطور الجيولوجي، وهذا يعني أن انحسار الإنسان المغاربي في منقطته وتشكل خصوصياته التاريخية والثقافية حصل في مرحلة متأخرة من الزمن الجيولوجي.

وعلى ذلك فإن المعلومات الأثرية تكشف عن أن حضارات ما قبل التاريخ استوطنت في بلاد المغرب والمشهورة بالحضارات العاترية والوهرانية والقفصية التي شملت كل المغرب الكبير، حيث اختصت الحضارات الثلاث في تطوير تقنيات الصيد وجمع الطعام، إذ المعلوم أن إنسان المغرب استعمل منذ ما قبل التاريخ الأدوات الحجرية والخشبية وطورها خلال الحقب، وأول الأدوات التي استعملها هي “الحصى المشذبة” وذلك منذ 2.5 مليون سنة، وبانتهاء العهد الحجري وبزوغ الإنسان العاقل عرفت تقنيات صناعة الحجر تطورا كبيرا تميز بالتنوع والتعدد حيث تطورت تقنية الحصاة فأصبحت ذات وجهين على شكل فأس مزدوجة.أن

كما كشفت البحوث الأثرية أيضا عن وجود أدوات زراعية قديمة كانت تستعمل في الحضارتين الوهرانية و القفصية، إذا عثر على نوع من المناجل والمدقات وأدوات الحصاد، وكذا نوع من المعاول عثر عليها جنوب قسنطينة، كما أثبتت بعثة اثرية مغربية-ألمانية سنة 1988 ظهور الفلاحة في منطقة الريف بالمغرب منذ 9 آلاف سنة، وذلك إلى جانب الماشية وصناعة الفخار، وانتهاء إلى استكشاف عينات من غبار الطلع في الصحراء الجزائرية وهو ما جعل الباحثين يعتقدون أن إنسان المنطقة زاول الزراعة منذ الألف الثامن قبل الميلاد.

1- البعد التاريخي وإشكالية السيادة والخضوع:

تنقسم إفريقيا إلى شمال وجنوب وأما الجنوب فيسمى سكانه بالإثيوبيين، وأما الشمال فيسمون بالليبيين – وهم المتركزون في منطقة المغرب دون مصر-، ظهرت أهم حضارتين أهليتين في المغرب هما الحضارتان

أ- النوميدية: نسبة إلى النوميد وشملت تونس وأغلب الجزائر وقليلا من ليبيا.

ب- الموريطانية نسبة إلى الماوري وشملت المغرب وقليلا من الجزائر.

حيث أسس النوميد والماوري أول الممالك التاريخية على أرض المغرب الكبير، ذلك أن تأسيس المملكة يعتمد أساسا على القوة الحربية والسياسية، وهو ما يعني امتلاك إنسان المنطقة لفني الحرب والسياسية، فالحرب فن لأنها أسمى من مجرد المبارزة العنيفة، إذا هي خطط واستراتيجيات تنجز قبل الدخول إلى الحرب من أجل الانتصار وبسط الهيمنة، أما السياسة فهي أيضا فن ترويض الأتباع ومن هم تحت السيطرة الداخلية وكذا هي فن التفاوض الدبلوماسي وترويض القوى الخارجية.

وبعد استيطان الفينيقيين في المغرب وتأسيس مملكة قرطاج -بجوار مملكتي نوميديا وموريطانيا- تدعم التقدّم الحضاري في منطقة المغرب الكبير بفن جديد هو التجارة، إذ هو الفن الرئيس في الحضارة الفينيقية التي تميزت بالتوسع على السواحل، حيث شمل تمدد الفينيقيين أغلب سواحل البحر المتوسط خاصة الجزء الجنوبي منها، انطلاقا من مركزها في صور وصيدا بلبنان وصولا إلى المحيط الأطلسي؛ وإضافة إلى التجارة فقد عرف الفينيقيون أيضا بابتكار الأبجدية في التاريخ البشري منذ 5 آلاف سنة، وبذلك عرف سكان المغرب أول أبجدياتهم المسماة “تيفيناغ”، فالواضح أنها منسوبة  في تسميتها إلى الفينيقيين.

