الإنسان الأول، بين الأطروحة العلمية والقصة الدينية، أية علاقة؟

من حق أي كان أن يرفض الكلام عن تطور الإنسان من رئيسات أدنى منه، لكن من واجبه أن يعرف أن فكرة التطور في حد ذاتها مرتبطة بشكل وثيق بالعلم والبحث العلمي، وأن إنكار التطور سواء في الإنسان أو الكائنات والوجود عامة بزعم أنها خلقت جملة واحدة وبشكل فجائي في إحدى لحظات التاريخ ليس هو رفض لفكرة أو نظرية علمية قد تصيب أو تخطئ، لكنه دليل على جهل مضاعف بأمرين:

1- جهل بعلاقة العلم بالسببية وأن العلم التجريبي لا يمكن يقوم بلا تعليل حسي تجريبي من العالم الطبيعي.
2- وهو أيضا جهل بالعلاقة بين السببية والزمن، فلا يمكن للأسباب أن تحصّل الآثار على الوجود دون زمن.
وما دام العلم التجريبي ملتزما بالبحث في العالم الطبيعي -ولم يتدخل في عالم الغيب أو الميتافيزيقا- فمن حقه أن يتوغل في كل معرفة ممكنة التعليل بالحس لاستكشاف مجاهليها، والبحث السببي في كل أصناف الوجود لابد أن يكون تاريخيا نظرا لأن منهجه الأساسي هو البحث في العلل ضمن إطار زمني بمنطق: كيف كانت الأشياء؟ وكيف صارت عليه الآن؟
أعني أن البحث العلمي يفترض أن كل الموجودات اليوم عرفت تحولا منذ وجدت وإلى اليوم، بقول آخر: أن كل الموجودات توجد الآن وهي في أعقد حالاتها الممكنة من حيث التركيب الداخلي لمكوناته المادية وعلاقة تلك المكونات فيما بينها، وأن الكشف العلمي عن الموجودات يقتضي تحليلها، وتحليلها يعني استكشافها وهي في أبسط حالاتها، أي كيف كانت قبل أن تصل إلى ما هي عليها الآن.
وعليه، فإن نظرية التطور في تاريخ العلوم ليست في الواقع إلا تحصيل حاصل، ذلك أن كل البحث العلمي هو من منظور ما تطوري بالضرورة، كل محاولة كشف أو استكشاف علمي هي في الجوهر نظر في “تاريخ الشيء”، فهذا يشمل كل ظواهر الوجود بدءا بالوجود الفيزيائي وصول إلى البناء الثقافي ومرورا بالأحياء على تدرجها، ودون النظر في تاريخ الظواهر لا يكون العلم التجريبي ممكنا، العلم التجريبي إذن هو ضرب من الخبر التاريخي الذي يصل إليه الباحث بعد التقصي، لكنه خبر معلل بأسباب تجريبية، وحتى لو تمت الاستعانة بالمنطق المجرد في التعليل فلابد وأن يحوي على حد أدنى من “المؤشرات” الحسية.
إن السرديات غير التجريبية حول ظهور الكون وظهور الإنسان تصور حدوث الأمر على أنه خلق فجائي، علما أن المشترك بين القصة العلمية والسرديات هو أن الخلق حدث خلال “لحظة ما” بالمنظور الأرضي، يعني التسليم بوجود بداية للكون والإنسان بعد أن كانا معدومين، وأن تلك البداية حدثت وفقا لأسباب، إذ تعزوها القصة الدينية لأسباب روحية، حيث لا زمن في عالم الروح، ففي عالم الروح يختلط الماضي بالحاضر بالمستقبل من منظور أرضي، وبالتالي فإن خلق الإنسان حصل في لازمن، لكن الإنسان مجبول على أن يفكر في بدايات الأشياء أرضيا أي أنه يستحضر الزمن بالضرورة عند تصوره ظهور الكون أو ظهور الإنسان.
وبه، فإن النص الديني نفسه يعرض لكيفية الخلق ضمن تاريخية معينة، لكنها ليست تاريخية سببية بل تاريخية روحية، ويمكن تعريف التاريخ الروحي بأنه العلاقة بين الخالق والمخلوق حصرا، أو قل هي علاقة تاريخ عالم االروح بعالم الطبيعة، وعليه فإن غاية النص الديني ليس بيان العلل السببية للخلق كما هو الحال في التاريخ الطبيعي، إذ يمكن أن نقرر أن علاقة عالم الروح بعالم المادة تحصل من وجهين:
