الحراك الجزائري وحرية الأفكار

لا يخفى أن منسوب الحرية المرتفع والمتحقّق في الموجة الأولى من الحراك في الجزائر هو أمر مركزي لكون الحرية هي قطب الرحى في كل ما حدث من هبّة شعبية هي في واقع الأمر ثورة على الذات الاجتماعية للتغيير، لكونها سعي إلى التقدّم في تحقيق السيادة ومغالبة القابلية للتبعية والاستتباع، لذلك فمن الأهمية القصوى الوقوف على مفهوم الحرية ومكانته في الفعل الثوري الحاصل في الجزائر، حيث يمكن علاج موضوع الحرية من ثلاث زوايا أساسية هي:

1- أنها أعظم مكسب من خلاله سيتحدد مستقبل جزائر.

2- أنها أول مكسب معرّض للمصادرة من طرف القوى المتربصة الداخلية والخارجية.

3- أنها أداة ووسيلة إذا لم يحسن الشعب استعمالها انقلبت إلى الضد.

1 – الحرية أعظم مكسب للحراك:

فالحرية في أثرها النهائي هي أن يشارك الجميع في البناء الاجتماعي الجديد للجزائر، حيث الحرية أولا هي حرية التعبير والبوح بالأفكار التي تختمر وتعمل في الأذهان الفردية، ثم تنتهي بفضل إفساح المجال لها إلى حقيقة جماعية من خلال:

1- محاولة الإقناع بها.

2- التحاور بشأنها.

3- تبنيها في القناعات.

4- تحولها في مرحلة إلى برامج ومشاريع محلية وجهوية ووطنية.

وذلك معنى مقولة “أفعال الكلام”، أي أن الوقائع والأحداث التي تعيشها الشعوب إنما مبدؤها الكلام الحر الصادر عن العقول وما يدور في خلد الناس.

ومثال ذلك اعتماد المتظاهرين السلميين في الجزائر على مجرّد الخروج للتعبير عن ما يختلج في نفوسهم بالهتاف والشعارات المرفوعة التي آتت ثمارها الفعلية بما أحدثه من تغييرات أولية على هرم السلطة، فضلا عن الأثر العارم لنشطات التواصل الاجتماعي خاصة المشاهير من الناشطين الذين أصبحوا بأفكارهم سلطة تسطو على توجيه الحراك فضلا عن الآراء الميدانية للمواطنين الذين يبوحون بأفكار ذات وجهة واحدة نحو تغيير شامل في هرم السلطة.

هذا نموذج للمكانة التي يمكن أن تتبوأها حرّية التعبير والرأي، والواقع أن أول مطالب الحراك الضمنية هو رفع سقف الحرية، ذلك أن الرغبة في التحرر الفعلي تتطلب أولا رفع سقف الحرية اختياريا وذاتيا، فالحرية تؤخذ وتفتك ولا تطلب كبقية الأغراض والمطالب.

وهنا تأتي مركزية الحرية في الكينونة الإنسانية، بوصفها أثمن وأعز المكتسبات الرمزية والطبيعية للإنسان، وفي ذات الوقت هي أخطر ما يمكن قمعه في الإنسان، فهي مرتبطة وجوديا بكينونة الإنسان، ومعنى ذلك أن الحجر على حرّية التعبير من طرف أي سلطة هو إخراج للناس من طبائعهم، والحقيقة السيكولوجية تفيد بأن الكبت يؤدي إلى سلوكات مرضية للتعويض عنه، وأن العلاج لا يكون إلا بافتكاك الحرية التي حقيقة صامتة في الضمائر مالم تنطق بها.

