ملخص المداخلة في مؤتمر القيم والتغير الاجتماعي. كلية العلوم الاجتماعية. جامعة غرداية يومي 26 و 27 أكتوبر 2015.
معلوم أن الحديث عن "قيم جديدة" هو تسليم بحصول تغيير عميق داخل البناء الاجتماعي ومؤسساته، ذلك أن القيم تنتج عن طبيعة البنية المؤسسية للمجتمع ومضامينها، لذلك كان ضروريا -وقبل الشروع في الكلام عن قيم جديدة- الاستدلال على حصول التغيير العميق بواسطة قراءة تاريخية ومؤشرات واضحة عن تغير البناء الاجتماعي. فما طبيعة البناء الاجتماعي في المجتمعات المحلية؟
هو مزيج من التكوينين الطبيعي والصناعي، حيث يتجلى الأول في الانتماء للعائلة والعشيرة والقبيلة، أما المصنوع فهو البناء الفوقي الذي تفرضه الحياة الحديثة من مؤسسات اجتماعية ذات معايير لا شخصية –لا تلقي بالا لهوية الأشخاص-، ذلك الهجين (Magma) الذي تشهده المجتمعات التي لم تندرج ضمن التطور التاريخي للحداثة كما عرفتها أوروبا، ولم تعرف منها إلا نتائجها. فبينما حصل صهر تام للفرد في القالب الحديث في أوروبا، حيث لم تتجاوز العودة إلى الأصل في أوروبا مسائل شكلية خالية من أية مضامين أثرية فعلية وهو ما يعبر عنه مجتمع مابعد الحداثة، أما البناء التقليدي في مجتمعاتنا المحلية عامة لم يشهد تذويبا تاما بقدر ما تم توظيفه في تحقيق حد أدنى من البناء الحداثي، ومن ثم فقد شهد البناءان تعايشا إلى غاية اللحظة؛ لذلك كان من الضروري تحديد الجانب الذي عليه ظهرت ضمنه القيم الجديدة المزعومة.
بالإمكان القول أن الحياة الحديثة التي وفرت التعليم المدني والوظيفة المدنية ووسائل الاتصال والمواصلات أحدثت بمرور الزمن وتعاقب الأجيال شروخا بنيوية في الداخل القيمي التقليدي الذي يعد مركز أمان القيم الاجتماعية، فقد ولد التثاقف/الصدمة الثقافية انهيار شبه نسقي للمنظومة القيمية. ومن المفاجئ أن ذلك الانهيار القيمي لم يطل البناء المؤسسي، والذي حصل هو أن البناء المؤسسي وبعد تفريغه من القيم التقليدية صار يمتلئ بقيم بديلة حصلت بفعل التثاقف/والصدمة الثقافية، والمحصلة أن المؤسسات التقليدية فقدت هيمنتها، إنما فقط ضمنت بقاءها كهياكل تأثرت هي الأخرى بالروح السائدة، فصارت أول من يؤسس للقيم الجديدة ويدعمها بوعي أو بغير وعي، ذلك الذي جعل إمكان العودة إلى الماضي مستحيلا، هكذا يصبح السؤال متعلقا بطبيعة القيم الجديدة، وهل أُفسِح المجال للقيم الحديثة بالهيمنة؟
تقدّم أن المجتمعات المحلية عامة لم تعرف الحداثة كنسق ذاتي ناشئ عن سيرورة تاريخية بل عرفته في نتائجه فحسب، ومن ثم فحتى لو انتصرت قيم الحداثة على القيم التقليدية في المجتمع الجزائري فإنها ستكون أكثر هشاشة مما صارت إليه القيم التقليدية، وهنا مأتى الحيرة: إذا لم تكن أيا من القيم الحديثة ولا التقليدية محل تعضيد وتعميق بل على العكس هي في اتجاه الانبتات والانفصال معا، فأي نموذج قيمي يمكن أن ينشأ عن المسار الراهن؟ واضح أن الأجيال الشبابية بين نمطين من القيم، قيم مافوق تقليدية وقيم مابعد حديثة، فالأولى تبحث عن معنى وجودها في الأفكار المجردة (بحثا عن نموذج) لا في المؤسسات التي أعرضت عنها، والثانية ذات نزعة لا أدرية (آنية وغيابية)، والواقع أن النموذجان هما السائدان حاليا رغم كونهما مضمران يتصارعان خفية، وإن كانت مؤشراتها ظاهرة للعيان، وأفضل نموذج لهما هو الشاب المتزي بزي ما بعد حديث يعانق نماذج تفسيرية كبرى، فهو منشطر بينهما، وأن الصراع لن ينتهي إلا بغلبة أحدهما على الآخر. النموذجان يتصارعان بشكل غير واع في الذات الاجتماعية، الأول عبر حضوره المفروض بفعل التثاقف/ الصدمة الحضارية والثاني كروح تاريخية ساعية للعودة. وترجيح الواحدة على الأخرى موكول إلى عمل التاريخ الذي سيحدد نمط قيم المستقبل.