ما الذي يجب الانتباه إليه خلال التحولات التاريخية؟

إذا كان لنا أن نعتبر أن التعارضات تشكل أهم مظاهر التحولات التاريخية داخل الجماعات الإنسانية، فإنه علينا أن نعتبرها في الوقت ذاته مظهرا من مظاهر التنافس المستمر داخل الجماعة الواحدة، التنافس الذي سوف لن ينتهي بانتهاء مرحلة التحول، إذ ومن رغم ما ينتج عنه من حالة جديدة فإن التنافس سيستمر ويأخذ أبعادا جديدة كل مرّة.

لذلك فمن المفيد جدا الانتباه إلى أن الذي يحدث بعد المنعرجات التاريخية ليس القضاء على التنافس بقدر ما يتعلق الأمر بحصول تجديد نوعي له من حيث الأشخاص والجماعات وحقول المنافسة وطبيعتها، لذلك كان من الجدير محاولة فهم ما الذي يحصل فعلا بين بداية المنعرج ونهايته، حيث الوعي بذلك قد يختصر الطريق كثيرا، والسؤال البدئي هنا هو حول ماذا تحدث المنافسة؟

التحولات تبدأ بإرادة مبطنة مفادها إعلان المنافسة الفعلية على التسيّد؟ أو من يفرض إرادته على من؟ والواقع أن البشر يستبقون شعورهم الخفي بانفلات الأمور عن السيطرة، سواء سيطرتهم هم أو سيطرة من يدير شؤونهم، بإعلان طوعي وقصدي وواع للتنافس، إلا أن الطوعية والقصدية هنا لا تتجاوز افتعال التنافس الذي كان في مرحلة خمود، بينما يبقى الوعي لا قدرة له على الالمام بجملة الدوافع الكامنة وراء الإقدام على الفعل التغييري.

والواقع أن افتعال التنافس أو إحياءه، لا يحدث إلا بعد سيطرة الخوف على ما يتجاوز مشكلة البقاء إلى مشكلة التسيّد في المجتمع الإنساني، ذلك أن الخوف باعتباره مبدأ التحضر الإنساني لا يخرج عن أن يكون خوفا من الموت والجوع والعراء، بحيث يصبح لا معنى للبقاء في ظل شعور عام بعدم وجود حام يمكن استئناسه، فمما انغرس في وعي الإنسان المدني أنه يضمن الأمن على مستويين:

أ-مستوى سعة الانتشار، حيث ضمان الأمن الفردي يقتضي ضمان الأمن الجماعي.

ب- مستوى دوام استمرار، حيث شموله على الذرية مستقبلا.

وعلى ذلك فإن الاستباق بما هو افتعال للمنافسة قبل حصول الخطر المباشر -الذي يكون بالفعل مس فئة معينة مهما تكن محدودة لكنها تكون كافية لدفع الفئة الأكبر إلى التحرك الاستباقي- هو جوهر الإدراك الغريزي للمصلحة التي تتجاوز الفرد إلى محيطه حيث الجماعة الأكبر، وإلى المستقبل حيث الذرية.

و ذلك معنى أن يصبح تهديد الحياة أمرا ثانويا، مادام الوعي الباطن قد رسخ في نفسه أن السعي إلى السيادة على موارد الحياة أهم من مجرّد البقاء على قيد الحياة، وذلك ما جبل عليه الإنسان، أعني أنه يجد في السعي إلى حفظ الحياة الإنسانية السيدة على نفسها أجدى وأمتع وأكثر جاذبية من السعي لمجرد حفظ الحياة في ظل الخضوع لاستتباع واستعباد، وهذا من حيث الإنّية النابعة من العمق الوجودي التطوري للبشر.

أما من حيث المادة المتنافس عليها فهي منقسمة إلى شكلية ومضمونية:

أ- أما من حيث الشكل: فهو السعي لافتكاك المكانة التي تخوّل التحكم والهيمنة على المقدّرات الواقعة في المساحة التي تضمّ الجماعة الأهلية وبقية الجماعات الأجنبية.

ب- ومن حيث المضمون: المقدّرات أو الثروات بما هي مصدر طاقة الحياة من غذاء وماء وطاقات باطنية تفيد الصناعة والتكنولوجيا ذات العلاقة  بالاكتفاء في الملبس والمسكن وغيرهما.

وهنا أصِل إلى الجواب على سؤال المقال الوارد في العنوان، فما يجب التنبّه إليه وعدم الغفلة عنه هو أن مادة التنافس هي المضامين لا الأشكال.

وعلى ذلك كله فإن الثروة الرئيسة في المضامين المتنافس حولها هي الطاقة الأولى أو “الكفاءات العقلية” التي تنفع في الإرشاد إلى كيفية تصريف كل تلك المقدّرات، بالإحصاء والتخطيط السليم لتوزيع المقدّرات التوزيع الأمثل، وقبل ذلك الاحتياط من تحويل استغلالها إلى جماعات لا تنتمي للمساحة الأهلية، وكذا التحرز من تركزها في يد فئة قليلة.

بعد ذلك سوف لن تكون المادة الشكلية للمنافسة التي هي المكانة إلا تحصيل حاصل، فما يؤدي إلى تحقيق المكانة قد يتغير في طبيعته، فقد تحول مصدر المكانة في أوروبا القرون الوسطى من امتلاك العقارات والاقطاعيات إلى التجارة وحساوة رؤوس الأموال، فالسير نحو طريق المكانة يقتضي إعادة بناء الهرم الاجتماعي مجددا ليقوم على ركائز جديدة.

ذلك أن ما يجب إعادة تأسيسه هو الهيكلة الاجتماعية العامة، بدءا بتقديم الكفاءات الرمزية التي تتكفل بالتفكير في بناء الهرم مجددا ووفق التراتبات الصحيحة، ثم السعي لاستخلاص القيم الرئيسة الحاكمة للجماعة الأهلية باستخراجها من الفسيفساء السياسية الظاهرة واستدعاء غير الظاهرة منها، وأخيرا الحفاظ على الفئات التي حازت السيادة سابقا لتوظيف خبراتها، فهي ماتزال تنطوي على القوة سواء من حيث كفاءتها التي تفتقدها النخب الجديدة، أو من حيث حيازتها للقاعدة الاجتماعية التي لابد أنها ما تزال مرتبطة بها.

ذلك ما يمكن أن يكون الوعي به منذ اللحظة الأولى لأي تحول تاريخي حصانة للسفينة التي تحمل الجميع ضد أي نكوص بكل أنواعه، وهو ما يقتضي حتمية التفاوض مع الجميع والتي يجب أن لا تنقطع ولو للحظة خلال من مرحلة الانعراج منعا لكل تهور واستفراد فردي أو جماعي تكون عاقبته وخيمة. والله أعلم

داخل المقالات
أبريل 2025
د ن ث أرب خ ج س
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
27282930  

الأرشيف

إحصائيات الموقع

167243
اليوم : 125
الأمس : 117
هذا الشهر : 4419
هذا العام : 15955
مشاهدات اليوم : 504
مجموع المشاهدات : 506658
المتواجدون الآن : 1