تأملات بنبوية، الحلقة الثامنة

أسقط بن نبي فكرة هيغل حول الصيرورة الفلسفية للعالم -والتي تعني أن التفكير العقلي إنما لابد آيل إلى مسارات محددة عبر الزمن- على العالم الثقافي معتبرا إياه أنه أيضا يتخذ لنفسه مسارا فعليا ضمن السياقات التاريخية والاجتماعية الفعلية والتي تتمحور حول العوالم الثلاث: أشياء، أشخاص وأفكار باعتبارها مقاييس ثابتة ومتداخلة بحيث تتحدد العلاقة بينهما في كل لحظة، ولما يحصل الارتكاز في لحظة ما على أحدها فإنه يكون مؤشرا على اختلال حاصل في المجتمع، وطغيان أحد العناصر الثلاث على الأخرى ما يعني حدوث إفراط في أحد النشاطات على حساب الأخرى، فكيف يمكن أن نحدد طبيعة العلاقة بينها ضمن المجال الإسلامي الراهن؟

صار جليا أن المجتمع الإسلامي قد فقد حضارته وأنه قد أدرك ذلك، وهو اليوم في مرحلة ما قبل الحضارة، التي تسبق دخول الحضارة، إلا أنه يبدو مواجها لمشكلات ما تعوقه عن الاستئناف، ويحصي بن نبي سببين يحصل غالبا إرجاع تلك الصعوبات إليه هما: 1- الإسلام 2- القومية، فالأول يطلقه المستعمرون لإزاحة تهمة تعليل التخلف بهم، متناسين دور الإسلام في اطلاق شرارة الحضارة الإسلامية، والثاني يطلقه القوميون ممن يريدون تحميل الاستعمار كل شيء وإزاحة تهمة الديماغوجية عنهم، متناسين أن اليمن هي أكثر الدول تخلفا وهي لم تتعرض لأي استعمار، بذلك غاب أي تفسير حقيقي لمشكلة التخلف الحقيقية.

والمشكلة الثانية هي أن ما ميز محاولة النهوض في العالم الإسلام هو عدم قيامها على هندسة واضحة لخطط العمل التي تضمن السير في الطريق الصحيح، “فمثقفو المجتمع الإسلامي لم ينشؤوا في ثقافتهم جهازا للتحليل والنقد إلا ما كان ذا اتجاه تمجيدي يهدف إلى إعلاء قيمة الإسلام” ص78؛ ولعل من المفيد هنا الوقوف للتأمل فيما يكتنف الساعين فعلا لتحقيق النهوض، وهو حضور صفة التبجيل الاعتباطي للدين دون امتلاك منظومة فكرية متكاملة تقوم على التحليل والنقد، وهو ما نراه حاضرا بقوة إلى يومنا هذا، رغم التقدّم في الزمن وتوفر الوسائل المادية والمعنوية لذلك، فلا زالت “عقدة الانتظار” تشكل عثرة روحية أمام اندفاع المثقف نحو البناء الإبداعي للمناهج التي تشكل جوهر التخطيط، وأقصد بالانتظار انتظار المخلّص أو المخلّصين، بما هو الوجه الآخر للتبجيل الاعتباطي للثرات الأهلي الخالي من الذهنية السببية الدقيقة في إحصاء التخلف والتقدّم، فرَضِيَ بما جاء به الماضي وتعلّق به، ما أدى إلى استصحاب نفس العلل الذاتية على مرّ الزمن، فعوضا عن الدرس والتحصيل ذي الغاية الواضحة والمحددة تجد المثقف ذي النية الطيبة متخذا موقف المتتبع الراصد للأفكار بدل أن يكون منتجا لها، متابع لمواقع التواصل الاجتماعي عزوف عن التفاعل مع الحاصل العلمي، وحتى إن كلّف نفسه عناء التحصيل العلمي فإنه من الصعب أن تجد ذلك يستحيل إلى توظيفات ذكية ومبدعة في سبيل إيضاح الطريق أمام الحاكم أو الجمهور التائهين في محيطات التثاقف والعولمة.

إضافة إلى عدم إدراك الحاكم لضرورة إنشاء أجهزة المتابعة والرصد العلميين، ومن ثم عدم إقباله على الاستثمار في العقل العلمي والذوق الفني، وبالتبع تدهور مكانة العاملين في الحقول الثقافية والإبداعية داخل المنظومة الاجتماعية، وإن وجد ذلك فيكون ضمن أطر ومبادرات ذاتية لا تلبث أن تختفي أمام عدم تماسك الأفكار الذي يميز المجتمع المسلم، لذلك فما من بدّ في أن يحصل التلاحم بين المبادرات الذاتية وتأطيرها الرسمي ضمن المجال الاجتماعي العام لتحصل على المكانة اللائقة بها وتحدث الأثر المطلوب في التحرير والتنوير، التحرير الروحي بشكل تدريجي من التبعية والانبهار بالآخر وسيطرة ذهنية احتقار واستصغار الذات وكل ما يصدر من الثقافة الأهلية، والتنوير بالخطط الضرورية الفاعلة لتجاوز المعوقات من خلال متابعة الحاصل العلمي كونيا.

