من التنوير العقلاني إلى الكشف الحيواني (*)
د. محمد عبد النور
تسعى جميع العلوم لاكتشاف مجاهيل الموضوع الذي تدرسه، حيث المعلوم أن مسعى كل علم تحقيق المطابقة بين موضوع العلم وبين تصوره معرفيا، فجوهر العلم هو سعيه إلى تحقيق المطابقة بين الواقع ومعرفة الإنسان عن ذلك الواقع، وذلك من خلال أدوات ومناهج معلومة تساعد على بلوغ مستوى الموضوعية الذي يوصل العقل إلى قدر مقبول من صحة التصور ودقته والتخلي عن الانطباع الذاتي الذي لا يعبر إلا عن الحالة الشعورية للإنسان تجاه الموضوع ولا يعبر حقيقته الفعلية.
أما المفارقة فتكمن في كون العلوم تخضع في تطورها إلى نظريات تؤطر البحوث الجارية داخلها بالضرورة، وأن تلك النظريات خاضعة هي الأخرى للحقب الابستمولوجية التي تعتبر خلاصة تقدّم العقل البشري في كل مرحلة، وعلى ذلك فإن غاية ما يحدثه التقدّم الابستمولوجي في العلوم هو أنه يغير تصور العلوم لموضوعها بشكل جذري؛ وعلى ذلك فإن علم الاجتماع ليس بدعا مما يحدث في بقية العلوم سواء من حيث:
- اتفاق علمائه على موضوعه وما يسعون لاكتشافه من مجاهيل، فكل علماء الاجتماع ومهما بلغ الاختلاف بينهم متفقون على أن المجهول هو الظروف الموضوعية للسلوك الاجتماعي للبشر.
- خضوع العلم الاجتماعي للتقدّم الابستمولوجي من حيث أن القطائع المعرفية المتواصلة في مجال المعرفة البشرية أدت وتؤدي إلى تغير جوهري في تصور المجتمع بوصفه موضوع علم الاجتماع كما سنبينه في التفصيل التالي، مع التنبيه إلى أن العنصر الأول المتمثل في وجه الاتفاق سيتكرس بفضل التطور المعرفي:
- وجه الاتفاق في استكشاف المجهول في المجتمعات:
على اختلاف نظرياتهم اتفق علماء الاجتماع على أن الإنسان غير واع بالسلوكات التي يقوم بها، ومن رغم كونه هو الذي يُقدِم عليها بنفسه دونما إرغام إلا أن علماء الاجتماع يعتبرون أن قوى تتجاوز إدراكه وإرادته تقوم بالتحكم في سلوكاته من حيث الدوافع والظروف والنتائج، لذلك فليس من المبالغة اعتبار مسألة “غُفْلية” السلوك الإنساني(*)، فردا وجماعة، المسلّمة الضمنية التي اتفق عليها السوسيولوجيون بلا استثناء وإن اختلفوا في تقديرهم لمدى الغُفلية تلك.
وعلى ذلك أمكن اعتبار الإنسان غير واع بسلوكه وغير متحكم في جميع تفاصيله مسلّمة محورية في الدراسة العلمية للمجتمع، وكأن علم الاجتماع هنا يأتي بمثابة المتمّم الضروري لوعي الإنسان بسلوكاته والكاشف لملابساتها ونقائصها، ومن ثم فإن المجهولات الرئيسية التي ينطلق منها الباحث الاجتماعي لاستكشافها في دراساته تتعلق بثلاثة أبعاد وهي:
- الدافع القبلي الكامن وراء إقدام الفاعل على سلوكه، حيث يمكن أن يختلف وعي الفاعل المباشر بدافع سلوكه عن الدافع الموضوعي الذي يستكشفه الباحث الاجتماعي.
- الظروف المادية والمعنوية المحيطة بالسلوك أثناء حدوثه، حيث في الغالب لا يشعر الفاعل بالمؤثرات الظرفية التي تتحكم في مسار السلوك وشدته إلى درجة قد تغير المقصد الذي نشأ من أجله الدافع.
- النتائج المباشرة وغير المباشرة التي تتلو السلوك بعد انتهائه، حيث تختلف النتائج المتحققة والناتجة عن السلوك عن تلك التي كان يرجوها الفاعل قبل إقدامه على سلوكه، فضلا عن أن لكل سلوك تداعيات تنعكس بشكل أشمل على ما لم يكن الفاعل يدركه أو يتوقعه.