وفي هذه النقطة تبرز إشكالية العنصر الأول وهي إشكالية السيادة والخضوع، حيث الملاحظ أن استيطان الملكة عليسة في تونس الحالية وتأسيسها مملكة قرطاج لم يتسبب في مواجهة مع سكان المغرب إذ يعود السبب الرئيس إلى كون تأسيس قرطاج حوالي 814 ق م، سبق تأسيس نوميديا سنة 202 ق م، وكذا سبق تأسيس موريطانيا التي تأسست نهاية القرن الثاني قبل الميلاد، ما يعني أن المغاربة لم يكونوا منتظمين سياسيا تحت دول أو قبائل متغلبة قبل مجيء الفينيقيين، فضلا عن ذلك فإن الطابع التجاري للحضارة الفينيقية قلل كذلك من إمكانية المواجهة الحربية العنيفة، وعلى العكس من ذلك فإن قدومهم إلى المغرب سيكون مرحبا به طالما أنه اصطحب معه فنونا حضارية ستكون دعامة أساسية للتطور الحضاري لشعوب المنطقة خاصة التجارة والكتابة.

ولما جاءت المحاولات التوسعية للرومان متأخرة، أي بعد تمام تأسيس الممالك على الشريط الساحلي للبلاد المغربية، كان لابد لها أن تنحو، بعكس الفينقيين، منحى صراعيا لمنازعة الممالك السابقة التي تأسست على موضع حضاري بكر من الناحية الحربية والسياسة، لذلك اتبعت سياسة التحالفات، إذ تظهر هنا فلسفة السيادة والخضوع عند المغاربة بجلاء، ذلك أنه ولكي تسهل روما على نفسها مهمة الدخول إلى شمال المغرب الكبير، كان عليها أن تؤلب النوميديين على المملكة القرطاجية، وهو الطلب أو الموقف الذي اختلف حوله النوميديون واستعدَوا بعضهم من أجله رغم كونهما موقفين استقلاليين كما سنرى.

موقف سيفاقص: اعتمد سياسة التحالف مع قرطاج لحفظ الاستقلال، فرغم ما قد يبدو من أن صيفاقس مال إلى أحد جانبين دخيلين على الأهليين، وهو تحالفه مع القرطاجيين، إلا أنه موقف مبني على حقيقتين: 1- حقيقة أن دخول القرطاجيين كان سلميا، ولم يكن على انقاض الأهليين، إضافة إلى طريقة الدخول التي كانت سلمية، وانتهاء إلى استحضار القرطاجيين لأهم فنونهم الحضارية، 2- الموقف المتعنت للرومان، والذي جعل سيفاقص يتحول من موقف الحياد بين الدولتين الرومانية والقرطاجية إلى موقف الانحياز للقرطاجيين.

موقف ماسنسن: عرف عن ماسنسن (أو ماسينيسا) مقولته “إفريقيا للأفارقة” وهو ما يعني رفضه لكل الأجانب قرطاجيين أو رومان وباعتبار أن حلفه مع الرومان كان مؤقتا ريثما يتم التخلص من القرطاجيين وغريمه سيفاقص، خاصة بعد نكث القرطاجيين بعهد تزويجهم الأميرة صفونيسبا (أو صفنبعل) له واستبدالهم له بسيفاقص، إلا أن رهانه على خداع الرومان والانقلاب عليهم كان خاسرا كما اتضح من مآل الأمور، حيث تمكنت روما في النهاية من بسط سيطرتها الكاملة على المغرب الكبير.