2- الحرية أول مكسب معرّض للمصادرة:

هكذا فإن الحرية مرتبطة عضويا باستقلال الإرادة، حيث الحرمان من الحرية يعني تكبيل الإرادة، لذلك فإن الانتفاض لنزع أغلال الإرادة الحرة التي تقدّم أنها نابعة من صلب الكينونة الوجودية للإنسان، ستصطدم بالضرورة بما نشأ من وقائع سياسية ومصالح اقتصادية جرّاء ذلك التكبيل، وهنا تكون كل الشعوب المقموعة في حريتها معرّضة عندما تسعى لاستعادة إنسانيتها الكاملة، أي الحرية، إلى الصدام مع نفسها، وهو ما يتجلى في فعل واحد بمسميات عديدة: الحراك، الانتفاضة أو الثورة.

وأعني بالصدام مع نفسها هو ما يرشح من تضارب الحريات العامة مع المصالح الخاصة التي نتجت من خلال الفساد الذي يقتضي تكميم الأفواه والحجر على الحريات لتحقيق استمرار المصالح الضيقة على حساب المصلحة العامة للشعب، الفساد الذي يكون كبيرا إلى درجة يغرق فيه الجميع إن بالقوة أو بالفعل، بمعنى أن الشعب يكون كلّه قابلا للفساد، وبالتالي فإن ما يدفع الناس إلى الثورة على الفساد هو “الفكرة” الطبيعية التي تسكنهم والتي تترجم بأنها إرادة “الحرية”، أو قل “فكرة الحرية” التي هي مبدأ كل بناء اجتماعي سوي.

فكل البناء الذي يحصل في ظل الفساد، أي في ظل التضارب بين الحرية ومصالح العباد، إنما يكون هشا معرضا للانخرام في كل لحظة، وعلى ذلك فإن الوعي الغريزي للمستفيدين الفعليين من الوضع سيدفعهم بطبيعة الحال إلى  مقاومة التغيير والثورة التي هي في واقع الأمر محاولة من الشعب لإعادة الأمور إلى وضعها الطبيعي، أي إلى الوصل بين الحريات العامة والمصلحة العامة للشعب.

ولن تكون طبعا مقاومة معزولة أو بسيطة بقدر ما تكون مقاومة تستند إلى شبكة من المصالح الداخلية والخارجية خاصة الاقتصادية منها، فضلا عن محاولتها تحييد العامل الديني أو تسخيره في خدمة أصحاب المصالح لكون الفكرة الدينية عامل مفعّل لكل عناصر القوة الأخرى، فإن كانت صحيحة وناصعة أتت على كل ما لا صلة له بالتضامن الاجتماعي وخدمة الآخرين، لأن جوهر الدين كله يقوم على فكرة الإيثار وإنكار الذات وهو ما يتعارض جوهريا مع احتكار المصالح، ومقابل ذلك كله لن يكون للشعب إلا الفكرة التي تتجسد فس الشعارات يحارب بها الفساد ويقاوم بها الطغيان!

لذلك فإن بادي الرأي هو أن القوة المادية هي المنتصرة، لكن انتصارها يراهن على أمر أساسي هو التشويش الفكري على الحراك، فكيف يمكن أن يحدث التشويش؟ وقبل ذلك لماذا نقاوة الفكرة وصفاءها تعتبر سلاحا فتّاكا في وجه أي قوة مادية؟

الفكرة الواضحة في العقول والناصعة في النفوس تكون قوة عارمة تجرف كل من يقف أمامها، فكيف ذلك؟ طبعا الفكرة لا تجسيد مرئي لها، إنما تتجلى في جملة الأفعال والسلوكات التي يأتيها الأفراد.

ففكرة تجديد النظام السياسي جذريا الحاصلة راهنا في الجزائر هي الفكرة الأساسية التي يحوم حولها جمهور الحراك، بينما تتم المقاومة المضادة للفكرة تعمل أساسا على محاولة تلويث الفكرة وتشتيت الاتفاق حولها من خلال طرح بدائل مزيّفة تؤدي إلى تجديد صوري للنظام، والترويج لأفكار جزئية وهامشية، أو ترويع الناس باختلاق فزاعات داعش والفيمينيزم، أو توريط الأشخاص بالمال والفضائح الأخلاقية لابتزازهم بعد ذلك، وغيره كثير مما يؤدي إلى اختراق وحدة الصف الثوري.

