عالم مابعد أمريكا عند هنتنغتون

hadaraatاعتبر البعض أطروحة هنتنغتون مجرد دعاية سياسية تخدم مصالح الولايات المتحدة، إلا أن الاطلاع الكافي على أطروحته الواردة في كتابه الأشهر "صراع الحضارات" يكشف عن أنها محاولة غير منبتّة عن تاريخ العلاقات الدولية بل هي متأصلة فيها ومتجذرة تقرأ الحدث بعين فاحصة وشمولية، فإذا كان من غير الوارد نفي سعي هنتنغتون من خلال أطروحته لخدمة الصالح الأمريكي كأي مواطن يسعى لخدمة مصالح بلده، فإنه لا يعقل أن يتم الحكم جملة بأنها مجرد دعاية سياسية فهي أبعد عن الدعاية وأقرب إلى "براديغم جديد" في العلاقات الدولية هو ما نعيشه راهنا؛ هذا الذي عايناه خلال الاطلاع على أهم أجزاء الأطروحة ووجدنا فيه وجهة نظر لا غنى عنها في تحليل الأوضاع الراهنة عالميا وهو ما سنحاول بسطه في هذا العرض للجزأ الأول من كتاب صراع الحضارات والمتعلق بأفول مرحلة وظهور مرحلة جديدة مختلفة نوعيا نعيش تداعياتها بشكل جلي لا غبار عليه.

لقد جعلت الحرب الباردة الصراع ثنائيا بين قوتين رئيسيتين أُقحمت فيه كل دول العالم، لكن وبانتهائها لم تعد الفُروق المميزة بين الدول فروقا أيديولوجية ترتبط بالأفكار الحديثة التي أسسها بعض الفلاسفة والمفكرين والتي قامت على أساسها نظم سياسية واقتصادية، بل صارت فروقا ثقافية تقوم على أساس انتماءات شعوب العالم دينيا وعرقيا خاصة. لذلك استعاد سؤال الهوية مكانته بعد أن كان مغيبا تحت ركام الأيديولوجيات المتصارعة، والهوية هنا هي هوية تعود إلى الماضي والتاريخ وتبحث فيه عن الأصول والجذور الثقافية والعرقية، وصار الناس يُعرّفون أنفسهم من خلال النسب والدين واللغة والتاريخ والقيم والعادات، ويحاولون بعد ذلك مطابقة أنفسهم مع بقية الشعوب التي تتناسب مع تلك المكونات في واحد أو أكثر، وصار الناس يبحثون عن مصالحهم والحفاظ عليها بناء على تلك الانتماءات الثقافية، من حيث تشكيل الولاءات والأحلاف، ولم تعد الصراعات  الرئيسية مبنية على أساس طبقي، ولا بين الأغنياء والفقراء أو بين جماعات اقتصادية أخرى. إلا أن الثابت الذي لم يتغير  بعد نهاية الحرب الباردة كان الدولة الوطنية، التي تأسست في العصر الحديث وبقيت هي اللاعب الأهم في تحديد وتوزيع قواعد القوة والثروة التي صارت مبنية على الانتماءات الثقافية، وبدلا من الكتلتين المتصارعتين في الحرب الباردة، صار العالم منقسما إلى سبعة أقسام رئيسة هي: 1- الحضارة الصينية، 2- الحضارة اليابانية، 3- الحضارة الهندية، 4- الحضارة الإسلامية، 5- الحضارة الغربية، 6- الحضارة الأمريكو-لاتينية، 7- الحضارة الإفريقية، ويضيف هنري كيسنجر ، 8- الحضارة الروسية. ومن ثم فإن هذا التقسيم الثقافي-الحضاري للعالم هو الذي سيحدد الصراعات المقبلة في العالم، وسيجعل منها –أي الصراعات- أكثر قابلية للاشتعال، ففي عالم مابعد الحرب الباردة ستصبح الثقافة القوة الأساسية التي يقوم عليها اتحاد الشعوب وتفرقها، بعض الشعوب التي فصلت بينها الأيديولوجيات جمعتها الثقافة الواحدة مثل الألمانيتين والكوريتين. أما المجتمعات التي جمعت بينها الأيديولوجيات فقد فرقت بينها الثقافة مثل الاتحاد السوفياتي (استقلال الجمهوريات)  ويوغسلافيا (الحرب العرقية)، كما أن المنظمات الدولية صارت تتعامل مع تكتلات ذات أساس ثقافي مثل الاتحاد الأوروبي، والتي هي أكثر فاعلية من الدول أو التكتلات التي تحاول تجاوز ثقافاتها. إن ما تقدّم يكشف عن تهافت نظرية فرانسيس فوكوياما التي ترى بأن نهاية الحرب الباردة هي نهاية للصراع في العالم وظهور نموذج كوني موحد ومنسجم، وأن الديمقراطية الليبرالية قد انتصرت، وسيكرس المستقبل لحل المشكلات الاقتصادية والفنية التي تعترض حياة الإنسان، وهو ذات الأمر الذي تنبأ به القادة والمفكرون، خاصة بعد ظهور ملامح كثيرة منها: سقوط حائط برلين، تهاوي الأنظمة الشيوعية، الانهماك في إبرام عقود الشراكات الاقتصادية واتفاقيات السلام، وإعلان النظام العالمي الجديد، فظن الجميع أنه لم تعد هناك حاجة إلى الحرب. لكن في الوقت الذي ظهرت فيه توقعات بعالم واحد ينهي الصراعات، إلا أن الناس كان لديهم دائما ميل إلى التفكير في عالمين يغريهم بتقسيم بعضهم بعضا إلى "نحن" و"هم"، مثل تقسيمات: الجماعة المفضلة والجماعات الأخرى، الحضارة والبربرية، كما دأب الباحثون على تقسيمات الشرق والغرب، الشمال والجنوب، المركز والأطراف، والتقسيم الإسلامي التقليدي "دار السلام" و"دار الحرب"، وكان ذروة التقسيمات هي تقسيم باحثين أمريكيين العالم إلى مناطق سلام ومناطق اضطراب، فضلا عن تصنيف الدول إلى متقدمة ومتخلفة.

