الحراك الجزائري من منظور اجتماعي

بداية من يُفترض به أن يقدّم تنظيرا للحراك الجاري في الجزائر باعتباره امتداد للحركات الجارية في بقية البلاد العربية؟ وقبل الجواب عن السؤال لابد أن نتوقف عن لفظتي (التنظير) و(الحراك)، وذلك لكونهما اصطلاحان يشيران إلى كونهما معطى نوعي معقّد وليس بالبسيط. فالتنظير هو درجة من تعقّل الحقائق تتجاوز مجرد التفكير والتأمل إلى استقراء لتفاصيل الواقع واستنباط لحقائقه الأساسية، ثم انتهاء إلى صوغها في سياق “استدلالي-تاريخي” موحّد، والغرض من التنظير أن يتحقق أمران هما:

1- استكشاف المضامين الكامنة للحراك الحاصل، أعني ما لا يُعلن عنه النازلون إلى المجال العام في ميادين التجمع والتظاهر.

2- تحديد الأطر التي يجب أن يبقى ضمنها المنتفضون، من حيث التعريف بها لكونها جديدة لتحصيل الوعي بها، و لئلاّ يتم تجاوزها حفاظا على الإمساك بزمام الأمور دون انفلاتها.

أما الحراك فهو سعي الأفراد للتحول من مكانة إلى أخرى داخل إطار الجماعة الأهلية الواحدة، وذلك بتبني أسلوب جديد نوعيا ومؤقت من أجل إحداث النقلة، والحراك بمعناه الإجرائي هنا هو التخلّي عن المكوث بالمنازل الذي يفرّق الجمهور ويشتته، والنزول إلى الميادين العامة لإيصال فكرة واحدة إلى القائمين على الشأن العام ملخّصها أنه يريد المشاركة في تحديد المصير العام للجماعة الأهلية، بحيث لا يجد القائمون على الشأن العام إلا الاستجابة، فتكون الغاية اثنتان:

1- السعي لبناء هيكل جديد لتسيير الشأن العام على المدى القريب بإرساء أشخاص ونظم جديدة للتأسيس لمرحلة جديدة.

2- انتظار النتائج الإيجابية التي تترتب عن ذلك على مستوى الشأن الفردي في المديين المتوسط والطويل.

بعد تحديد المفهومين، أمكننا أن نجيب على سؤال البداية المتعلق بالمفوّض والمخوّل بالتنظير للحراك، فالواضح إذا أن يكون من المشتغلين بالشأن العلمي، ذوو قدرة وكفاءة أكاديمية، وثانيا أصحاب اختصاص بالشأن الاجتماعي، أعني أن مهمة التنظير للحراك ملقاة أساسا على المشتغلين بحقل العلوم الاجتماعية، ومن ثم فيعفى أصحاب الاختصاصات في شؤون العلوم الحية والصمّاء والمجرّدة ولا يكون إسهامهم في الحراك ممكنا إلا بالنضال المباشر على غرار البقية الباقية.

فينحصر دور التنظير عند المشتغلين بالاجتماعيات، والمقصود بها: الاقتصاد، النفس والاجتماع، السياسىة وعلم الإنسان (الانتروبولوجيا)، هذا الأخير الذي يعد الخلفية المنطقية لباقي العلوم أو يجب أن يكون.

فإذا كان دور الاقتصادي والسياسي هو التفكير في كيفيات التحول السلس والإيجابي إلى المرحلة الجديدة، فإن دور الاجتماعي يبقى مركزيا جدا في استنطاق دوافع الفاعلين في الحراك والقصود الرئيسة التي تحكمهم، والبحث الحثيث عن خصوصياتها في كل بلد على حدة، وذلك ما يتيح استكشاف المنطق الذي يستند إليه الحراك، وهو ما سأحاوله هنا منطلقا من تحديدين اثنين هما:

  • الاجتماع الجزائري كنموذج مرجعي: وهو الذي ينطوي على خصوصيات أساسية منها: الوحدة الدينية والتعدد الإثني والقبلي، سعة الجغرافيا مساحة (2382000كلم مربّع) وانفجار ديمغرافي (43 مليون نسمة سنة 2019)، تعدد تضاريسي جمع بين السواحل والسهول والسهوب والصحراء وبالتبع تعدد مناخي، تاريخ حضاري وسياسي تعددي، ونظام سياسي حديث تحول من أحادية اشتراكية سطحية إلى رأسمالية وديمقراطية شكلية، كلها معطيات تجعل تجديد الوحدة الوطنية أمرا بالغ الصعوبة لكنه ليس مستحيلا.