لذلك كانت الحصانة الفكرية

1- حصانة نفسية: بتجاوز القابلية للتوريط.

  • حصانة وعي: بتجاوز القابلية للاستغفال.

مبدؤها رفض الولاية الخامسة للرئيس وانتهاء إلى خروج كلي وتام لرجال النظام، فالحراك إذن قد سار بشكل ثابت نحو تحقيق الوصل بين النقطتين، لكن كلما اقترب إلى الهدف الأخير ازدادت الاعتراضات شدّة، وصارت أصعب وأشد من سابقاتها في مواجهة نقاء الفكرة ووحدة الصف، فالفكرة تواجه آلة الإعلام الداخلي والخارجي، فضلا عن الضغوط الكبرى على صانعي القرار وملاّكه، وهنا لابد من القول أن مصير الحراك هو إلى صراع محتوم لكن في أحد شكلين:

1- إما أن ينجح المتربصون داخليا وخارجيا في اختراق الحراك فتتفكك وحدته عدم القدرة على مغالبة التفكيك الداخلي للحراك فيكون القضاء على أهدافه ذاتيا.

2- إما أن ينجح الحراك في الحفاظ على وحدته فينتصر وتتحقق وحدته، وهنا يكون محتوما الدخول في مواجهة مع بقية الأنظمة التي قد تخسر مصالحها بفضل تغيير النظام.

و الاحتمالين قد يمكن تفصيله في مقال مستقل، لكن حسبي هنا أن أبيّن كيف أن “فكرة الحرية” هي سلاح مقاومة فتّاك إذا لم ينفرط عقد وحدته ونصاعته.

3- الحرية أداة و وسيلة قد تضر:

بالعودة إلى تجربة الثورات السياسية في العصر الحديث نجد أن المد الثوري في أوروبا بعد المرحلة الأولى من ثورته قام بمراجعة جذرية لمفهوم الحرية الذي كان يفهمه فهما ساذجا، كان التصور أن من حق الجميع تحقيق رغباته، وهو الأمر الذي أدى إلى فواجع دموية شهدها المجتمع الأوروبي خاصة الفرنسي منه بسبب التصور الساذج للحرية.

فالحرية في المجال السياسي خاصة هي ديمقراطية تعبير فحسب لا يمكن أن تكون ديمقراطية تحقيق رغبات ذاتية، بمعنى آخر أن حرية الملايين يجب أن تتوقف عند حق التعبير الحر فحسب بينما تتولى أجهزة وسيطة نقل رغبات الأفراد والجماعات الصغرى داخل الأوطان إلى التنفيذ عبر آليات الانتخاب والأخذ والرد الجماعي، فتكون الأجهزة الوسيطة هي الحل الذي افترضه هيغل لتحقيق المعادلة الأصعب للمتغيرين الأساسيين في الاجتماع السياسي:

1- حتمية حرية الرأي والتعبير.

2- وحتمية النظام والاستقرار.

لذلك كان من الضرورات المستعجلة للحراك، خاصة وهو يعاني إشكال انتخاب ممثلين، التركيز على كيفية اختزال الجموع إلى تمثليات مكافئة له بشكل موضوعي ضمن مجالس وهيئات انتخابية تكون وظيفتها الأساسية تمثيل المطالب الشعبية ونقلها إلى الهيئات التنفيذية عن طريق الانتخاب ممثلين دون أن تفقد تلك الهيئات صلتها بالجموع.

داخل المقالات
أبريل 2025
د ن ث أرب خ ج س
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
27282930  

الأرشيف

إحصائيات الموقع

167244
اليوم : 126
الأمس : 117
هذا الشهر : 4420
هذا العام : 15956
مشاهدات اليوم : 513
مجموع المشاهدات : 506667
المتواجدون الآن : 2