سليمان بن يوسف (*)، محمد عوف (**)
توماس صامويل كون (1922 – 1996) هو مفكر وفيزيائي أمريكي أنتج بغزارة في تاريخ العلوم وفلسفة العلوم، تحصل على شهادة في الفيزياء من جامعة هارفرد ثم كان من حسن الحظ أن شارك في إحدى المواد الدراسية التطبيقية حول تاريخ العلوم، تقدّم فيها الفيزياء لغير العلماء، هناك شُغِف كون بالموضوع عندما بدأ اكتشافه للنظريات القديمة جداً في الفيزياء، مما جعله يعيد التفكير في طبيعة العلم وعلل تطوره إلى حدّ الآن.
عكفَ كون 15 سنة على بحثه، الذي نتج عنه كتاب: “بنية الثورات العلمية” الذي ألغى فيه فكرة أن تاريخ العلوم مستقيم ومتسلسل (تراكمي)، بل كان تقدّم العلوم دومًا مرهونًا بالثورات التي حدثت وتحدث عبر التاريخ، وفصّل في كتابه كيفية حدوث هذه الثورات وبنيتها فيما يسمى بدورة كون.
وتجدر الإشارة إلى أنّ كون كان مولوعا لاستعمال التشبيهات، حيث نجد أنّ نظرية كون أقرب إلى نظرة كارل ماركس بأن التاريخ كله ثورات وصراعات طبقية، وأبعد من نظرة دارون التطورية، حيث يعرّف كون العلم بأنه مجموع ثوراته ، وثوراته تكون متحديّة – اجتماعية، متحدّية بمعنى المتحد العلمي والمهني (العلماء والمهنيين) ، ولا يمكن فهم تاريخ العلوم وشرحه بشكل فردي بل يكون ذلك بفضل المتّحدات العلمية و براديغماتها.
لذلك فقد شبّه كون دورة بدورة تغير الكرة الأرضية عبر التاريخ، وقسّمها إلى ثلاث مراحل:
– في مرحلة العصر الجليدي كانت حرارة الأرض مستقرة نسبياً، هذه الحالة تمثل البراديغم السائد الذي يفهم العلماء من خلاله ظواهر العالم، ويضعون قوانينًا وفقه.
– ثم يحدث تغير طفيف في مدار الكرة الأرضية يصبح الطقس على الكرة الأرضية مضطرباً وغير مستقر، هذه المرحلة تمثل حالة التأزم عندما يقوم العلماء بإجراء تجارب تتحدى القوانين السائدة ويعجز البراديغم عن تفسيرها، أي أنّ هناك ثورة قيد التنفيذ.
– بعد فترة تبدأ الكرة الأرضية بالاستقرار والتكيّف مع الحالة الجديدة، هذه الحالة تمثل المرحلة الأخيرة من دورة كون وهي إيجاد براديغم الجديد و مجموعة قوانين جديدة، حينها يبدأ العلماء بممارسة تجاربهم لتبدأ دورة أخرى وهكذا تتطور العلوم.
السؤال الذي يطرح نفسه، لماذا لا يمكن التقيّد بنموذج وحيد؟ ألا يمكن أن نصل إلى نموذج يفسر الظواهر ونكتفي به دون الحاجة إلى تغييرها كل مرة؟ هل ممكن أن نصل إليه؟
لقد حاول فلاسفة العلم عبر التاريخ إيجاد حل للمشكلة، بعدّة طرق ومناهج مختلفة، كانت البداية مع المنهج الاستقرائي الذي يفترض أن الطبيعة تستمر بشكل منظم، وبالتالي هو مشابهة الظواهر التي جربناها بالظواهر التي لم نجربها، لكن هذا المنهج لاقى انتقادات كثيرة ابتداءً بكارل بوبر الذي هدم الاستدلال الاستقرائي من أساسه ونذكر الشهير: عدد الحالات التي نلاحظ فيها إوز أبيض، لا يسوغ الاستنتاج بأن الإوز كله أبيض، واقترح بديلا عنه منهج الفحص الاستدلالي، والذي يعني القابلية للتخطيء.
