اهتمت مدارس علم الاجتماع بمختلف جوانب الفعل الاجتماعي وحرّرت الكثير من مستغلقاته، لكن قبل التفصيل في ذلك ولإعطاء الموضوع حقه، علينا أن نبحث فيما اهتمت به مختلف المدارس والمذاهب في السوسيولوجيا الحديثة كموضوع أساسي لهذا العلم، فإذا كان ماكس فيبر هو الذي صك مفهوم “الفعل الاجتماعي” بوصفه الموضوع الرئيس لملاحظة الباحث الاجتماعي، وقرر أن أهم ما يميز الفعل الإنساني هو القصود والمعاني التي يحملها في طياته التي تجعل من الفعل الاجتماعي:
أ- أكبر من مجرد سلوك أو تصرف أحادي وأصم، فهو يحمل مقصد ومعنى.
ب- يصدر عن الفرد كما يمكن أن يصدر عن الجماعة، فهو شخصي ومؤسسي.
إذ، وبينما اهتمت المدارس السكسونية الحديثة، وتحت تأثير التجريبية بما يسمى بالسلوك الاجتماعي، وهو ما تجلى في المدرسة السلوكية التي شكلت أكبر التيارات الحديثة في العلوم الاجتماعية الحديثة، وقد أعطت في الواقع وبفضل منظورها تقدما مهما جدا نحو الفهم الأفضل لموضوع الإنسان والمجتمع من جهة المنظور الطبيعاني، خاصة عندما ساوته بسلوك الحيوان كمنطلق منهجي تحقيقي، فقد أفضى ذلك إلى مراجعة المسلمات الابستمولوجية التي عليها قامت التعريفات الديكارتية والكانطية للإنسان، والتي بنيت على التسليم الاعتقادي دون تحقيق تجريبي، ولا تحري لدقيق الفوارق بين الكائن العاقل وغيره من الكائنات.
لقد جاء مفهوم الفعل الاجتماعي كمحاولة لتقصي الجوانب الشعورية الذاتية غير المرئية في الإنسان، وذلك لمحاولة تجاوز النظرة الدوركايمية للظاهرة الاجتماعية التي بدى أنها تختزل الظاهرة الاجتماعية في المنظور الظاهري (Phenomenalism)، وكذا المنظور البنيوي -اللاتاريخي- للظواهر الاجتماعية الذي أسست له الفلسفة الوضعية، حيث كانت في ذلك أقرب إلى السلوكية لكن دون أن تتماهى معها، كما أضفت الدوركايمية بصمة شبه “روحانية” على الظاهرة الاجتماعية وهو ما تعافه السلوكية الصرفة.
لقد تكفلت البنائية الوظيفية بتقديم منظور شمولي عن الفعل الاجتماعي، بالجمع بين المنظورين الحتمي والطوعي في الفعل الإنساني، ويمكن القول أنها قدمت أدق التحديدات والتعريفات للفعل الاجتماعي، وهو ما يعيدنا إلى البدء بمحاولة الجواب عن مصدر الفعل الاجتماعي.
النموذج الأساسي للفعل الاجتماعي عند تالكوت بارسونز يتحدد في أربع عناصر:
1- الإنسان الفاعل.
2- المفاضلة التي ينجزها الفاعل بين أهداف فعله.
3- البيئة التي تحدد نطاق اختيارات الفاعل لفعله.
4- العوامل المادية والمعنوية التي يخضع لها الفعل.
