الموت الخوف والفن والدين (*)
فكرة سائدة مفادها أن الإنسان استطاع الاستقرار لأول مرة وتخلى عن حياة الترحّل عندما اكتشف الزراعة، إلا أن لويس ممفورد كان له رأي آخر مفاده أن بداية التحضّر استندت إلى حقيقة أخرى ترتبط بالجانب الشعور الرمزي عند الإنسان[1]. ذلك أن أبسط صورة لتمدّن الإنسان هو تميزه بنسبة زائدة من الخوف عن الحيوان، وأكثر مظاهر خوفه جلاء هو اهتمامه الشديد بالموتى، من خلال دفنهم بعناية، وإحاطتهم بجو من الإجلال الناشئ عن الخوف والرهبة[2]، ويرجّح لويس ممفورد أن إجلال الإنسان القديم للموتى يرجع إلى ما انطبع في قرارة نفسه من الخوف من الموت والحزن لموت أقربائه، وقد كان أثر ذلك الخوف أقوى من الحاجات المادية في دفعه إلى الاستقرار[3].
ومادام الخوف هو أصل التحضر الإنساني لكونه العامل الذي دعى الإنسان للاستقرار بفضل الارتباط الوجداني بقبور الموتى، حيث ثبات القبور في مكان محدّد، وإذا تعمّقنا الموضوع هذا أمكننا الذهاب إلى أبعد من ذلك بافتراض أن الخوف الزائد هو أصل ظهور العقل في تاريخ الكون، أو بافتراض أوضح أن درجة الخوف هي التي تحدّد درجة الوعي عند الكائن، باعتبار أن الكائنات تحور وعيا أقل درجة من الإنسان، ما يجعل من الخوف مسألة ذات شأن في استكشاف العقل البشري وكينونة الإنسان، وهذه أطروحة يمكن الاستفاضة فيها في بحث آخر.
- التمدّن والموتى:
لقد كان الموتى أسبق من الأحياء في الظفر بمأوى ثابت: سواء كان في الكهف أو تحت كومة أو فوق ربوة من الأرض، فكانت قبور الموتى تجذب الأحياء من حين لآخر لمناجاتها واسترضائها، هكذا كانت قبور الموتى تجذب الإنسان لمستقر واحد بالعكس تماما من الحاجة المادية التي تدعوه إلى الترحل المستمر وهي الصيد؛ بهذا يكون الموتى أصحاب الفضل في استقرار الإنسان، وهذا يعني أن الأموات بقبورهم شكلوا نواة نشأة المدينة والتحضر الإنساني، فضلا عن أن الموتى هم أول من هاجر من المدينة إلى الريف عندما اكتظت المدينة، أي أن الظواهر الأساسية للحياة الإنسانية التمدن (الاستقرار) والهجرة (الحراك) سبق إليها الموتى[4].
- التمدّن والفنون والطقوس
إن الدور الذي قامت به الكهوف من ناحية كونها مجالا لميلاد الفنون والطقوس الإنسانية كان سابقا وأهم بكثير من استخدامها من أجل السكن، كانت الكهوف تستعمل كمراكز لإقامة الطقوس الدينية، ففي الأغوار الداخلية لبعض الكهوف وجدت حجرات طبيعية عظيمة غطيت جدرانها بصور ملونة تثير الدهشة لما حوته من روعة الحيوية في الشكل والإنطلاق في الرسم، كان أغلبها صور واقعية رائعة للحيوانات أو صور لرجال ونساء تلتزم بالتكلف والتزام نمط بعينه[5].