والمحصلة أن العامل الخارجي هو الذي أدى إلى الوقيعة بين الأهليين سيفاقص وماسنسن من حيث البداية، أما من حيث الغاية فلم يتمكن أيا منهما من تحقيق شروط الاستقلال الطويل المدى، وطبعا على ما في الخيار القرطاجي من أفضلية بالنسبة للأهليين من حيث ما تقدّم ذكره، أعني لما جلبوه من فنون حضارية وسلمية استيطانهم، وفضلا عن ذلك وهذا الأهم وهو درس أن تحقق الاستقلال الأهلي من دون تحالفات استراتيجية يجعله غير ممكن، وأما خسارة سيفاقص للرهان كان بسبب الدخول في المناكفة الأهلية، لذلك فلا يكون من المبالغة اعتبار موقف الماسيل والماسيسيل في المغرب أشبه بموقف الغساسنة والمناذرة في ولائهم للرومان والفرس على التوالي قبيل البعثة المحمدية.

لذلك كانت إشكالية الخضوع والسيادة أهم الإشكاليات التي اكتمل ظهورها خلال الحروب البونيقية بين الفينقيين والرومان والتي جرى أغلبها على الأراضي المغاربية، ولا تقتصر الإشكالية فقط على المسألة السياسية والحربية إنما أيضا إلى بقية الفنون والصناعات، ذلك إن الإشكالية ممتدة إلى جانب التاريخ المغربي ذاته المرتهن إلى الوثائق الأجنبية وافتقاده إلى الأصالة الذاتية نظرا لعوامل التبعية الحضارية وأعني بها خاصة الجوانب الفنية-التقنية كما تقدّم ذكره والجوانب الثقافية-الدينية كما سيأتي ذكره في العنصر الأخير المكون لخصائص المغرب الكبير، بما يفرض على المغرب في النهاية الانتماء إلى مركز حضاري أجنبي بالضرورة سواء في التقنية أو في الديانة.

والواضح أنه سيكون لذلك أثر على ثقافة شعوب المغرب الكبير، من الناحية التفصيلية، وأعني ما تعلق بالفنون، تقنيات الصيد والزراعة بداية، فن التجارة وكذا الكتابة والتدوين باعتبارها أهم الفنون والتي جاءت على يد القرطاجيين، وكذا فن السياسة والقيادة مع نشأة الدولة النوميدية الأهلية وانتهاء إلى الفنون القتالية الموروثة عن الرومان، فهي كلها ثقافات كان لها الأثر الأكبر على تشكيل ثقافة الشعوب المغاربية، ذلك أن الفن الحربي أنتج ما سمي بالمسرح الروماني الذي احتضن المبارزات القتالية، وكذا القصور والمعابد التي رسخت الجانب الاجتماعي للمسائل الرمزية والروحية، وانتهاء إلى الممارسات الاقتصادية التي تمرن عليها المغاربة انطلاقا من تمرسهم على الإرث الفينيقي.

2- البعد الطبيعي: سمته الأساسية التنوع المناخي التضاريسي الكبير.

يشكل المناخ المتوسطي أهم السمات المناخية في منطقة المغرب نظرا لطول شريطه الساحلي وكذا لكونه الأكثر كثافة سكانية، وذلك لاعتدال مناخه وتضاريسه السهلية، فضلا كون الكثير من حواضره الشمالية شكلت مراكز حضارية في التاريخ وعواصم سياسية واقتصادية وإدارية حاليا، فضلا عن أن الشريط الساحلي كان أيضا مسرحا لأغلب أحداث التاريخ إذ شكل موقعا استراتيجيا للتبادل الدولي، بينما تشكل المناطق الداخلية ذات المناخ الصعب وغير المناسب للزراعة مناطق طاردة للسكان، كما تشكل الصحراء منطقة وصل للمنقطة المغاربة بعمقها الإفريقي.

والواضح أن المغرب الكبير على وحدة طبيعية شاملة تتمثل خاصة في الجانبين الجيولوجي: من حيث تكون الطبقات الأرضية والمناخية: من حيث التساقط والجفاف، كما ينقسم المجال المغاربي إلى ثلاث أقاليم: أ- الإقليم الصحراوي، ب-الإقليم الجبلي، ج- الإقليم السهلي.

