ملخص المقال العلمي المحكّم المنشور على مجلة “المخاطبات” الدولية (*)
البداية كانت من غزو البيولوجيا لميادين العلوم الاجتماعية خاصة بعد صدور كتاب إدوارد ولسون “Biological Sociology” 1975، وذلك بعد تمانع وتمنّع العلوم الاجتماعية من الالتحام بعلوم الأحياء، وهو ما قرّره سي بي سنو عندما قال بأن عبور المحيطات أسهل من التقاء المثقفين الأدبيين بالعلماء المختصين.
ولقد تمثل المانع المباشر في: 1- استبعاد تفسير السلوك البشري بيولوجيا، 2- اتجاه البنيوية نحو بحث التشابهات بعكس الدراوينية التي سعت إلى اكتشاف الفوارق، حيث أن ترسيخا البنيوية لمنهجها يكون بنفي الفوارق والكلام عن بنى كامنة محرّكة للجماعات الإنسانية أما الداروينية فهي مع إقرارها بكونية الخلق والفطرة الإنسانية إلا أنها تبحث في الفوارق لإحالتها إلى عوامل بيئية وجغرافية، 3- الفهم القاصر للداروينية من طرف المشتغلين في حقول الاجتماعيات خاصة في كلامها عن التصميم الأناني للفرد البشري، وهو ما سيتضح أنه فهم مغلوط للداروينية.
التعاون والتعاطف هو مبدأ الاجتماع الإنساني وهو نفسه مبدأ الأخلاق وعلم الأخلاق، على أن الاجتماع الإنساني محكوم أيضا بالتنافس وصراع الإرادات، ذلك ما يجعل من المعايير الأخلاقية أمرا مرنا ومتغيرا، ذلك ما دفع برايشنباخ إلى نفي وجود حقيقة نهائية للأخلاق سواء من منظور تحركها وفق منفعة الإنسان أو من منظور التكيف التطوري.
إن نفي وجود حقيقة أخلاقية نهائية هو تحطيم للوهم العقلاني الذي يربط الأخلاق بالعقل، والذي امتد من أفلاطون إلى كانط، ويعتبر هيوم اول من بدأ بهدم الوهم عندما تحدث عن تبعية العقل للعواطف.
رأى دارون أن كل مثال عن التعاون بين المخلوقات الحية لابد وأن يتعرض للاختبار ضمن حتمية التنافس في المجال الاجتماعي، وبالتالي فإن النفس البشرية حمّلت خلال تاريخها بالمشاعر الأخلاقية، أي أنها تمتلك تصميما أخلاقيا تطور عبر التكيف ضمن الزمن التطوري، وهذا يؤكد أن ليس للأخلاق تحديد نهائي.
حاولت الداروينية الاجتماعية عن طريق سبنسر إعطاء فهم محدد لنظرية التطور رفضه دارون نفسه، لقد جعل سبنسر من البقاء الهدف الأسمى للأخلاق، وهو ما يعني أن مساعدة الضعفاء والتعاون مع المنافسين مثلا أعمال غير أخلاقية في نظر سبنسر، كما جعل أتباع سبنسر من الأخلاق علية أساسها الانتخاب الطبيعي، وهذا ما يجعل من أحكامهم واقعية لا أخلاقية، بينما الأخلاق ليست وصفا لواقع لكنها تحديد لمعايير وتقييمات لما ينبغي أن يكون، فالفجوة معلومة وواضحة بين (ما ينبغي أن يكون) و(الحال القائمة).
والقول بأن الأخلاق قد نشأت بفعل تفضيلات تطورت عبر الزمن، وأن ذلك مرتبط بمعطى تشريحي وفيزيولوجي قد يعطي بعض الحل لكنه ليس نهائيا، خاصة وأن تفضيلاتنا قد تتناقض بين مزاعم العدالة والمساواة والنفور الطبيعي من الغرباء.
القيم حسب روزنبيرغ هي استجابات انفعالية نحو أحداث العالم، ولا وجود ليم منعزلة خارج الذات الإنسانية، وبالتالي فالقيم تنتخب انتخابا خلال تاريخها التطوري، وجوهر ما تبحثه فلسفة الأخلاق هو اختلاف العواطف الأخلاقية بين الثقافات حتى بلغت حد إنكار وجود طبيعة أخلاقية واحدة وثابتة.
وعلى ذلك فإن نفي وجود حالة مثالية للأخلاق لا يتعد نفي ثباتها وتأكيد تطورها دون إنكار آلي لإمكان وجود ذات علوية، وذلك ما يتفق مع رؤية هايت في أن الدين –بوصفه مصدرا رئيسيا للأخلاق- هو في جوهره تكيف ارتقائي غايته ربط الجماات ومساعدتها على إنشاء أخلاق مشتركة للجماعات.
ويعتبر إكارت فولاند أن هدف المعايير الأخلاقية هو تحقيق مبدأ تعويق المصلحة الذاتية للأفراد، بما هي مقاومة لغريزة المصلحة الفردية من طرف الجماعة، لذلك فهي تفرض معايير لحماية التضامن الاجتماعي والقضاء على مشكلة الراكب المجاني.
ولما كانت سمة الأخلاق الأساسية هي الجماعية فإن ذلك يجعل المبدأ الأخلاقي دائما في مأزق انطلاقا من حقيقة الفارق الزمني بين تقديم خدمة التعاون أو الإيثار وانتظار مقابلها، ذلك أن مكاسب التعاون أبطأ دائما من مكاسب الأنانية الآنية ما يجعل المعايير الأخلاقية داخل الجماعة معرضة لخطر التخريب الانتهازي.