وهنا نصل إلى تفسير مقول أن مشكلات الحضارة الإسلامية هي في الوقت ذاته مشكلات البشرية الراهنة، ذلك أن علاج الأزمة الإسلامية يقتضي علاج الأزمة الإنسانية، وذلك ما يعني أن شرط التنوير هو انتقال المثقف الأهلي إلى تبني أعلى طيف هوياتي وهو الطيف الإنساني، ومن ثم لم يكن مجرد تشهٍّ القول بضرورة متابعة المنتج الفكري الإنساني، ذلك أنه في إحدى نقاط تقدّمه سيحصل الكشف وبأوضح صورة عن مكامن خلل المجتمع الإسلامي وهو ما سينتج عنه بالضرورة تحديد معالم طريق المستقبل للبشرية عامة ليس فقط من خلال المسلمين إنما بمساهمة وتعاون الجميع.

إن عدم تماسك الأفكار في المجتمع الإسلامي مصدره طغيان الشيئية والشخصانية على حاضر الثقافة، ذلك الذي ينعكس على أربعة مجالات أساسية هي: 1- الصعيد النفسي 2- الصعيد الاجتماعي، 3- الصعيد الفكري، 4- الصعيد السياسي. والتي تستمد مشكلاتها كلها من اختلال عالم الأخلاق.

فعندما تحتل الأشياء محور العالم الأخلاقي تتحول معايير الرفعة والدناءة إلى معايير مادية وظاهرية تعتمد الكم غير النفعي والاعتبارات الاجتماعية الموروثة، وانقلاب الموازين: مثلا يلاحظ بن نبي انتشار عبارة “الحكومة وشعبها” في الأدب السياسي دون أدنى إشكال مطروح، بينما الواضح أنه تعبير مقلوب، والمشكلة أن هذا الانحدار الأخلاقي غير محس ولا يشعر به من سقط فيه، وفضلا عن ذلك نجد تداخل عالم الأشياء بعالم الأشخاص أيضا، حيث ينعكس ضرر الخطأ الذي يرتكبه الشخص الذي أصبح مثلا أعلى –في تمثيل الدين مثلا- على كل الأفراد الذين يمثلهم، بحيث قد ينتهي الأمر ببعض الأفراد إلى رد فعل يصل بهم إلى الردّة، لذلك فقد عمل المبدأ القرآني على تحييد الشخص عن الفكرة بشكل واضح وصريح منطلقا من نبي الإسلام ذاته: {وما محمّد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم}. آل عمران 144

وتنعكس تلك المعايير الأخلاقية المَرضية على باقي الأصعدة، إذ على المستوى الاجتماعي يهيمن تطور فوضوي (أنتروبيا) يقوم على تبديد الوسائل وغياب الفاعلية أو ما يسميه بن نبي في مواضع أخرى بالتكديس وتبديد الجهود والأوقات فيما لا ينعكس إصلاحا للأوضاع ولا رفاها على المجتمع وأفراده، وبنفس المنطق أيضا نجد الصعيد الفكري يعاني من المظهرية والكم حين يتركّز تأهيل الأعمال البحثية والدراسات العلمية على معايير ظاهرية، بحيث لا يؤهل بحث ما إذا لم يتجاوز كذا من عدد الكلمات أو كذا من المراجع والتهميشات، دونما اعتبار حقيقي للجانب الكيفي والإضافة المعرفية المقدّمة فتحصل التسوية بين الأعمال التي تستحق والأعمال التي لا تستحق، فكيف يمكن أن يحصل تقييم فعلي للأفكار التي تشكل أساس كل تغيير إيجابي؟

أما على الصعيد السياسي فينعكس اختلال المعايير الأخلاقية في تشريعات تركّز اهتماماتها على توفير الظروف المثلى للاستثمار الأجنبي من جهة، ومن جهة أخرى ينتهي الأمر بإنجاز نظام ضريبي تفصيلي مرهق لكاهل المواطنين، ذلك الذي لا يؤدي في مجموعه إلا إلى شلل لكل أوجه النشاط الفردي وفقدان الدافعية…

وأخيرا فإن الخلل الأخلاقي يظهر في المثقف، أولا بوصفه أقل الناس عناية بمفهوم القيمة الاجتماعية للأفكار، ذلك أن انقلاب المعايير يظهر في تكريس نفسه لخدمة شيء أو شخص ما (استصنام) أيا كان مجاله ديني، سياسي اجتماعي أو اقتصادي… بدلا من أن يكرّس نفسه لخدمة بعض الأفكار، فغياب معيار فاعلية الأفكار عند المثقف يؤدي إلى تضخّم الأفكار لديه في مقابل غياب تام لمعيار الفاعلية، وهنا يحصل الفارق بين المثقف المتحضر الذي يتكيّف مع فقدانه دوافع الحياة بالبحث عن دوافع جديدة في عوالم مهمشة أو مغمورة أو يكرس طاقته في الدفاع العقائدي عن بعض ما يؤمن به فكريا أوسياسيا، فإن المثقف في العالم الإسلامي نجده فاقدا للتكيف أصلا منكفئا على أفكار تشربها من الكتب يسعى من خلالها لتحقيق الطغيان من خلال مواقف تبدو كاريكاتورية، مثل ذلك المحاضر الذي عوضا عن أن يقطف النبتة الموجودة بفناء الكلية ليقرب الشرح للطلاب فإننا نجده يبحث عنها في الكتاب، بينما هي موجودة تحت نافذة قاعة التدريس. ص 84

داخل مالك بن نبي
أبريل 2025
د ن ث أرب خ ج س
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
27282930  

الأرشيف

إحصائيات الموقع

167250
اليوم : 132
الأمس : 117
هذا الشهر : 4426
هذا العام : 15962
مشاهدات اليوم : 549
مجموع المشاهدات : 506703
المتواجدون الآن : 2