الإقليم الصحراوي: هو عبارة عن طبقات رسوبية تتكون من كلس وصلصال تنتمي إلى الزمن الجيولوجي الثاني، إضافة إلى طبقات ملتوية تتكون من كوارتز وشت، تنتمي إلى الزمن الجيولوجي الثالث، الإقليم الجبلي: يعبر بلدان التونس والجزائر والمغرب ومنعدم في ليبيا وموريطانيا، يتكون من طبقات رسوبية ذات صخور كلسية وصلصالية تنتمي للزمن الجيولوجي الثاني، وطبقات التوائية مكونة من كلس وصلصال وحت تشكلت في الزمن الجيولوجي الثالث. الإقليم السهلي: يقع شمال المغرب والجزائر وتونس، يتكون من طبقات رسوبية من صخور الكلس والصلصال والحت، تنتمي إلى الزمن الجيولوجي الثاني، وطبقات ملتوية تنتمي للزمن الجيولوجي الثالث.

يسود في بلدان المغب الكبير مناخ قاري بارد شتاء وحار صيفا، ما عدى موريطانيا ذات المناخ الصحراوي الحار والجاف بشكل دائم شديد البرودة شتاء ويعرف أمطار موسمية، بحيث تتوزع التساقطات كما يلي:

أ- أقل من 100 ملم سنويا في المجال الصحراوي

ب- بين 100 ملم و 200 ملم في المجال الأطلسي وبعض المناطق الساحلية

ج- أكثر من 200 ملم في المجال الريفي والمناطق الساحلية الأخرى منها المحيط الأطلسي

ويوجد أيضا تشابه نسبي في المجال البنيوي ومجال التساقطات، مع اختلاف نسبي في ليبيا واختلاف أوضح بالنسبة لموريطانيا؛ وتتمركز السلاسل الجبلية في الدول الثلاث: تونس والجزائر والمغرب، أما ليبيا فهي كتلة جبلية، وتغطي السهول معظم المناطق الوسطى والساحلية، أما الهضاب فتوجد في المجال الأطلسي في المغرب والجزائر، أما العروق والحمادات فتنحصر في لمجال الصحراوي.

والمعلوم أن للبيئة الطبيعية أثر كبير على تشكل الثقافة البشرية للسكان، بحيث يتأسس اختلاف الثقافات بشكل كبير على الطبيعة البيئية المرتبطة أساسا بالموقع الجغرافي في العالم، ففي المغرب الكبير ثلاث سمات تضاريسية ومناخية ثلاثة هي: الساحل المتوسطي، سلاسل جبال الأطلس، الصحراء الكبرى.

فالتضاريس ذات أثر حاسم على النمط الفيزيقي للعيش من حيث أثرها على العمران المادي، مع اختلاف أساسي بين الماضي والحاضر، ذلك أن الأثر كان في الماضي أقوى بينما هو اليوم وبفعل التحديث والتطور التقني أصبح نمط العمران المادي أقرب إلى الوحدة رغم الاختلاف الطبيعي، إلا أن البناء الثقافي لسكان المناطق الثلاث هو امتداد للماضي أكثر منه إلى الحاضر رغم حداثة إطار عيشه الفيزيقي.

أما المناخ فهو أيضا مؤثر على نمط العيش من حيث توفير اللباس المناسب لتقلبات الفصول وكذا الخضوع لظروف الحرارة الشديدة وهطول الأمطار وهبوب الرياح وكذا تساقط الثلوج، رغم ما حصل أيضا من توحيد للتعامل مع الظروف المناخية بفضل التطور التكنولوجي من حيث توفير التكييف الصناعي ووسائل النقل والطرقات الآمنة، فضلا عن الكثير من الأنماط الحياتية التي تتحدد تبعا للمناخ مثل أوقات النوم ومدته.