وانطلاقا من زعم دومينيك لا كابرا أننا نعيش في القرن الـ21 لحظة الكشف الحيواني، وذلك استنادا إلى الكشوف اليومية لعلم الايثولوجيا (دراسة سلوك الحيوانات في موائلها الطبيعية) من شأنها أن تزعزع أفهامنا حول طبيعة الحيوانات، بما ينسف الإدراك الدارج لحدود عالم الحيوان بعالم الإنسان؛ من حيث إدراك الحيوان لمعنى العدل وقيمته، إضافة إلى امتلاكها لمشاعر متنوعة فضلا عن تمتعها بدرجة عالية من الذكاء، إضافة إلى مرونتها السلوكية وكذا قدرتها على إقامة علاقات اجتماعية معقدة، وانتهاء إلى عمليها على حفظ توازنها الاجتماعي، مثل:
- قدرة الأسماك على الاستدلال على مكانتها الاجتماعية.
- تخطيط الطيور للوجبات التالية.
- شعور الحيوانات بالحزن لفقد أحد من أفراد عائلتها.
ذلك ما جعل من بعض الباحثين ينتهون إلى القول بأن الاختلاف بين البشر والحيوان هو اختلاف في الدرجة لا في النوع، فلا وجود لفجوة أخلاقية بين البشر وغيرهم من الحيوانات استنادا إلى ما توصلت إليه نظريات على الأحياء، فإذا كانت الأخلاق تطورية فبإمكان الحيوانات أن تتحلى بها على غرار الإنسان.
كما كشف علماء الأحياء أن التقمص الوجداني له أساس عصبي متمركز في العصبونات الانعكاسية والخلايا المغزلية، ما ساعد العلماء على تفسير العلاقة بين المخ والسلوك، فضلا عن ذلك تم التوصل إلى الأساس الآخر للتقمص الوجداني وهو الخلايا المغزلية التي تقع في قشرة مقدمة الجبهة كأداة لمعالجة المشاعر الاجتماعية، وهي ذات دور كبير في تحقيق الترابط الاجتماعي.
والمحصلة هي ان الفارق يكمن في إدراك الوعي الإنساني للخلقية والمواقف الأخلاقية مقابل غريزية السلوك الأخلاقي الحيواني، أي لا وعيه، وعلى ذلك فإن الإنسان أيضا معرض لغياب وعيه عن مكانته الخلقية وأحيانا حتى اختلاط المعايير الخلقية عليه عند دخوله في مواقف غير معهودة أو في مواقف الحيرة الوجودية.
فضلا عن ذلك فإن الإنسان يتميز بقدرة نوعية تجعله كائنا ثقافيا؛ فمن رغم اشتراك البشر مع الرئيسات في 99 بالمائة من المادة الوراثية إلى أن الفارق التطوري النوعي بينه وبين تلك الرئيسات يكشف عن امتلاكه لآلية غير بيولوجية في تطوره نظرا لأن كم التطور الذي حققه لا يقاس بزمن التطور البيولوجي.
حيث يظهر الفارق في التقنيات واللغة والأنظمة الاجتماعية، وتلك الآلية هي آلية الانتقال الاجتماعي الثقافي حسب توماسيللو، والمقصود بها مراكمة التجارب بشكل متميز على مديات متطاولة من جيل إلى آخر وفقا لمبدأ التعديل والتحسين.
وعلى ذلك فالسؤال الذي يبقى مطروحا من أين تأتي الأخلاق مادامت المعرفة ليست مصدرا لها؟ ويترواح الجواب بين الفطرة الطبيعية والتنشئة التربوية، أما بياجيه فيتصور بأن الأخلاق تستبطن استبطانا من طرف الأطفال، وقال بأن الأخلاق هي ذاتية البناء من خلال تجارب الطفل المتكررة، فالأطفال يلتقطون مفهوم العدالة تدريجيا خلال مراحلهم العمرية، مثل تحول اليرقات إلى حشرات.
إن الأطفال إذا حصلوا على تجارب كافية من تداول الأدوار يجعل ذلك منهم مخلوقات أخلاقية قادرة على استخدام الإمكانات لحل المشكلات المتصاعدة في تعقيدها، ولما كانت العقلانية طبيعة إنسانية فإن محور تطور الإنسان هو المحاكمات الأخلاقية، ولقد تشكلت الطبيعة الأخلاقية بفعل الانتقاء الطبيعي لعاملين متزامنين حسب هايت:
- تنافس الأفراد داخل جماعتهم.
- انصهارهم ضمن الجماعة للتنافس.
حيث أكد دارون على أن الجماعات المترابطة تهزم الجماعات المكونة من أفراد أنانيين وهو نفس المنطق الذي يحدث في العالم الحيواني، فقد أثبت دي فال حقيقة أن السعادين تمتلك معظم مداميك البناء النفسي التي يستخدمها البشر لإنشاء نظم أخلاقية ومجتمعات صغيرة، وهي مداميك عاطفية تتضمن مشاعر الشفقة الخوف الغضب والحب؛ وإذا أضفنا ملاحظات توماسيللو حول كيفية تميز الإنسان كانت الأخلق واحدة بين الإنسان والحيوان، إلا أن كينونة الإنسان الثقافية هي التي صنعت الفارق.
(*)- رابط المقال كاملا: https://f24.link/qqXWJ