1- تقسيمات عالم مابعد الحرب الباردة وأسسها

إذا استبعدنا إمكان قيام حرب عالمية طبقية بين الفقراء والأغنياء (كما تنبأ ماركس ونادى: يا عمال العمال اتحدوا !) في ذات الوقت الذي استبعدنا فيه عالما يكون سعيدا ومتآلفا (كما نظّر له فرانسيس فوكوياما في نهاية التاريخ والإنسان الأخير)، فما الذي يمكن أن يحصل في المستقبل؟ التقسيم الأولي الوارد يتمثل في فصل الغرب عن بقية العالم، أي الكلام عن الغرب والآخرين، لكن الظاهر أن الآخرين يبدون هم أيضا متمايزين جدا، وهو على درجة كبيرة من التعقيد خاصة في مسألة العلاقات بين الدول التي تتحكم فيها:

  • الدّول بوصفها أنظمة تحكم حدود رقعة جغرافية ولها الغلبة عليها، فلا مكانة لأي كيان لا يمثل الدولة. (تظهر في القبول المتأخر لفلسطين كدولة معترف بها الأمم المتحدة و كذا إشكالية تمثيل الثورة السورية)
  • إن أهم شيء بالنسبة لكل الدول هو دعم قوتها أمام الدول الأخرى، إما بزيادة قوتها وإما بالتحالف مع دول أخرى. (السباق النووي بين الهند وباكستان، إيران وتركيا حاليا)