وعلى ذلك فإن ما يُختلف عليه في البحوث الاجتماعية هو المنهجية المتبعة في استكشاف الأبعاد الثلاث المذكورة، لكن الاختلاف جزئي غير ذو أثر على توجه العلم ومفاهيمه الرئيسة مادام منهج العلم واحد من حيث السعي إلى التعرف إلى مجهولات الواقع الاجتماعي التي لا يستطيع النفاذ إليها إلا الدارس العلمي للمجتمع.
- وجه الاختلاف في تصور المجتمع:
تستند العلوم عبر نظرياتها إلى طبيعة ابستمولوجيا كل مرحلة زمنية(2)، وللإيضاح فإن القصد بالحقب الابستمولوجية يستند إلى إطار أساسي هو إطار المعرفة الحديثة الذي افتتحه ديكارت وركّز دعائمه كانط، حيث أقمت أطروحتي حول الحقب الإبستمولوجية الأربعة للمعرفة الحديثة (3) انطلاقا من عصر التنوير العقلاني إلى اللحظة الراهنة المسمّاة لحظة الكشف الحيواني، وأن تصور المجتمع يتغير جوهريا استنادا طبيعة كل ابستمولوجيا عبر المراحل، تسليما بأن التغير هو في واقع الأمر تقدُّمٌ لا محالة على الأقل فيما يخص المسائل الموضوعية للعلم.
أشير بداية إلى الحقب الابستمولوجية وأثرها على تصور المجتمع في علم الاجتماع جملة ثم أمر إلى التفصيل:
- فلسفة العقل: يقابلها في علم الاجتماع تصور أن جوهر المجتمع هو البنية.
- فلسفة اللغة: يقابلها في علم الاجتماع تصور أن جوهر المجتمع هو التواصل.
- فلسفة العلامات: يقابلها في علم الاجتماع تصور أن جوهر المجتمع هو الرمز.
- الفلسفة الحيوية: يقابلها في علم الاجتماع تصور أن لا جوهر للمجتمع.
بداية من المهم أن نفك الارتباط الزمني بين الابستمولوجيا النظرية الاجتماعية، فليس البحث عرضا كرونولوجيا يتتبع تناسب تطور الابستمولوجيا مع النظريات بقدر ما هو محايثة فينومينولوجية لعلاقة الابستمولوجيا بالسوسيولوجيا.
- فلسفة العقل ومقولة البنية جوهرا للمجتمع:
فالمعلوم أن البنيوية كنظرية ظهرت بشكل متأخر جدا عن زمن فلسفة التنوير، إلا أنها كانت الترجمة الأمينة لها من حيث كون البنيوية اكتمال متأخر للنظرية الاجتماعية الكلاسيكية خاصة عند دوركايم وماركس حيث تمتد جذور البنيوية في النظريتين الوضعية والمادية خاصة.
إن اكتشاف العقل في عهد التنوير انعكس على علم الاجتماع من حيث كون توظيف قدرات العقل انعكس علميا في الممارسة البحثية من خلال التمييز بين: أ- الباحث الاجتماعي باعتباره العارف بمنهجه والمكتشف لمجاهيل الواقع الاجتماعي بفضل الأدوات والآليات التي يمتلكها دون غيره، ب- المبحوث المتمثل في المجتمع باعتباره غُفلا غير محيط بحيثيات سلوكاته وأبعادها.
ومن ثم تكون البنيوية التي قامت على مقولة موت الإنسان الخيط الذي ربط بين التنوير الذي أعطى للعقل مكانته وفاعليته وبين البنيوية التي جعلت من العقل أداة لكشف استلاب الإنسان وقهره الخفي غير الظاهر، فنكون أمام مفارقة مفادها أن العقل ذاته الذي دافع على نفسه وافتك مكانته أصبح يبكي أطلاله في الحياة الاجتماعية التي غلبتها الصورة والعاطفة، ولم يبق للعقل إلا مكاتب الإدارة البيروقراطية وكراريس البحث العلمي.
- فلسفة اللغة ومقولة التواصل جوهرا للمجتمع:
سعت فلسفة اللغة إلى صياغة لغة مثالية تساعد على تحقيق أكبر قدر من الصحة والدقة في العلم، كما جعلوا من اللغة أداة محورية في الحياة الإنسانية باعتبار تفرّد الإنسان بالكلام، وقد أثّر المسعيان على علماء الاجتماع الذين وجدوا في المنعرج اللغوي وسيلة مهمة في التقدّم بعلمهم فاستفادوا منها في تطوير لغتهم كعلماء وفي الوقت ذاته كوسيلة مساعدة مهمة في تحليل الوقائع الاجتماعية.