2- اعتماد نظرية “السيمياء العضوية”: وهي باختصار دراسة العلامات التي تستخدمها الكائنات العضوية الحية، ومن بينها الإنسان، لتحقيق الغايات الأساسية لتحافظ على وجودها وتحقق استمرار الحياة، وانتهاء إلى امتلاك زمام أمورها بيدها ومن ثم السعي إلى السيادة على أبناء النوع.

فالحراك هو تجلّ صريح للتناقضات العميقة الموجودة في المجتمع، ومن خصائص الحراك الثوري العلاج الفوري القائم على الحزم، ومن حيث المبدأ لا تختلف طبيعة الحراك عن التناقضات الجزئية التي تحصل بين الأفراد شركاء وزملاء أو حتى داخل العائلة الواحدة… بينما يتميز التناقض الذي يحدث على الساحة الاجتماعية السياسية بأنه حدث نوعي من حيث طبيعته وحجمه، فهو يتجاوز الحس المباشر للأفراد من حيث كون فعلهم الثوري لا ثمرة مباشرة من ورائه، كما أنه يعتبر حدثا كُليا شاملا داخل الجماعة الأهلية التي تحوز منطقا خاصا داخلها لا يشملها إلا هي.

فضلا عن ذلك فإن من خصائص الحراك الاجتماعي السياسي أنه يقوم على دوافع نفسية ثقافية واقتصادية، غايته السعي للتجدّد بعد استنفاذ كل مبررات بقاء البناء السياسي القديم، ذلك أن أي اجتماع إنساني يقوم على بناء سياسي مخصوص، فإن أراد هذا الاجتماع التجدد وجد في طريقه أولا حاجز المنظومة السياسية التي هي آخر ما يتجدد نفسيا وأول ما يتجدّد فعليا، ومعنى ذلك أن الخروج إلى ميادين الاحتجاج تعبير عن تجدد حاصل في النفس الاجتماعية، وأن الانتقال من التجدد النفسي الشعوري إلى التجدد الفعلي يقتضي التجديد النفسي للمؤسسة السياسية كبداية ضرورية.

وهنا أقف لتحري معاني “التجدّد”:

أولا يتضمّن دلالة إرادة تحرير النفس التي تقيّدت شعوريا وقانونيا ضمن مراحل المنظومة التي يراد استبدالها.

ثانيا: يحتوي التجدد في شقّه الثاني على معنى التكيّف مع المحيط.

فإن كانت العلّة المباشرة للتحرك هي سياسية صرفة فإن الدافع الخفي هو سعي للتجدد النفسي الثقافي والاقتصادي كمحفّز غريزي قوامه الحفاظ على البقاء ضمانا للأمن الذاتي وأمن المحيط وأمن الأجيال القادمة، ذلك ما يعزّز خصوصية الحراك الاجتماعي السياسي بأنه تجاوز للحس المادي المباشر إلى الحس الروحي المعنوي المتجاوز للمنفعة المباشرة؛ فالأمر في النهاية متعلّق بمدى يتراوح بين:

 1- الحس المادي المباشر بالخطر تشمل الفئة الأكثر تهميشا داخل المنظومة السياسية الراهنة، وهي قليلة نسبيا لكنها تكشف بشكل عيني عن مدى ترهل المنظومة الحاكمة وعدم كفاءتها.

2- الحس المعنوي غير المباشر بالخطر تشمل الفئة التي تحتل المكانة الوسط في المنظومة ذاتها، عندما تفقد المنظومة السياسية أدوات التناغم والتكامل بين الحاجات الاجتماعية اليومية للأفراد وبين تحقيقها الفعلي.