وفي هذا تأكيد على ارتباط الفن بالدين دائما لكون الفن تعبير عن أعمق ما يؤمن به الإنسان ويعتقده، وأن الطقوس دائما ترتبط بأداء فني معين. مثل: ترتيل القرآن الذي يرتبط بالمقامات الموسيقية، تزيين المساجد الذي ارتبط خاصة بالزخرفة والإبداع المعماري تشريع الزّينة في الأعياد حيث تعتبر الأعياد في الدين أيام زينة يتحلى فيها الناس باللباس الأنيق الذي يصممه ويخيطه أهل صناعة هم فنانون في مجالهم، ويأكلون ما تتحفه به أنامل ماهرة في مجال تحضير الأكلات والحلوى، فضلا عن تزيين السكن وحضور فن الديكور في قاعات استقبال الضيوف مثلا، مما يدلّ على علاقة وثيقة جدا بين الفن والدين من المهمّ بحثها في دراسة مستقلة أيضا.
بهذا تكون الرسوم التي تم تثبيها في جدران الكهوف من عوامل جذب الإنسان للاستقرار، ومن المرجّح أن تكون الشعائر التي كانت تقام في الكهوف تقوم خلفها دوافع اجتماعية ودينية تضافرت لاجتذاب الناس إلى المدن، وهو المكان الذي وجد فيه الإنسان المجال الفسيح للتعبير عن مشاعر الرهبة والإجلال والكبرياء والفرح، مشاعر تخلدت في الفن كما تخلّدت بتهافت الناس عليها كحاجة نفسية واجتماعية[6].
إن أولى علامات الحياة المدنية قد ظهرت في الهياكل العتيقة حيث ارتبطت كل المدن عبر التاريخ بنصب ومعابد تم بناؤها لإقامة الطقوس داخلها أو حولها، فلم يقتصر سعي الإنسان في تحسين حياته على زيادة طعامه وتجويده إنما عمل أساسا على زيادة “المتعة الاجتماعية” عن طريق الاستعانة بالفن والرموز التي تحقق أحلام اليقظة، وهي على ذلك تعبير عن تطلع البشر إلى حياة أسمى حافلة بالمعاني والأهداف وثرية بالذوق والجمال الأخاذ، وذلك ما عناه أرسطو في كتاب السياسة عندما تحدث عن المدينة بأنها حملت وحققت طوباوية الإنسان[7]، أي أنها كانت المكان الذي نشأ بفضل أحلامه وطموحه وفيها ايضا تحققت تلك الأحلام والطموحات، وفي ذلك يقول ممفورد “لا شك أن مزاولة الإنسان للفن كانت تزود حياته البدائية بشيء جوهري له من الأهمية ما كان للغنيمة المادية التي يعود بها من الصيد”[8].
- الأبنية والهياكل والتمدن
لم تكن الفنون وطقوس العبادة تمارس بمعزل عن الارتباط بهياكل ومعالم طبيعية مثل الكهوف ودور العبادة التي تتمثل في أحجار ضخمة أو أحواض أو منابت أو آبار تجتذب إليها الناس، ومعلوم أنها ليست وحدها المعالم التي كانت مبدأ لظهور المدينة لكنها تؤلف الجانب الأكبر من نواتها، والواضح أن الكهوف كبيوت طبيعية هي التي أوحت للإنسان بأهمية إحاطة نفسه بجدران وسقف تحميه يقوم ببنائها في بقع خالية تحقق له مضاعفة الجهد الروحي وتسمح له بالتحليق في آفاق النشوة العاطفية: الحميمية العائلية، الشعائر الدينية، الطقوس الاجتماعية، الاستمتاع… إلخ
لقد كانت كهوف الجبال النموذج الأولي للمنازل والمعابد، وما تلاه من مؤسسات مدنية ظهرت بعد ذلك من المراكز العلمية وبيوت الفنون وملاعب الرياضة هي كلها امتداد لأساس سعي الإنسان لتحقيق أولوية “المتعة الاجتماعية” و”السعادة الروحية”[9]، فالسياحة اليوم في العالم تشكل ظاهرة محورية في حياة الأفراد، سياحة دينية وسياحة علمية وسياحة استجمام… إلخ، وهي تشكل في بعض الدول مصدر دخل هام رغم أنها ليست استهلاكا ماديا، فالسياحة هي جملة من الخيرات الرمزية التي يستهلكها السائح كالتمتع بالمناظر الطبيعية والمآثر التاريخية أو زيارة المقدّسات الدينية.