ولما كانت اللغة تقوم على مبدأ التواصل الإنساني، وكان المجتمع هو فضاء التنافس والصراع الاجتماعي، كانت اللغة عن طريق التواصل الأداة المحورية في تحقيق الرهانات الفردية والجماعية خاصة عند هابرماس الذي استدخل نظرية أوستن في أفعال الكلام، بينما كان فيتغنشتاين قد أسس لذلك بعد تحوله الفلسفي بإشارته إلى ألعاب اللغة باعتبار اللغة الوسيلة المتاحة للتنافس الرمزي على تحقيق المنافع والمصالح الاجتماعية.
- فلسفة العلامات (علم الوسم) ومقولة الرمز جوهرا للمجتمع:
قادت الفلسفة البراغماتية (النفعية) التي أسسها شارل بيرس إلى ثورة فلسفية جمعت بين أهم بعدين فلسفيين واختزلتهما إلى حدودهما الدنيا، حيث صهرت المثالية والتجريبية في “مفهوم الرمز” بالقطيعة مع ميتافيزيقا الحس والعقل معا وأحالت إلى ميتافيزيقا المنفعة والمصلحة، والتقط هربرت ميد هذه الإضاءة العميقة جاعلا من التفاعل الاجتماعي رمزيا استنادا إلى مقولة أن الإنسان كائن رمزي ومسلما بأن أصل المجتمع الإنساني التنافس على المصالح.
إن أصل الوجود الاجتماعي حسب ميد يكمن في التفاهمات والتعاقدات الضمنية التي تحدث بفضل التفاعل الرمزي بين الناس، فلا يكون الرمز بذلك إلا أداة لتحقق المجتمع بوصفه جملة لا متناهية من التوافقات غير المنطوقة، التوافقات التي لا تفتأ قائمة حتى تهدم ويبنى محلها توافق جديد إلى ما لانهاية.
- الفلسفة الحيوية ومقولة أن لا جوهر للمجتمع:
فتحت مقولة الكائن الرمزي الباب أمام التأمل في إمكانية دخول بقية الكائنات في الكينونة الرمزية وبالتالي إمكان قدرتها على التفاعل الاجتماعي بما يشبه تفاعل الإنسان بالإنسان، وأتاح ذلك استعادة فكرة التطور باعتبارها وحّدت بين العالمين البيولوجي والثقافي، وجعلت من الثقافة التي يختص بها البشر امتدادا للوجود العضوي وتطوره، وأخيرا انتهى الأمر إلى انهيار الحدود بين العوالم الثلاثة المكونة للوجود وهي العالم الفيزيائي والعضوي والثقافي وأن كل واحد منبثق عن الآخر.
واستنادا إلى هذا الرؤية تصبح دراسة التفاعل بين مختلف الكائنات من مهام علم الاجتماع، أي لا يقتصر علم الاجتماع على دراسة الكائن الإنساني فحسب بل أيضا يشار إلى تفاعل الإنسان مع الموجودات الأخرى خاصة الحيوان (ما يسمى بعلم اجتماع التفاعل إنسان-حيوان) وكذا طريقة تعامله مع الوجود العضوي والفيزيائي (ما يسمى بعلم الاجتماع البيئي)، ويكون ذلك طبعا وفقا لمنظور براغماتي غايته البحث عن المنافع والمفاسد الناتجة عن الطريقة التي يتبعها الإنسان في تعامله مع بقية الموجودات.
والمحصلة أنه إذا استعدنا مقولة أن لا جوهر للمجتمع لشرحها فإن ذلك يعني أمرين:
- الأول اعتبار الموجودات وسلوكها في تطور مستمر وذلك من خلال ملاحظة بعض السلوكات التي لم تكن تأتيها من قبل، وهنا من المهم أيضا ملاحظة السلوك الإنساني المستجد أيضا والذي لم يكن يأتيه من قبل، حيث يتطلب الأمر قدرة الباحث على التمييز بين الفعل الإنساني الدارج والمحدث.
- والثاني وينتج عن الأول هو زحزحة الإنسان نفسه عن المركز والانتهاء عن اعتبار نفسه مركز الوجود، وهذا سيفيد في ترسيخ وعي وثقافة متخلّصة من فكرة التنافس وفقا للأيديولوجيات والانتماء العرقي إلى للتنافس وفقا للمصالح الفعلية المشتركة بين جميع الكائنات، وأن هذا الكوكب هو ملك لجميع ما ومن يوجد فيه.
