التعدد المؤسسي في المجتمعات المحلية هو من جانبين: نمطي (Stylistic) وصنفي (typical)، فالنمطي هو التقابل بين المؤسسة العرفية والمؤسسة المدنية، حيث التقابل مثلا بين مؤسسة المسجد ومؤسسة الشؤون الدينية والأوقاف، وبين المؤسسة التعليمية الدينية والمؤسسة التعليمية المدنية وبين مؤسسة الأعيان ومؤسسة المجلس البلدي… أما من حيث التعدّد في الصنف فالأسرة اليوم هي على نمطين ممتدة ونووية، والمسجد هو على مرجعيات متخالفة ومتباينة، والاقتصاد هو على أنماط متعدّدة فردية خاصة وجماعية في شكل شركات…
وقد أدّى إلى ذلك داخليا توفرّ الحرية داخل المجتمع بفعل ارتفاع المستوى التعليمي الذي أدى إلى نزعة التحرر الذوقي الذي يؤدي إلى النزوع نحو الاستقلالية عمليا، حيث أن الاختلاف الذوقي في المجالات الشتى خاصة مع ما توفره الحياة المعاصرة من اختيارات متعددة، فمثلا الأفراد يسعون لتحقيق استقلالهم في طريقة العيش حيث يختلفون عن الآباء في الأذواق: تأسيس العائلة، تفاصيل العلاقة الزوجية والحياة الأسرية، الممارسة الدينية، طريقة اللباس ونوعه، الأكل، نوع الإعلام المتابع…
ويتأسس الاختلاف الذوقي على القيم الاجتماعية الدينية، فاختلاف الذوق قد يتأسس على توافق قيمي، فمثلا قد تكون درجة التدين بين الأب والابن واحدة لكن الاختلاف وارد جدا في اختيارهما للفكرة الدينية التي عليها يرسو ذلك التدين، فيكون تبني الفكرة الدينية ذوقيا، وكذا قد تكون مثلا قيمة التلفزيون لدى أفراد الأسرة الواحدة هي ذاتها لكن يتم الاختلاف في كيفية تنفيذ القيمة فعليا في حالة التوافق مثلا على ضرورتها قد يختلف في مكان موضعها وأوقات مشاهدتها ونوع القنوات والبرامج التي تشاهد، بله وحتى قد يختلف حتى على علّة ضرورتها هل هي وظيفية أم ترفيهية… إلخ
فالنسق العالمي المتسم بالشمولية الكونية العابرة للثقافات يتقصّد أساسا تشتيت وحدة الذوق أولا وتنميطه من جهة أخرى، أي أنه يهضم الثقافة ويخرجها متعدّدة وفقا للمنطق الاستهلاكي الموحّد المتوافق مع الثقافة الرأسمالية، بما فيها الذوق الديني حيث تتعدّد القنوات الدينية والشخصيات الدعوية بشكل كبير لكنه تحت منطق خفي هو المنطق التجاري، يمكن مثلا العودة إلى ما حققه أحد الدعاة من برنامجه الرمضاني من عائدات جعلته الداعية الأكثر دخلا! حيث هنا تجاوز لمسلّمة دينية تأسيسية هي فكرة العمل الطوعي في الدين "فعل الخيرات"، ويمكن القياس على ذلك محليا بأن الدعاة الجدد مرتهنون كذلك في ظهورهم إلى مفهوم الرأسمال الحقلي، فهو وإن يكن غير مادي فهو يستمدّ وجوده وارتفاع "شعبيته" من المؤسسة ذات القوة الاجتماعية، أو من استحداث مؤسسة من خلال توظيف رأسمال ثقافي واجتماعي.
ويسعى النسق العالمي من خلال تنميط الذوق إلى قولبة القيم ومنها قيم الدين والعلم التي هي قيم مركزية في حياة المجتمعات الإسلامية، لكونها القيمة المذيبة للانتماءات الطبيعية والطبقية، فالبناء الاجتماعي الإسلامي قائم على تكتلات ذات مرجعية عقائدية-ثقافية كمحور للانتماءات الطبيعية والطبقية التي هي كيانات وظيفية تخدم فكرة محورية هي فكرة الوحي (المذاهب الحادثة) أو الفكرة المفسرة للوحي (المذهب التقليدي).
أما الأنساق المحلية المتسمة بهاجس الهوية والحفاظ على الخصوصية الدينية-الاجتماعية فتشهد صداما داخليا بين المؤسسات والمفاهيم المؤسسة لها، حيث تواجه المؤسسة سؤال هويتها، أو الغاية من وجودها أمام التغيرات الحاصلة المغايرة لطبيعة الزمن الذي وجدت فيه، أي هل أن المؤسسة تحافظ على الغاية التي وجدت من أجلها في ذات الوقت الذي تعي فيه مستوى تهديد النسق العالمي الذي يواجهها، إذ يسعى لتحويلها إلى مجرّد أداة استهلاكية تلبي حاجة جزئية هي حاجة التديّن أو حاجة التربية أو أية حاجة مادية أخرى، ومن ثمّ فإن الحاصل هو اجتثاث كل المؤسسات من سياقها الذاتي التاريخي الاجتماعي ليكون رقما يستعمل ضمن النسق العالمي الاستهلاكي، بوصف الاستهلاك قيمة تذيب من حولها كل القيم الأخرى.
وبالنتيجة فإن التعدّد الحاصل هو تعدّد ذوقي يمهد لـ"تعدّدية القيم" الذاتية لصهر المجتمعات إلى القيم مابعد الحديثة الناتجة طبيعيا عن الآلية الرأسمالية الاستهلاكية العالمية، ومن ثم يحصل تفكيك الأسس القيمية للمجتمعات بطريقة ضمنية دون أدنى مقاومة بل ويحصل بإرادة طوعية من الفاعلين داخلها. هكذا فإن التعدد من وجهين ذوقي معبّر عن حيوية واجتهاد خلاّق ضروري في المجتمعات التاريخية أو التي تسعى للعودة للتاريخ، في ذات الوقت فإن التعدّدية تعتبر عامل اندراج في النسق العالمي الشمولي في حال فقدان المؤسسة لهويتها عندما يكون هدفها الرئيس الحفاظ على ذاتها والتحصّن بشكلها توهّما من أن الشكل هو الغاية، ومن ثم فعدم التحيين الدوري لغايات المؤسسات يؤدّي لأن تفقد بوصلتها ومن ثم تفقد ارتباطها بنسقها الفعلي، وتبعا لذلك يكون الفاعلين فيها في خدمة النسق العالمي الشمولي الذي يسعى للمحافظة على التكوينة الاجتماعية للمؤسسات دون التورط في محاولة التغيير المكلف لها، على أن اضطرار المؤسسات للتغيير عن طريق الانقلاب أو الثورة – مع الفارق الكبير بينهما من حيث أصالتهما الاجتماعية- يجعلها الآلية العالمية تناور في سبيل هيمنتها أيا كانت النتيجة، لذلك فمجرّد التغيير ومن ثمّ التعدّد لا يعني التحرر لكن الأصل هو العودة بالمؤسسة إلى الجذور أعني إلى استيحاء الظرف الفعلي الذي تأسست فيه أول مرّة ومن ثم استعادة كينونتها الذاتية الأصلية.