لذلك كان لابد على كل دولة: 1- الاحتفاظ بالجيوش، 2- ممارسة الدبلوماسية والتفاوض، 3- خوض الحروب، 4- التعامل مع المنظمات الدولية، 5- تقوم بالإنتاج والتجارة وتتحكم فيهما، وعلى هذا الأساس صارت الوحدة الأساسية للتقسيم العالمي هو الدولة، بحيث نكون هنا أمام كيانين للدولة الأول قانوني تكفله الهيمنة على رقعة جغرافية وسيادة داخلية وخارجية ومؤسسات وعلم وعملة… إلخ، وكيان ثقافي يحدده الانتماء الديني والعرقي والتقاليد… إلخ. والكيان القانوني للدولة يقوم على القوة قبل كل شيء، لكن وفي مرتبة شبه موازية يأتي تأثير القيم الثقافية والمؤسسية على كيفية تحديد الدولة لمصالحها وخياراتها، إضافة إلى أن قيم الدول تتأسس في إطار من التوازن بين المؤسسات المحلية (قانون الأسرة في البلدان الإسلامية) وكذا المؤسسات الدولية كذلك (تحكم البنك الدولي في العملات الوطنية). في عالم ما بعد الحرب الباردة أصبحت الدول تحدد مصالحها على أسس ثقافية، إذ غالبا ما تكون متحالفة مع دول تنتمي لثقافتها وتكون في حالة صراع مع دول مختلفة عنها ثقافيا، لذلك وعلى هذا الأساس الثقافي "تَدخُل النوايا" في تحديد المواقف من الدول، ذلك أن الشعوب ورجال الدولة لا يتوقعون تهديدا محتملا من شعوب يعتبرونها مصدر ثقة من تقاسم اللغة أو الدين أو القيم معها، ويتوقعون التهديد بدرجة أكبر من دول مختلفة عنهم ثقافيا. لكن وعلى كل ذلك بدأت الدولة الحديثة تعاني فقدان سيادتها ووظائفها وقوتها أمام المؤسسات الدولية التي صارت تؤكد وبشكل معلن حقها في الحكم على ما تفعله الدول داخل أراضيها وتسعى لتقييده، إضافة إلى ذلك تم استحداث آليات وأساليب بيروقراطية تتعامل مباشرة مع الأفراد والمواطنين العاديين. ذلك ما أحدث توجها لدى الحكومات للتنازل عن سيادتها لصالح قوى إقليمية أو حتى التفاوض مع حركات داخلية تدعو إلى الانفصال، كما أنها فقدت التحكم في تدفق الأموال إلى داخل البلاد، إضافة إلى فقدانها السيطرة على تدفق التكنولوجيات والأفكار والسلع وحتى البشر، وهذا الاختراق المتزايد جعل البعض يتنبأ بنهاية نمط الدولة الحديثة التي تأسست في معاهدة وستفاليا سنة 1648 الذي أسس للنظام العالمي الحديث.