وعلاوة على ذلك فإن طبيعة المناخ والتضاريس هي التي تحدد طبيعة الغذاء ووفرته، وهذا ينمط عيش الإنسان حسب الغذاء ووفرته، بحيث تتشكل عادات غذائية موسمية من قبيل تجفيف التمر في المناطق الصحراوية وتجفيف التين في المناطق الجبلية، ويترافق ذلك مع احتفالات اجتماعية بمواسم الزرع أو الحصاد، طبعا ما تسبب فيه التحديث التكنولوجي من تنميط النمط الغذائي بفعل التصنيع والنقل السريع للبضائع.

3- البعد اللغوي: وإشكاليته الأساسية التمايز بين الكلام اليومي واللغة الإدارية.

من المهم بداية التمييز بين العرق واللغة، ففي الكثير من الأحيان لا تكون لغة الإنسان دليلا على عرقه، ولأن المغرب الحالي في مجمله خليط أجناس وأعراق شرقية وأوروبية فيصعب الجزم بحقيقة عرقية موحدة له، أما إذا قسنا الأمر إلى البدايات التاريخية للحضارة في بلاد المغرب، فقد كان في بدايته مجموعة من قبائل يمكن إجمالها في ثلاث: الليبو والنوميد والماوري، تمازج لاحقا بشكل جزئي مع الفينيقيين الذين أسسوا الجوار إلى بقية شعوب المغرب القديمة، لكنه كان جوارا  سلطانيا لا اجتماعيا، فالانصهار لم يحدث بشكل كبير بين الشعبين رغم حصول التمازج الذي ترك بصمته في العرق واللغة.

وهو تمازج شبيه تماما في بما حدث بعيد الإسلام حيث اقتصر التمازج على بعض العائلات المهاجرة من المشرق لتعليم الناس دينهم، فما أخذ رسميا في المرحلتين: قدوم الفينقيين والمسلمين هو افتكاك المغاربة للحرف الرسمي المكتوب: الحرفين الفينيقي والعربي، مع استبقاء الحرف الشفوي المنطوق، ويبدو أن انفصال الحرف الرسمي عن الحرف المنطوق ظاهرة أصيلة في التمازج اللغوي، حيث يتبوأ الحرف الرسمي مكانة أعلى ترتبط بالتنظيم الإداري والمقدسات الرمزية، أما الحرف الشفوي فمنحصر في المجال اليومي، وعلى ذلك الأساس أخذت اللغة القديمة للمغرب الرسم الفينيقي فسمته “تيفيناغ”، وكذلك انتهت اللغات المحلية إلى استعمال الحرف العربي رسما للغتها الرسمية بعد فصلها عن الكلام اليومي الذي انشطر إلى كلام عربي وبربري دارجين.

بقاء الأتراك في الجزائر ثلاثة قرون لم يغير شيئا في المسألة اللغوية والعرقية، فرغم عدم حصول انصهار عرقي عميق إلا أنه ترك بصنته من الناحية التكوينية والمورفولوجية لبنية المناطق التي كان حضور الأتراك فيها عميقا مثل الجزائر العاصمة فضلا وما يؤكد ذلك الأسماء التركية الصريحة للكثير من العائلات اليوم، أما الفرنسيون فقد انتهى الأمر معهم بعد قرن ونصف تقريبا إلى فرنسة لغوية شبه شاملة للحياة الإدارية والسياسية والثقافية دون الدينية ودون أي تمازج عرقي يذكر، والواقع أن فرنسا استقدمت معها النموذج البيروقراطي المحدث فضلا عن استقدام نموذج “المثقف” الحديث، بحيث أضحى انتشار اللغة الفرنسية وهيمنتها واقع حال حتى بعد خروج فرنسا بأمد طويل، خاصة بعد عدم نجاح التعريب خلال السبعينات لأسباب تتعلق بالإرادة وأخرى موضوعية.