ومن خلال ما تقدّم نخلص إلى أن معاملة الإنسان من طرف علماء الاجتماع ما فتئت تتعمق باتجاه اعتباره كائنا طبيعيا “غُفْلا” في سلوكاته، وبالمقابل يثبت المبحثان الأخلاقي والثقافي بمعية علم سلوك الحيوان “الإيثولوجيا” امتلاك الحيوان لمستوى محدد من الأخلاق والثقافة، وبالتالي نصبح واقفين على أبواب مرحلة ابستمولوجية مختلفة نوعيا عن سابقاتها لكون مضامينها تفرض مراجعة مفهوم الإنسان بالنسبة لبقية الموجودات وبالنسبة لإدراكه وتحكمه في سلوكاته، وهو ماسيفضي إلى مراجعات داخل كل العلوم بخصوص المفاهيم الأساسية المرتبطة بموضوعات بحثها: علوم المادة، علوم الأحياء والعلوم الثقافية.
أما بخصوص الوضع الابستمولوجي الراهن لعلم الاجتماع، فلا نقول أن صورته قد تحددت بقدر ما أن الكثير من الروافد التي تصب في علم الاجتماع: مثل علم النفس والفلسفة وعلم السلوك الحيوان والوسميات (علم العلامات) هي بصدد إعادة التشكل وهو ما سينتهي بنا إلى علم اجتماع مختلف جذريا عن تصوره الكلاسيكي سواء من الناحتين النظرية والتطبيقية خاصة باتجاهه نحو النفعية.
وكذا يتجه أكثر إلى ما تقدمت الإشارة إليه اعتبار المجتمع متحركا في طبيعته، وأن لاجوهر ثابت له، خاصة في قضايا الصراع والمصالح بوصفها المضامين الأساسية المشكلة للحياة الاجتماعية حيث يمكن أن تظهر سلوكات جديدة غير مسبوقة تشكل تطورا في طبيعة الكائن الإنساني وبالتالي تهيؤ الباحثين الاجتماعيين لملاحظتها، فضلا عن ذلك ما يحاوله الكثير من الباحثين اليوم وهو تفسير سلوك الإنسان بيولوجيًا وهو ما سيثبت أي تحول أو تقدم في الطبيعة البشرية وسلوكاتها.
هوامش:
(*)- هذا ملخص المداخلة المقدّمة إلى المؤتمر الحادي عشر للعلوم الاجتماعية والأبحاث الراهنة المقام بفندق بورتو بيللو في أنطاليا/تركيا، من تنظيم جامعة هيتيت وجامعة غازي عثمان باشا وجمعية ترقية العلوم أيام 28 29 30 أكتوبر 2019. عنوان المداخلة: الثابت والمتغير في تاريخ النظرية الاجتماعية.
(1)- المقصود بغُفلية الفعل الإنساني هو اعتبار التصرفات والسلوكات التي يأتيها البشر أفرادا وجماعات تقع خارج نطاق إدراكهم، أي أن الإنسان حين يأتي سلوكا لا يكون محيطا بكل الظروف القبلية، الآنية والبعدية التي تحيط بسلوكه ولا يمكنه أيضا التحكم فيها.
(2)- المقصود بالابستمولوجيا في هذا السياق تحديدا فلسفة العلم بما هي الإطار الخلفي الذي يجمع إليه العلوم، بمعنى أوضح: إن العلم كعلم “لا يفكّر” في موضوعه من حيث هو معاني ذاتية وأفكار تأملية، بقدر ما أن العلم كعلم “يبحث” في موضوعه من حيث هو مجهولات لتصبح بفضل الأدوات والمناهج معلومات مكتشفة، لذلك فإن فلسفة العلم تأتي قبل العلم وبعده ولا تتدخل في صلبه أومضامينه فهي إما توجهه بدايةً، وهو ما نشير إليه بأنه تصور طبيعة الموضوع، أو تأتي في نهايته لتلقي على النتائج الصحيحة والدقيقة للعلم معان ذاتية وأفكار تأملية بالضرورة، وعلى ذلك لا تقلّ فلسفة العلم أهمية عن نتائج العلم لكونها مسؤولة عن تقدم تصور العلوم لموضوعها وكذا استنطاق نتائج العلم الصماء لتلقي عليها اللمسة الإنسانية كمعاني وتأملات.
(3)- ينظر ندوة الخلفية النظرية للبحوث الجامعية، كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية، جامعة غرداية، مارس 2018، ومداخلة د. محمد عبد النور: الابستمولوجيات الأربعة للمعرفة الحديثة. المداخلة منشورة على يوتيوب على صفحة (profnoor algeria) في أربع أجزاء بعنوان: النماذج الأربعة للمعرفة الحديثة.
حقوق كل أنواع الاقتباس محفوظة لموقع الدكتور محمد عبد النور.