2- مظاهر انهيار السيادة وانهيار النموذج العلمي في الإقتصاد العالمي

تمثلت مظاهر انهيار السيادة التي ظهرت خلال الفترة ما بين نهاية الحرب الباردة وبعيد فترة إعلان النظام الدولي الجديد فيما يلي: 1- تضعضع السلطة الحكومية، 2- تفكك الدول، 3- انتشار الصراعات القبلية والعرقية والدينية، 4- ظهور شبكات الإجرام الدولية، 5- زيادة عدد اللاجئين بالملايين، 6- انتشار الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل، 7- انتشار الإرهاب، 8- تفشي المذابح. هذه المظاهر التي فُصّلت في كتابين الأول بعنوان: "خارج السيطرة" لزبيجينيو برجينسكي، والثاني: "الجحيم" دانيال باتريك موينيهان. إننا نجد أنفسنا في عالم يتقاسمه نموذجان: 1- نموذج الدولة، و 2- نموذج الفوضى، بحيث يسيطر الثاني على مشهد التغيرات السياسية العالمية سواء من حيث العلاقات الدولية أو من حيث السيادة الداخلية للدول، فقد بلغ عدد الحروب العرقية سنة 1993 مثلا 48 حربا، و164 شكوى وصراع عرقي على الحدود. فالعالم اليوم في حالة فوضى، لكنه ليس دون نظام، فهو إذن نموذج مزدوج جعل العالم في حالة من التفتت والإندماج في ذات الوقت، والنموذجان كلاهما حاصل بالفعل، وهذا ما يؤدي إلى تهديد النماذج العلمية (المعلوم أن النموذج القائم على الدولة الوطنية هو الذي كان سائدا، وأن استقرار النموذج وثباته يمكّن من بلورة نظريات علمية تقوم على أساسها السياسات وبشكل شبه دقيق، إلا أن تفكك النموذج أو تضعضعه يجعل من علمية السياسات تلك محل إعادة نظر، والإشكال الرئيسي هنا هو: أولا التحول لم يحصل بشكل تام فهو ما يزال يحتفظ بالنموذج القديم في بعض مظاهره، وثانيا هو أن التحول لم يحصل من نموذج منظم إلى نموذج منظم آخر لكن انتقال من حالة نظام إلى حالة فوضى.) ففي مجال الاقتصاد مثلا والذي تمت صياغته على أساس نموذج واحد هو نموذج الدولة وليس نموذج الفوضى، وذلك ما يدفع بالسياسة الاقتصادية إلى التخلي عن علميتها والتعامل مع الوقائع بشكل مباشر، حيث تحول التحدي في المجال الإقتصادي إلى تبني منهج لا يتعامل بشمولية مع الوضع الاقتصادي العالمي (بحيث تسهل إدارته والتحكم في دواليبه)، وإنما يتعامل مع مجرّد أجزاء من الواقع بما يعرّض التحكم في تسيير الإقتصاد إلى تهديد الإنفلات، وذلك عندما ينصب الاهتمام فقد على تفسير الأحداث التي تبدو أكثر أهمية من أجل الحصول على توجيهات لحظية وتقريبية تفارق النموذج التجريدي الشديد العلمية (أي الدقيق(. إن انهيار النموذج الاقتصادي القائم على الدولة الوطنية هو انهيار للأساس الذي عليه يتم تسيير شؤون العالم، وذلك بسبب التفتت والصراعات الأهلية التي جعلت من مركزية التحكم في العالم غير ممكنة، فالعالم لم يعد واحدا أو إثنان أو 184 (والآن 192) دولة وإنما عدد لا محدود من القبائل والجماعات العرقية والقومية.

3- البحث عن "كبش فداء" وحيد بديلا عن صراع مدمر بين الحضارات.