وهيمنة اللغة الفرنسية إلى اليوم تعتبر حقيقة واقعة سواء من حيث الأسباب الموضوعية المتعلقة بكون التقليد البيروقراطي انطلق فرنسيا في الجزائر، فضلا عن كون فرنسا مازالت تتملك قوة إنفاذ لغتها إضافة إلى العامل النفسي الذي ما زالت الفرنسية تملكه كلغة متغلب من حيث الاستعمال كبديل في اللغة اليومية سواء كعبارات مفضلة عن اللفظات العربية والبربرية إذ تستعمل أيضا للشرح في الكلام الرسمي واليومي، وهذا ما يظهر أنها ما تزال تحافظ على قوتها الرمزية كاتفاق اجتماعي يومي خاصة في المناطق الحضرية الكبرى أو عند النخب المثقفة.

إضافة إلى ذلك ما يعرفه المشهد اللغوي من نشاط لإحياء الأمازيغية رسميا، سواء ترسيم قانوني أو تقعيد نحوي، وانتهاء إلى مطالب استبدال اللغة الثانية: الفرنسية بالانكليزية، بينما يبقى التعريب متأرجحا بين الشمول -أي حضوره في التعليم لكل المواطنين- وعدم نجاعته، سواء من حيث الإتقان أو من حيث فاعلية اللغة العربية وتحولها إلى لغة رسمية شاملة في الإدارة وتحولها أيضا إلى لغة علم تضاهي بقية اللغات العالمية.

بينما تبقى اللغات الشفوية اليومية الدارجة هي الثابت الوحيد خلال الزمن، رغم تعرضها أيضا للتحول بفعل التأثير والتأثر في بعضها البعض سواء بينها كلغات شفوية أو بالتأثر من اللغات الرسمية عربية وفرنسية خاصة، علما أن الدراجة الراهنة في المغرب الكبير هي خليط أمازيغي وفينيقي قديمين إضافة إلى اليوناني والروماني والعربي والأندلسي والتركي والفرنسي وكذا الإفريقي؛ مع حقيقة ميل الدارجة العربية إلى الهيمنة سواء من حيث الانتشار الحالي أو من حيث أن التصاهر بين العربي والبربري ينتهي غالبا بذرية ذات لهجة عربية دارجة، إضافة إلى كون التخاطب بين العربي والبربري يكون الضرورة بالعربي الدارج، وذلك لأن العربي الفصيح يجعل من الدارج أيسر تعلما للامازيغي من تعلم الأمازيغية عند المتكلم بالعربي الدارج، وهذا مؤشر مهم إلى اتجاه حركة اللغات الشفوية في المغرب، بينما يبقى الأمر بالنسبة للغات الرسمية: عربية فرنسية إنكليزية أو حتى الأمازيغية المقننة -إن حصل لها النجاح- ما تزال رهن الأيديولوجيات ورهن الإرادة السياسية.

4- البعد الديني: إشكالية الانفصال والاندماج عن الدين الرسمي.

عاشت منطقة المغرب أمية دينية على غرار منطقة الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام، إذ لم يسبق إليها نبي مرسل، بعكس منطقة الشام والهلال التي عرفت بأرض الرسالات التي تعاقب عليها الرسل والأنبياء منذ القدم، بالمقابل شكل المغرب منطقة امتداد لديانات المشرق: اليهودية والمسيحية والإسلام، وقبل ذلك عرف المغرب الوثنية، فلم يكن المغرب بؤرة لظهور ديانة سماوية أو طبيعية، إذ كان قد تأثر أيضا بالديانات الفلسفية اليونانية.