وأهمية ذلك أن الشأن الرمزي بوصفه متجليا في المعلم الدينيا و الإبداعات المعمارية والفنية، فإنه يتجه بالإنسان إلى الخلود وهو أهم من سعي الناس إلى تحقيق فوائد عرضية ومؤقتة، فالممارسة الفنية مصدر جذب ودفع روحي قوي جدا سيكون أكثر خلودا وأبعد صيتا، فما أن كاد الإنسان يتحرر من قيود احتياجاته الحيوانية المباشرة حتى أخذ عقله يحلق فوق رقعة الوجود بأسره تاركا آثاره الواضحة على الطبيعة والنفوس، والفن في النهاية نقش على الطبيعة والنفس له أثر عميق على النفوس بما يشكل الحقيقة المعنوية للناس، فلا تبقى الجوانب المادية إلا أمرا ثانويا، فلا تكون الحياة الحيوانية إلا من أجل السمو والخلود.
- خاتمة:
إن المستفاد مما تقدّم هو أن ممفورد سعى وبشكل غير معلن إلى إعادة الاعتبار للشأن الرمزي في الحياة الإنسانية، بحيث جعل منها أصلا للتمدّن ومحورا تحوم حوله كل مشاغل الإنسان اليومية والحضارية على سواء، فحتى الجانب المادي يصبح من منظوره مسألة ثانوية تدور على محور الحياة الرمزية والروحية.
ولهذا التصور أهمية كبيرة في تصور النخب الرمزية لنفسها وتصور الجمهور لها، فضلا عن أنه مدخل مهم جدا لإعادة بناء الهرم الاجتماعي للمجتمعات النامية الذي يقع الشأن الرمزية والمشتغلين على الشأن الرمزي: بدءا بالفنون مرورا بالآداب ووصولا إلى العلوم، ذلك ما سيكون الضامن الرئيس لإقامة المجتمعات على أسس صلبة وسليمة تكمنها من التقدّم والتنمية.
——————————————–
(*)- نص المداخلة التي ألقيت في ندوة “أهمية الإبداع الرمزي والإنتاج الثقافي في المجتمع“، من تنظيم قسم علم الاجتماع والديمغرافيا بجامعة غرداية، تنسيق د. محمد عبد النور، يوم 20 فيفري 2019 بالمدرج 01.
[1] – اعتمدنا في هذه المداخلة على آراء لويس ممفورد الورادة في كتابه: المدينة عبر العصور (أنظر إحالة الكتاب كاملة في الهامش الموالي)، حيث قمنا بعرض الأفكار معتمدين كما وردت مع بعض الإضافات.
[2] – لويس ممفورد، المدينة عبر العصور: أصلها وتطورها ومستقبلها، الجزء الأول، ترجمة: إبراهيم نصحي، المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى، القاهرة 2016، ص 09
[3] – لويس ممفورد أستاذ الدراسات الإنسانية في جامعة ستانفورد ثم جامعة بنسلفانيا، ناقد اجتماعي مؤرخ وفيلسوف أمريكي، له نشاط ملحوظ في الفن المعماري وتخطيط المدن، اشتغل على إبراز العلاقة بين إنسان العصر الحديث والبيئة المحيطة به.
[4] – المرجع نفسه، 09، 10
[5] – المرجع نفسه، ص 11
[6] – المرجع نفسه، ص 12
[7] – الطوباوية (Utopy) في المعنى الاصطلاحي هو الحلم غير الواقعي، أو هو مثال يراد بلوغه، وهنا تأتي المدينة كمجال مثالي لتحقيق المثل البشرية، أو على الأقل لظهور الفنون التي تعوض قصور الإنسان، ما يجعل من حقيقة الفن محاولة واعية في تعويض المثل المستحيلة بأحلام يقظة !
[8] – المرجع نفسه، ص 12 13
[9] – المرجع نفسه، ص 13