كل هذه الاختيارات في نظر بارسونز تخضع للنظام الاجتماعي العام الذي يهيمن على سير الحياة الاجتماعية وهو ما يشكل النسق في النهاية، حيث عمدت البنائية الوظيفية إلى تقديم صورة عن الفاعل الاجتماعي بتمثله سابحا في سديمين السديم الشخصي الخاص ثم السديم الاجتماعي العام وهو النسق الذي يتفرع حسب بارسونز إلى أربع أجزاء:
1- القيم والمعايير
2- الروابط والعلاقات الاجتماعية
3- إشباع الحاجات
4- البيئة المادية
فالمؤكد أن هذا تحديد بالغ الدقة النظرية للفعل الاجتماعي من طرف آخر النظريات الكبرى في علم الاجتماع، النظريات استندت جلها إلى النظرية الحديثة للعقد الاجتماعي التي لا ريب أنها المصدر التأسيسي الرئيس لنظريات الجيل الأول من علم الاجتماع الحديث، والمعروف أن نظرية العقد الاجتماعي لم تخرج عن الإطار الحسي في تنظيرها لإواليات تأسيس المجتمع، الأمر الذي أفضى بها إلى تقديم منظور صراعي صرف للحياة الإنسانية (نظرية هوبز وصراع الجميع ضد الجميع)، وهو ما كان الإطار الحاكم لكل النظريات الاجتماعية بما فيها نظريات الجيل الثاني التي هيمن عليها المنظور التفاعلي، حيث ورغم تخلصها من نظرية العقد الاجتماعي الكبرى إلا أنها لم تتجاوز المنظور الحسي المباشر، فضلا عن تسلحها بالمنظورين الأقتصادي التبادلي والفلسفي البراغماتي.
وعلى ذلك ومن رغم عناية بعض النظريات الاجتماعية بالمنظور الذاتي الشعوري والقصدي خاصة مع فيبر وشوتز إلا أنها لم تخرج عن إطار القطيعة التامة مع “التقاليد الروحية” الموروثة عن الديانات السماوية والتاريخية، أعني القطيعة عن الاستمداد من خارج النطاق الإنساني حسيا كان أو شعوريا، فقد كانت غاية الأمر في تجاوز العقلانية في علم الاجتماع إشارة نوربرت إلياس إلى مفهوم التعقيد، بوصفه اعترافا ضمنيا بقصور العقل أمام التشكل التاريخي الاجتماعي (Sociogenesis) وتقبل المعطى غير المتعقل ومحاولة محايثته جزئيا عبر الأبحاث العلمية المتأنية والطويلة المدى والتي في النهاية تبقى قاصرة عن النتائج الدقيقة المؤكدة وكذا عن شمول كل شيء…
وعليه فإن الجواب عن مصدرية الفعل الاجتماعي -مع التحفظ على التسمية من باب تجاوز المناظير الطبيعانية له وكذا من باب التحرز من كونه ورغم عنايته بالمثل الذاتية إلا أنه يبقى محجوزا في النطاق الإنساني، وسأفضل تسمية السلوك الاجتماعي بوصفه الفعل الاجتماعي ليس إلا مجموعة سلوكات هادفة إلى غاية موحدة، على أن مفهوم السلوك هو الوحدة الأساسية للفعل الاجتماعي- ستنطلق من حقيقتين مُثليين هما:
1- مصدر النطاق الطبيعي للسلوك.
2- مصدر المفاضلة بين أهداف الفعل.
أ- فأما النطاق الطبيعي للسلوك الإنساني، أعني بيئته الأساسية، فهو بدوره منجز خارج “النطاق الإنساني” وبالتالي هو مما يُتجاوز بـ”مفهوم التعقيد” مجهولا كان أو معروفا؛ الواضح أن أصول البيئة الطبيعية للإنسان تعد إلى اليوم من المجهولات – سواء من المنظور العلمي أو الديني- والآراء حولها لا يمكن أن تتجاوز الحدس والتخمين التقريبي، حيث المؤكد أنه ليس من مشهودات الإنسان، ومادام ليس من المشهودات فهو من المغيبات عليه، لكن مادامت البيئة حسية مادية فإن من الممكن تخمينها علميا بواسطة الأدوات التقنية والفروض الحدسية علميا، كما أن المنظور الديني يبقى مليئا بالكوامن الدلالية التي لا تستنفذ بفضل تقدم التجارب الروحية دينيا.
وعليه كان أصل الإطار البيئي المبني على التحييز المكاني الزماني من الحقائق التي يؤسس عليها الفعل الإنساني، حيث العائد العملي لتلك الحقيقة سيصبغ الفعل الإنساني باعتقاد قصوره، أعني أن الإنسان ومهما تحكم في المعطيات الزمكانية لفعله فإنه يبقى دائما قاصرا عن الإحاطة بالعوامل التي تتجاوزه قدراتها النظرية والعملية على الهيمنة المطلقة.