وعلى ذلك عرف المغرب أهم شخصيات دينية ذات أثر قبل الإسلام وبعده، فقبل أوغسطين الذي كان أول من حاول الجمع بين العقل والدين، ظهر أريوس -ذي الأصل الليبي- الذي سعي لإعادة الدين النصراني إلى التوحيد في الاسكندرية بعد أن حوله رجال الدين إلى دين يجسد الذات الإلهية بعد التأثر بالديانات الطبيعية اليونانية، ولقد تبنى الوندال بعد احتلالهم للمغرب المذهب الأريوسي ما جعله منتشرا في شمال إفريقيا: مصر والمغرب الكبير.

بعد سيطرت الإمبراطورية الرومانية على المغرب وانتشار المسيحية في روما ومنطقة المغرب، استغل الرومانيون ذلك فاستعملوا النصرانية أداة تعضيد تبعية المغاربة، وهو ما اضطرهم لتمييز أنفسهم عن المركز الكاثوليكي في روما بالمذهب الدوناتي، وكان مذهبا اجتماعيا ثوريا أكثر من كونه عبارة عن مضامين عقائدية مختلفة، فكما اهتم أوغسطين بتجديد المضامين الدينية وفقا للأفلاطونية فإن دوناتوس سعى إلى تأسيس مذهب يقوم على الطبقة الفقيرة والكلام باسم حقوقها.

عرف دخول الإسلام وترسخه في المغرب مراحل: أولها الرفض المطلق لبعض حكام المناطق للإسلام على غرار الملكين كسيلة وديهيا، حيث لقي الفاتح عقبة بن نافع مصرعه على يد كسيلة، وفي المرحلة الثانية حمل حسان بن ثابت الكثير من قبائل المغرب إلى الإسلام بعد قضائه على ديهيا، وأما الثالثة فعرفت اعتماد الجيوش التي تفتح وتخضع المناطق للإسلام بشكل عابر، وهو ما تسبب في ارتداد القبائل مرات عديدة وهو ما حدا بحسان  بن نعمان إلى فكرة الاستقرار لترسيخ الإسلام في النفوس، حيث بنى مدينة القيروان واصطحب معه معلمين وعائلاتهم من المشرق لتعليم المغاربة الإسلام.

وبعد أن أصبح المغرب تابعا للدولة المركزية الإسلامية في دمشق، ساءت العلاقة بين ولاة المغرب وسكانه، فأدى الأمر إلى ظهور أول الدول المستقلة عن العاصمة المركزية وتمثلت في دولتي تاهرت وسجلماسة التي كانت على المذهبين الإباضي والصفري المعارضين، حيث كانت تسمى الأولى بغداد المغرب لما طالها من ازدهاري اقتصادي وفكري، كما انتهى الأمر إلى ظهور دولتي المرابطين والموحدين في آخر العهد الإسلامي، والتي أسسها القائدين المغربيين: يوسف بن تاشفين والمهدي بن تومرت على التوالي، وقبل ذلك تولى فتح الأندلس طارق بن زياد.

وقد استمر العامل الديني في صناعة التاريخ السياسي-الثقافي للجزائر بعد دخول العثمانيين إلى الجزائر حيث كان عامل تلاحم بين الحكام العثمانيين والجماعات الأهلية الجزائرية، فرغم غياب الكثير من الأبعاد الحضارية في تلك العلاقة الثنائية إلا أن فكرة الجهاد والدفاع عن الإسلام كانت العامل المشترك الوحيد الذي منع الجزائريين من الشعور بضرورة تنظيم حركات مقاومة ضد الأتراك على مدى ثلاثة قرون، وهذا انسجاما مع الدعوة التي تلقاها عروج وخير الدين لحماية الجزائريين من الغزو الأيبيري، والذين تسيدوا البحر وكونوا ثلة من “رياس البحر” الجزائريين أشهرهم: الرايس قورصو، والرايس حميدو، وبوعلام رايس، و مراد رايس الذين تولوا رد المحاولات المتكررة من دخول الإسبان، ولم يكن الاستنجاد وتلبية النداء هذا بدعا في التاريخ الإسلامي فقد حصل أكثر من مرة، وأشهرها استنجاد الموريسكيين المضطهدين في إسبانيا بسلاطين المسلمين.