لكن لما كانت المنظومة السياسية هي التي تشرف على أفراد الجماعة الأهلية خلال مدة أكثر من نصف قرن بالتأطير النفسي والعلمي والأخلاقي والإداري خلال جميع مراحلهم العمرية فكيف استطاع الأفراد الوعي بلا طبيعية المنظومة السياسية؟

إن أول افتراض هو حصول تفاعل بين المجتمع الأهلي والعالم يتجاوز الطبقة السياسية الحاكمة، بمعنى حدوث انفلات في التأطير، بحيث يصبح الافراد يتلقون تكوينا نابعا من منظومات مختلفة تربويا وفكريا وعمليا، ومن جهة أخرى لابدّ من اعتبار الطبيعة البشرية المجبولة على التقييم الذاتي لمكانتها وفقا لمعايير إنية نابعة من المعطى الفطري للأفراد، وارتباط المعطيين بـ:

1- انفلات التأطير في تكوين شخصية الأفراد، بعوامل أهمها التطور التكنولوجي ومخرجات العولمة.

2- المعايير الإنية الفطرية في الشعور باللامساواة، يؤدّي بالناس إلى استحضار حقائق عامة والاتفاق ضمنيا حولها تتمثل في:

أ- الشعور بالغياب عن العالم رمزيا وماديا ومحاولة استعادة الارتباط العضوي به وتجاوز الارتباط الصوري والشكلي، وأننا لو تخيلنا غياب هذا الشعور فإن نتيجته سوف لن تكون أقل من العودة إلى التوحش البدائي أو بعبارة أخرى الخروج من التاريخ.

ب- الشعور باستنزاف المقدّرات، والوعي بالخلل الحاصل بين المقدّرات الطبيعية ومستوى العيش المادي، ما يدفع إلى البحث عن كيفية إعادة التوازن بين المقدّرات التي تنطوي عليها الرقعة الأهلية (الوطن الجغرافي) والمكانة الاقتصادية للفرد داخلها، ولو تخيلنا استمرار الاستنزاف فإنه سيعني فقدان مصادر الطاقة التي تحفظ الحياة بدء من الزراعة والرعي وثروات الباطن و باقي الإمكانات الطبيعية الخام التي تتيحها الأرض مناخيا وتضاريسيا وجيولوجيا.

ج- استعادة موازين القوة وضبطها وفقا لمصالح الأفراد وسلامتهم، وذلك في المدى المتراوح بين تحقيق العدل الفعلي في أروقة المحاكم و تحقيق الأمن الفعلي في الثكنات والمخافر، بحيث تكون كلها أدوات في خدمة الأفراد (المواطنين):

1- داخليا حيث تساوي الحقوق.

2- خارجيا حيث تحقيق مبدأ السيادة الأتم على الذات.

د- استعادة الحريات بما هو الميكانيزم الأساسي للتنافس المؤطَّر داخل الموطن الواحد، فلابد أن المنافسة حقيقة مستمرة بين الأفراد لتحقيق سؤددهم الذاتي، ومن ثم فمن دوافع خروجهم للحراك افتكاك تعادل الفرص بين الجميع، ذلك ما يسمح بظهور الكفاءات الحقيقية في شتى  المجالات والحقول، والانتهاء إلى آليات انتخاب تضمن مبدأ “الكفاءة المناسبة في المكان المناسب”، وهو سييسر كثيرا من مأمورية البحث عن الكفاءات التي ترتقي بالمستوى العام للجماعة الأهلية.

ه- أخيرا وكمحصّلة قيام منظومة حكم جديدة تحمل الشعور الاجتماعي العام الكامن في العمق الشعبي، وهو ما تقدّم ذكره من سعي حقيقي لتحرير الإرادة، وانتهاء إلى التخطيط المستمر لتحقيق تكيف مطرد مع:

1- مقدّرات البيئة المحلية بكل ما تتضمنه من طاقات.

2- تحولات العالم الجيوستراتيجية بكل ما تحوزه من تطور علمي وتقني.

داخل المقالات
أبريل 2025
د ن ث أرب خ ج س
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
27282930  

الأرشيف

إحصائيات الموقع

167251
اليوم : 133
الأمس : 117
هذا الشهر : 4427
هذا العام : 15963
مشاهدات اليوم : 560
مجموع المشاهدات : 506714
المتواجدون الآن : 2