1- العلاقة الفعلية الموجودة بين العالمين، حيث وجودها الحقيقي رغم خفائها سواء كبدايات (أيام الخلق) ونهايات (يوم الحساب)، والأهم هو أنها حاصلة ومستمرة عبر مراقبة الإله لأفعال الإنسان خلال حياته من يوم التكليف إلى يوم الوفاة.
2- العلاقة الرمزية التي يؤسسها النص الديني بين العالمين من خلال خطاب مباشر ومتجدد بين الذات الإلهية والذات الإنسانية، رغم ضمورها بين (يوم الميلاد) و (يوم الوفاة)، والأهم هو التذكير بالصلة الفعلية والحقيقية (غير الحسية) بين أعمال الإنسان ومصيره النهائي.
وعليه، فالتصادم بين بين القصتين العلمية والدينية حول ظهور الإنسان ورغم اختلافهما ليس ضروريا مادام اختلافهما في القصد والمنهج معا، لكن كيف يمكن أن تتراكب القصتان؟
تؤخذ القصة الدينية كفرض قبلي، وتؤخذ القصة العلمية كتحقق بعدي من الفرض، نفترض مثلا أن الدافع الرئيس للبحث العلمي في بدايات الخلق هو المتوفر من القصص والسرديات الدينية حوله، وبالتالي فإن فالباحث دائما ما يستصحب القصة الدينية في مخيلته ليس في تفاصيلها لكن كفكرة موجهة فحسب، على أن أفضلية القصة الدينية وضوحها التام من حيث تركيزها على البدايات والنهايات، من: {إني جاعل في الأرض خليفة} إلى: {قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو}.
فالقصة الدينية كلها تركز على المقدمات والنتائج، مقابل غموض كبير في “كيفيات” الخلق إلا أن تكون إشارات عالية الترميز: {ونفخنا فيه من روحنا}، إذ في مسألة النفخ نقع على تماس رفيع جدا بين بدايات العقل الإنساني كإدراكات سامية وبين التكليف الإلهي للإنسان، فقد يكون حدث النفخ متحققا بالمعنى الحرفي، فهو هنا بمعنى الإجتباء، اجتبى آدم كشخص من بين بقية الإنس ورفعه إليه ونفخ فيه من روحه في عالم الغيب، والفرضية الرئيسة هنا هي أن آدم حاز الكمالين العقلي والروحي معا، فكان أسمى بشر بلغة الطبيعة (تمام العقل) وأسمى بشر بلغة الروح (تمام الإرادة)، وعلى هذا يتأسس أن نبوات البشر كلها كانت متسقة تمام الاتساق مع تطور الحضارة الطبيعية للبشر، تماما كما نسب للنبي إدريس أنه أول من خط واختط وخاط، خط بالقلم واختط المدن وخاط اللباس، وهذا يفتح آفاقا واسعة لإعادة قراءة التاريخ من منظور وحدة التاريخين الطبيعي والروحي.
على أن المسألة الأهم في كل ذلك هي مسألة غياب البعد الزمني في القصة؛ لكن إذا استحضرنا مسألة خلق الكون فنجد الزمن حاضرا: {خلق السماوات والأرض في ستة أيام}، أي في ستة مراحل أو حقب زمنية، حيث استعمال اليوم في القرآن ليس مقصورا على مدة ليل واحد ونهار واحد، على غرار يوم الحساب مثلا، وعليه فإن خلق السماوات والأرض هي البداية الفعلية لكل الموجودات بما فيها الأشكال الأولية للبشر التي يمكن أن تكون قد حصلت في المدة الفاصلة بين خلق الكون واجتباء آدم.
داخل المقالات
أبريل 2025
د ن ث أرب خ ج س
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
27282930  

الأرشيف

إحصائيات الموقع

167244
اليوم : 126
الأمس : 117
هذا الشهر : 4420
هذا العام : 15956
مشاهدات اليوم : 512
مجموع المشاهدات : 506666
المتواجدون الآن : 2