النظر إلى العالم باعتباره مجموعة حضارات (سبع أو ثمان) كمنظور تحليلي للأوضاع السياسية والاقتصادية العالمية يقدم لنا الإطار الأنسب والأسهل لاستيعاب العالم وفهمه٫ ذلك أنه نموذج وسط بين نموذجي الفوضى والنظام، وهو يفيد في تحقيق ما يلي: أولا: التأكيد على حضور قوى الإندماج وهو ما يعمل على والوعي بأهمية النظام. ثانيا: التمييز بين عالمين، عالم غربي يسود بنمطه الحضاري مقابل عالم غير غربي متعدد. ثالثا: أن الدولة الوطنية ستبقى أهم اللاعبين في العلاقات الدولية٬ لكنها سترتهن في لعبة المصالح أكثر فأكثر إلى العوامل الثقافية والحضارية. رابعا: التأكيد بأن العالم يعيش فعلا حالة من الفوضى المتمثلة في الصرعات القومية والطائفية، ومن ثم فإن أخطر ما يهدد الأمن العالمي هو الصراع بين الدول والجماعات ذات الانتماء الحضاري المختلف. لقد كان ما يقارب نصف عدد الصراعات العرقية سنة ١٩٩٣ بين جماعات حضارية مختلفة، الأمر الذي دعى المؤسسات الدولية تركيز جهودها على صنع السلام٬ ذلك أن الصراعات ذات البعد الحضاري تحمل إمكانية الاتساع أكثر من غيرها، (لذلك يبدو أن التركيز الآن على الصراعات الإسلامية الإسلامية أهون وأخف ضررا على الأمن العالمي، إذ ووفقا لنظرية رينيه جيرار حول "كبش الفداء" فإن التضحية بعنصر واحد من المجتمع٬ وهو هنا المجتمع الدولي٬ يكون ضروريا لتحقيق الأمن بين باقي الحضارات، بل إن البؤرة الجغرافية الإسلامية٬ سوريا نموذجا٬ هي التي تشكل راهنا ساحة المعركة بين الحضارات الأخرى، أو أن يكون المكون الثقافي المسلم هو العنصر المضحى به٬ مسلمو بورما كبش فداء لصراع داخل بورما نموذجا). فإذا كان نموذج الدولة الذي يستبعد نشوب الصراع بين أكرانيا وروسيا بسبب الحدود المشتركة الطويلة بينهما والتي تضاعف المخاوف الأمنية٬ فإن النموذج الحضاري يكشف عن إمكان انقسام أكرانيا الداخلي نظرا للتقسيم الحضاري الذي يفصل بين أكرانيا الشرقية الأرثوذوكسية وأكرانيا الغربية المنتمية للكنيسة الشرقية. وما يؤكد استفحال النموذج الحضاري في العالم هو ما حصل خلال فترة ستة أشهر من سنة 1993 التي كان منها مثلا سياسة التحجيم التي اتبعتها الولايات المتحدة تجاه إيران والعراق، دعوة الرئيس الإيراني لتحالفات مع الصين والهند لمواجهة الأحداث العالمية (التحولات الأخيرة للموقف المتبادل بين أمريكا و إيران تكشف عن تغيير جذري في الموقف خاصة من الطرف الإيراني الذي يبدو أنه اتخذ سياسة مهادنة تجاه أمريكا واستيعابا لمنطق الصراع الحضاري واندراجا في السائد منه)، وذلك إضافة إلى كسر الصين للعقوبات الأمريكية القاضية بوقف انتشار الأسلحة، وكذا رفض كوريا الشمالية الاستمرار في المحادثات حول برنامجها النووي. كل ذلك دفع برجل الدولة الكندي ليستر بيرسون إلى الكلام عن انبعاث حيوي للمجتمعات غير الغربية، وهو إحياء سيتخذ أشكالا جديدة غير مألوفة لدى الغربيين، وأن تحديا نوعيا جديدا هو اليوم مطروح على دول أوروبا، وهو أن أعقد المشاكل لم تعد تنشأ بين دول داخل حضارة واحدة، وإنما بين دول من حضارات مختلفة، وأن ما أخر ظهور ذلك هو الحرب الباردة التي دامت طويلا.