ب- وأما مصدرية المفاضلة بين أهداف الأفعال، أي دوافعه العميقة، فهي مرتبطة بـ”مطلقاتها الشعورية” التي تنحدر من “التقاليد الروحية” كامنة كانت أو معلنة؛ حيث الواضح أن مبدآ الإيثار والإنصاف -بوصفهما آخر متوصلات الفكر الطبيعاني الراهن كأصل مبدئي لكل سلوكات الإنسان-، تبقى هي الأخرى محكومة بما قبلها من تصنيفات للكائنات الحية:
1- الكائنات الحية ما قبل الاجتماعية
2- الكائنات الحية الاجتماعية
3- الكائنات الحية ما فوق الاجتماعية
بوصفه التصنيف الذي يتجاوز التصرف البشري ممتدا بما لا يقاس في التاريخ الطبيعي هو الآخر، وبما يجعل من مبدأي الإيثار والإنصاف أصلان نسبيان للسلوك الإنساني من منظور طبيعاني.
بعد استقصاء الأصلين البيئي والسلوكي للبشر، وتأكيد نشأتهما التي تتجاوز التصرف البشري نظريا وعمليا، يجعل من الاستسلام للقصور أمرا حتميا؛ والانتهاء إلى الحتمية يقتضي ارتدادا مضاعفا للعقل والإرادة الإنسانيين؛ ليس ارتدادا عكسيا فهو بغير حاجة إلى اقتفاء أثر نفسه، إنما هو ارتداد عمودي إلى التاريخ الروحي، وذلك لعلة وحيدة وهي كونه المنفذ الوحيد المخرج من الحتميات، ذلك أن ما يملأ فراغ المجاهيل البيئة والسلوكية هو التاريخ الروحي ومخرجاته الاستقصائية عن طريقين:
أ- التجارب الروحية الفردية
ب- خلاصة التقاليد الروحية
بحيث تكون الثانية دليلا على الأولى:
1- التجارب الروحية الفردية: ينتهي الإنسان في مخاضه الحياتي اليومي إلى ما يستكمل نقصه البشري، وذلك بالارتداد إلى القوة العليا بالتوسل لها ضعفا وقلة حيلة واستقواء بها شعورا وحقيقة، حيث يلتقي الآني بالبعدي والقبلي في صِلات تقطع الإنسان عن الوجود الأرضي وكل اعتباراته المادية والمعنوية.
2- خلاصة التقاليد الروحية: لا يمكن للفرد أن يقيم صلة حقيقة ومتينة بالمتعالي في حال انقطاعه عن تقليد روحي راسخ يصدر من عمق التاريخ، يعطي الأشكال التعبدية والشعائرية للفرد، ويصهرها في الصيغة الجماعية، بحيث تغدو التقاليد الروحية الجماعية متفاعلة مع التجارب الروحية الفردية، تماما كما تتفاعل البيئة المادية والاجتماعية مع تفضيلات الفاعل الاجتماعي لأفعاله، بل هي ستغدو مكملا للفعل الاجتماعي الذي سيشكل من عناصر أربع:
1- البيئة المادية للفعل
2- المفاضلة بين الأفعال وأهدافها
3- التجربة الروحية للفاعل
4- التقليد الروحي المؤطر لتجربة الفرد
والخامسة هي استحالة السلوك الاجتماعي إلى فعل حقيقي بما حوى من معايير بيئية وتفاضلية أحيلت في النهاية إلى معايير نابعة تستند إلى معطى التجربة الروحية الفردية والجماعية على ضوء الممكن في البيئة والمتوفر من الخيارات.
وعليه يغدو مصدر الفعل الاجتماعي مرتبطا بالبيئة الاجتماعية والإرادة الإنسانية المحكومة بخيارات الظرف المحدودة، وما تقدّم عليها من معطيات تشكلت بتعقد خارج شهود الانسان واختياره وتحكمه، ومرتبطا من جهة أخرى بتجربته الروحية التي تصوغ إرادته الخام والتي يؤطرها التقليد الروحي الجماعي الموروث. والله أعلم
د. محمد عبد النور
2022/07/20