مات سكان القارة الأمريكية الأصليين على الفراش جراء الجراثيم التي نقلها الأوروبيون الغزاة إليهم بأكثر مما ماتوا في المعارك والحروب؛ لقد دمرت تلك الجراثيم مقاومة الهنود بعد موت معظمهم من المرض الذي لم يستثن قادتهم، فضعفت معنوياتهم، لقد كان وباء الجدري الذي نقله جندي إسباني العامل الحاسم الذي أدى إلى هزيمة الأزتك المكسيكيين، وهو ما أحدث خطبا عظيما تمثل في انخفاض عدد السكان من 20 مليون إلى 1.6 مليون! كذلك تسبب غزو الإسبان للإنكا في بيرو في موت أغلبهم بسبب الجدري المنتقل إليهم من الغزاة أيضا، ذلك ما جعل أقل من مائتي جندي يغزون شعب الإنكا بكامله وينجحون في غزوه.
وعلى المنوال نفسه حصل غزو الإسبان لأمريكا الشمالية، الولايات المتحدة اليوم، لقد كان الهنود الحمر يقطنونها كأغلبية ساحقة، إلا أن استباق الإسبان لجراثيمهم كخط هجوم أمامي للغزو قام بتسهيل مأمورية الغزو على الإسبان الذين افتتحوا غزو شمال أمريكا من منطقة وادي المسيسيبي جنوبا عبر قرى مهجورة بسبب موت أهلها بالأوبئة، ويفترض دياموند أن كثيرا من المجتمعات الهندية التي تقطن تلال المسيسيبي كانت مزدهرة عند وصول كولومبس لأول مرة لكنها انهارت بفعل “ربما” مرض قضى عليها بين المرحلتين الأولى والثانية للغزو الأوروبي. (دياموند، 297 299).
ينتقد دياموند المغالطة التي تُلقَّن لتلاميذ المدارس الأمريكية وهي أن أغلب الأراضي الأمريكية لم تكن مستعمرة من طرف السكان الأصليين بادعاء أن عددهم لم يتجاوز المليون نسمة، وذلك في إطار شرعنة الغزو وتطبيعه للأجيال، ويؤكد المؤلف أن الحقيقة هي أن عددهم بلغ عشرين مليون نسمة، لكن أن انحدارا حصل في عدد السكان بعد غزوة كولومبس الأولى لأمريكا بلغ نسبة 95 بالمائة، فالعامل الرئيسي الذي أباد الهنود هي الجراثيم القادمة من أوروبا، والتي جلبت أمراضا تعاقبت على الإتيان على الهنود وهي: الجدري الحصبة الانفلونزا التيفوس كما شارك في القتل أمراض الدفتيريا والملاريا والتهاب النكاف، السعال الديكي والسل والحمى الصفراء، فكان الغزو الجرثومي غير المقصود يسير في اتجاه واحد من أوروبا إلى أمريكا ولم يحصل العكس، باستثناء السفلس المختلف حول مصدره الجغرافي، (دياموند، 299 300).
إن عدم تحول مناطق الأنديز وأمريكا الوسطى والمسيسيبي إلى مناطق مراكمة للميكروبات بعكس ما حصل في منطقة: أوروبا، شمال إفريقيا والصين هو كون الأخيرة ارتبطت بخط تجاري سريع وحيوي فيما بينها، بينما لم يحدث أن انغمست المناطق الثلاث الأولى في حركة تجارية تسبب ازدحاما منتجا للأوبئة، إضافة إلى كون الأمريكيين الأصليين لم يدجّنوا إلا القليل من الحيوانات، وهذا يعود إلى ندرة الأسلاف البرية في الأمريكيتين، وذلك لانقراضها منذ نهاية العصور الجليدية، (دياموند، 300 301).
وبالمقابل فإن أوبئة وُجِدت في آسيا الاستوائية وإفريقيا وأستراليا كانت تنتظر الغزاة الأوروبيين، مثما فعلت الملاريا في جنوب شرق آسيا والتي أدت دور العقبة الكأداء أمام استعمار أوروبا للمناطق الاستوائية، إذ بفضلها تأخر تقاسم معظم إفريقيا وغينيا الجديدة 400 عام عن زمن تقاسم أمريكا.
أخيرا، إن القوة العسكرية والتقنية والسياسية للأوربيين الغزاة ليست وحدها التي كفلت لهم القيام مقام الشعوب الأمريكية الأصلية ذات الأعداد الكبيرة لولا “الهدية الشريرة” التي قدّمها الأوروبيون لتلك الشعوب، والتي تمثلت في الجراثيم التي تطورت من العلاقة الحميمة والطويلة للأوروبيين مع حيواناتهم الداجنة، (دياموند، 302 303).