4- الحضارة العالمية: هل هي ممكنة؟

يشير مدلول "الحضارة العالمية" إلى اتجاه البشر إلى التقارب الثقافي والقبول المتزايد بقيم وتوجهات وممارسات ومؤسسات تكون مشتركة، وبديهي أنهم وبالأصل مشتركون في قيم أساسية تتمثل في حد أدنى من الحس الأخلاقي والأسرة كمؤسسة اجتماعية أساسية مثلا، لكن إذا تم القبول  بحضارة عالمية واحدة فما سيكون اعتبار الكيانات الثقافية الكبرى التي تجمع إليها جماعات فرعية من قبائل وشعوب؟ سيكون الافتراض هو أن تتبخر تلك الجماعات الكبيرة من القبائل والشعوب، هذا الذي لا يقبل به فاكلاف هافل الذي يتصور أننا نعيش حاليا حضارة عالمية بالفعل لكنها ليست إلا القشرة الرقيقة التي تغطي وتخفي ذلك التنوع الكبير في الثقافات والشعوب والأديان والتقاليد والاتجاهات التي توجد جميعها تحت تلك القشرة الكونية! (ويساعدنا المثال اللغوي في إدراك الأمر بأكثر وضوحا، إذ التحدي هنا أن ترتبط بتلك الحضارة لغة واحدة تغمر كل لغات العالم الأخرى، ومعلوم أن اللغة هي الرافد لكل ما تقدم التنوعات تحت القشرة الحضارية الكونية، وأن تصور حضارة عالمية واحدة تحقق الانسجام إنما يقوم على إنهاء كل اللغات والإبقاء على لغة واحدة، هذا إذا أردنا إلغاء مفهوم الهيمنة، أو الغلبة كما صاغه ابن خلدون، الذي صار مدخلا للتعصب والفاشية في تصور بعض من المثقفين في مجالنا التداولي…). حسب هنتنغتون، يمكن القبول بمقولة الحضارة العالمية فيما هو مشترك في المجتمعات المتحضرة من قبيل المدينة كمحيط ضروري للعيش فضلا عن القراءة والكتابة التي تميز المتحضر من البدائي والمتوحش، لكن ورغم ذلك نجد أن إقصاء البدائيين من مجال الحضارة البشرية أمر كان قد أفزع علماء الانتروبولوجيا، لكن لا اختلاف في أن الحضارة بالمعنى المتقدم آخذ لا محالة في الانتشار والتوسع ليشمل البشر جميعهم. من المؤتمرات الحاضنة لمثل هذا التوجه للحضارة العالمية منتدى دافوس السنوي في سويسرا، فيه يجتمع حوالي ألف رجل من عدة مجالات: الأعمال، المال، السلطة، المثقفون من عشرات البلدان، ذوو مستويات علمية عالية في القانون والاجتماع والسياسة وعلوم الطبيعة، ماهرون في الجدل، متمكنون من اللغة الانكليزية في حدها الأدنى، كثيرو السفر ومتفقون على قيم: الفردانية، الرأسمالية، الديمقراطية… فهم يشتركون فيما يمكن أن يسمى "ثقافة دافوس" التي لا ينضوي تحتها من خارج النطاق الغربي إلا ما نسبته صفر فاصل واحد بالمائة من سكان المعمورة أي حوالي خمسين مليون شخص، وهو ما يشي بأن الثقافة تلك لا توجد إلا على مستوى النخبة وليس لها جذور عميقة في كثير من المجتمعات. إن الرهان قائم على إمكان انتشار أنماط الاستهلاك الغربية بين الثقافات الشعبية، لكنها رهان لا علاقة له بنشر "الحضارة العالمية" الواردة قيمها في "ثقافة دافوس"، ذلك أن انتقال القيم الثقافية من حضارة إلى أخرى ظاهرة قديمة قدم الحضارات الإنسانية، سواء تعلق الأمر بأساليب وتقنيات أو أزياء ومظاهر، تنتقل من حضارة إلى أخرى دون أن تغير من الثقافة الأساسية شيء. لذلك فإن الزعم بأن انتشار ثقافة "البوب" والبضائع الأمريكية في مختلف أنحاء العالم، وأن غاية الإنسان الغربي يكمن في قضم الماكدونالد، فإن ذلك يجعل من الحضارة الغربية تبدو تافهة، فضلا عن ذلك فإننا نجد مجموعة من الشباب العربي الذين يرتدون الجينز ويشربون الكوكاكولا ويستمعون لموسيقى الراب، نجدهم هم يقومون بزرع قنبلة لتفجير طائرة ركاب أمريكية، فضلا عن أن استهلاك الأمريكيين أنفسهم لملايين المنتجات اليابانية لم يحد من نمو متواصل لعدائهم تجاه اليابانيين، ومن ثم كانت الغطرسة فقط هي التي تجعل الغربيون يعتقدون بإمكان "تغريب" العالم.