فكان الحس الديني هو الرابط المشترك بين مراحل التاريخ المغاربي، إذ استمرت النزعة الاستقلالية-الدينية مع دخول الفرنسيين إلى الجزائر، الذي ووجه منذ بدايته بمقاومة مستميتة من الجزائريين، حيث استغرق استكمال فرنسا دخول كامل التراب الجزائري مدة قرن كامل، وقد لا يتسع المجال لتعدادها لكن أشرها مقاومة الأمير عبد القادر الذي جمع بشكل نادر بين الحكمة العقلية والفروسية الحربية، ويمثل كل من عبد الكريم الخطابي نظيرا له في المغرب الأقصى وعمر المختار في ليبيا، ووصولا إلى ظهور الإصلاح الديني وثورة التحرير الكبرى، فرغم الطابع الوطني الدنيوي للثورة إلا أن التكوين الديني لأغلبية المجتمع الجزائري جعل من الثورة دينية في الجوهر، وهو ما مكنها من تحقيق مطلب الاستقلال، حيث الملاحظ هنا هو انشطار السياسي عن الديني بعد ثورة الأمير، وهو ما حصل بفعل توغل الحداثة العلمية والاجتماعية في الإنسان الجزائري، فحصلت القطيعة بين الحياة المدنية والشعور الديني، وهو ما تجسد خاصة بعد مرحلة الاستقلال حيث القطيعة شبه تامة بين الديني والمدني، وهو ما جسده النظام الاشتراكي الذي جعل من الوطنية نزعة تقوم على نخوة دنيوية، فضلا عن إبعاد شبه تام للفكرة الدينية التي تجسدت في جمعية العلماء، بل وحصلت القطيعة أيضا حتى مع الرموز الفكرية والأدبية حيث لم تلق الشخصيات الأدبية والشعرية والفنية التي أسهمت في الثورة التكريم اللائق بها.
وأشهر القطائع التي حدثت ما حصل لمفدي زكريا ومالك بن نبي، فالأول عاش منفيا خارج الوطن، والثاني عزل بطريقة فجّة من منصبه في التعليم العالي آخر حياته، فقد أسس زكريا بلا منازع للوجود الرمزي للوطن الجزائري وبلور روحها شعريا باستمداد الروح الدينية فسمى إلياذته عن الجزائر بـ “اللهب المقدّس” ومن أهم القصائد سماها بـ”الذبيح الصاعد” فكانت الروح الدينية سارية في كل شعر مفدي، ويمثل أبو القاسم الشابي نظيرا له في تونس، والثاني حدد كل شروط القيام بعد الاستقلال والنهوض بالمجتمع الجزائري والتنمية، وأقام كل ذلك على أساس الفكرة الدينية التي اعتبرها المفعل لكل عناصر الحضارة والتنمية، والفكرة الدينية عنده ليست نظاما سياسيا أو اجتماعيا ولا قوانين مدنية أو دينية إنما هي حس وشعور يلف كل السلوكات والأفعال الدنيوية بشكل مستتر، فكان الرمزان الشاعر والمفكر، الانطلاقة التي يمكن أن تستخلص منها كل أجنة الثقافة العقلانية والفنون الذوقية للمستقبل.

 

—————————————————

*)- محاضرة مقدّمة إلى طلبة السنة الأولى ماستر ثقافي، مقياس علم اجتماع الثقافة والفن، قسم علم الاجتماع، جامعة غرداية، الموسم الجامعي 2021/2020

 

داخل المحاضرات
أبريل 2025
د ن ث أرب خ ج س
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
27282930  

الأرشيف

إحصائيات الموقع

167247
اليوم : 129
الأمس : 117
هذا الشهر : 4423
هذا العام : 15959
مشاهدات اليوم : 529
مجموع المشاهدات : 506683
المتواجدون الآن : 3