5- التفوق التكنولوجي الغربي وانقلاب السحر على الساحر

بالإضافة إلى عولمة السلع الاستهلاكية (والعولمة هنا تأتي في صيغة فعل مضارع (Continus)  يدل على السعي إلى إضفاء صبغة العالمية على المنتجات المحلية من خلال اعتماد آليات محددة منها خاصة الاقتصاد/التكنولوجيا/الاعلام، والمحلية هنا ليست بالضرورة أمريكية، لكنها يجب أن تناسب تتخلص من حمولتها الثقافية وتندرج ضمن النسق العالمي)، يتم التركيز على الإعلام، وهوليود خاصة بوصفها إنتاج ثقافي، ويؤكد هذا النزوع السيطرة الأمريكية على هذا القطاع الذي يفوق سيطرة بعض الصناعات الحربية، ذلك أن 88 فيلما هوليوديا من بين 100 فلم عالمي جذب أكثر المشاهدين في العالم سنة 1933، كما أن نصف المؤسسات الإعلامية العالمية المسيطرة على جمع الأخبار ونشرها أمريكية، وموقف القوة الأمريكي في المجال الإعلامي-الثقافي يعكس ظاهرة: 1- تركيز الاهتمام على الجوانب الإنسانية: يقول راسل " للسنما دور مركزي في الدعاية وطبيعتها الفنية تمنحها تأثيرا كونيا نحو توحيد مشاعر البشرية، لذلك فإننا نجد لكل دولة سنما خاصة بها، والانتاج السنمائي يتطلب أموالا باهظة، والبقية تكتسحه هوليوود التي بات الشباب ينسجون على منوالها في تصوراتهم عن الحب والشرف والمكانة والثراء والبزة، وتتجاوز السنما في تأثيرها كل المدارس والكنائس في الموضوعات القريبة من النفس كالتي تقدم ذكرها، حتى لئن مكانة المنتج السنمائي تعدل مكانة الكهنة، ذلك أنهم يتدخلون من خلال الطبيعة الفنية للسنما في أدق تفاصيل اختيارات القيم والحياة اليومية." 2- تلقي الجمهور غير الأمريكي للأفعال الأمريكية لايكون وفق التفسير الأمريكي، بل وفقا لقيم تلك الشعوب على اختلاف حضاراتها، أي وفقا لمنظورهم، فانتقال صور الغزو الأمريكي للعراق والصومال إلى بيوت الناس في مختلف أنحاء العالم سيؤدي إلى صورة عكسية مما يأمله ناقلوا الصورة ومنتجوها، ذلك أن تلك الشعوب غير الأمريكية ستعتقد أن الدور آت عليها لا محالة، وهذه إشارة بالغة الخطر. فالاتصالات الكونية التي تعد أكبر تجل للتفوق الغربي، هي ذاتها ستدفع بالمفكرين الشعبيين في المجتمعات غير الغربية إلى استنكار الهيمنة الثقافية الغربية وحث شعوبهم على التمسك بثقافاتهم المحلية، ومن ثم ينقلب مصدر القوة الأمريكية إلى مصدر تهديد. (يصدّق ذلك مقولة الباحث الفرنسي ستيفان هيغون بأن التكنولوجيا المتطورة تشكل مصدر أفضلية لغير الغربيين ومصدر تهديد للغربيين وذلك استنادا إلى "مفهوم القرصنة" الذي يحول الثمين الغربي إلى رخيص خارج الغرب). بحلول التسعينات أدت سياسات التحديث في المجتمعات غير الغربية إلى ظهور صناعة الإعلام المحلي والإقليمي لخدمة الأذواق والتطلعات الخاصة بتلك المجتمعات، إذ وبالإضافة إلى التكثيف المتزايد للاتصالات، كل ذلك سيؤدي إلى تزايد الشعور بالتقارب بين الأمم، أو على الأقل تزايد التقارب بين الطبقات الوسطى وذلك في قضايا تكون مهمة.

خاتمة

أخيرا ومن خلال ما تقدّم فإن الملامح التي رسمها هنتنغتون عن واقع العلاقات الدولية الجديد يشي بأمر جوهري وهو أنه وعلى اعتبار هيمنة القوى التقليدية عليه ظاهريا فإنه يبقى يخفي في باطنه من التفاعلات والارهاصات ما قد يتعسر توقع نتائجه على أفضل العقول الاستراتيجية المفكّرة، إذ يبقى القول بزوال القشرة الفوقية التي كانت تحكم قبضتها على التنوع الذي تكتنزه المعمورة لفعل الهيمنة الفعلية للمعسكرين الرأسمالي والاشتراكي أفضل تعبير عن الحقيقة التي ماتزال تتفاعل إلى غاية اللحظة، وأن النتيجة الأولى الناتجة عن ذلك هي انفتاح المستقبل على ممكنات كثيرة بما يجعل من الحاضر مجال مناورة قد يقلب الموازين التقليدية رأسا على عقب خاصة على يد الثقافات التي تم تهمَّشت طويلا..

داخل الدراسات
أبريل 2025
د ن ث أرب خ ج س
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
27282930  

الأرشيف

إحصائيات الموقع

167251
اليوم : 133
الأمس : 117
هذا الشهر : 4427
هذا العام : 15963
مشاهدات اليوم : 552
مجموع المشاهدات : 506706
المتواجدون الآن : 3