ثم جاء بعده ماكس فيبر الذي اعتقد أن العلم كله افتراضات وتفسيرات نحن وضعناها وقبِلنا بها وليس هو المعنى الكامل للحياة (فرق بين سؤال: هل الحياة تستحق العيش؟ أمّا العلم فيطرح سؤال: ماذا يجب علينا فعله للسيطرة على الحياة تقنيا؟).
وأشار بشدة إلى عجز العلم عن تقديم معنى للعالم ؟ وما هو الطريق إلى الله ؟
لا جواب إلا عند الأطفال الكبار J.
(الأطفال الكبار: بعض أساتذة الجامعات ومحرري المجلات والصحف)، وبالتالي: لا أحد يشكك بحقيقة لا دينية العلم حتى لو لم يقر بذلك حسب ماكس فيبر طبعًا.
ثم يلي بعده الفيلسوف بول فيرابند الذي طرح لأول مرة فكرة “عدم إمكان المقارنة’ التي تعني عدم إمكان مقارنة نظريتين علميتين، لأنهما تتصفان بالانفصال المنطقي، حتى لو كانتا تعالجان نفس الموضوع، لأن المرجعية هي النظرية والأفكار العلمية وليست أشياء الواقع المحسوس، لأننا لا نجزم بإدراك حقيقة الأشياء المحسوسة، بل هي تصوراتنا التي نبني عليها فهمنا للعالم حولنا.
إلى هنا نستخلص نتائج مهمة تساعدنا في الإجابة عن السؤال، وندرك لماذا وضع توماس كون فكرة الثورية في تاريخ العلم:
– النتيجة الأولى: أساس العلم ليس ثابتا، لأنه مبني على الإرادة الإنسانية، وقرار الإرادة الإنسانية بعدد قرارات الفلاسفة عبر التاريخ.
– النتيجة الثانية: الإرادة والمصلحة متلازمتان، أي أن الإرادة تأتي من سعي الانسان إلى مصلحة، وبالتالي أساس العلم هو المصلحة الإنسانية.
– النتيجة الثالثة: الآن فقد العلم أساسه الثابت، وأصبح تابعاً لقرارات الإرادة البشرية ومصالحها، صار يمثل أيديولوجيا تصدر عن الإرادات.
بما أن العلم خاضع لإرادات الفلاسفة فهو لا يفسّر العالم كما هو كائن بل كما نريده نحن، وهذا الفهم قاصِر ومحدود لن يدوم طويلاً بتقدم العقل البشري عبر العصور، أي أن النموذج مهما بداَ صائباً ومنطقياً ومتماسكاً أكيد ستنتهي صلاحيته يوماً ما لأنه مجموع أفهام وتصورات بشرية، طبعاً خدمة لمصلحة الإنسان وفضوله اللامتناهي.
وفي النتيجة الثالثة عندما تحدث كون عن فقدان أساس العلم، ليس فقداناً متعمّدا بقدر ما يمثل طبيعة العلم عبر التاريخ، الإرادة تنطلق لتحقيق المصلحة، والمعرفة وسيلة لتحقيق تلك المصلحة وهي خاضعة لإمكانات العقل التي وصل إليها الإنسان، وبالتالي لا اعتبر كون أنّ الثورة والحاجة للتغيير هي الثابت الوحيد الذي يدفع عجلة العلم نحو الأمام.
ونختم بأهم ثلاث أفكار رئيسية من نظرية كون حول الثورات العليمة هي:
العلوم ليست فردية، ليست واقعية، وليست تراكمية.
ملحق:
ما هو النموذج (البراديغم)؟
هو إطار العلم المعتاد(العادي)، وهو مجموعة التجارب المتعارف عليها التي والتي يجب الاحتذاء بها. ويمثل البراديغم السائد طريقة الأقرب لرؤية الواقع أو حدود ما يمكن اكتشافه في المستقبل القريب، وهو أوسع من المنهج العلمي العام.
ما هو العلم المعتاد(العادي)؟
حسب كون، يحدَّد العلم العادي بأنه مجموعة القواعد والقوانين التي جاء بها البراديغم، ولكن أصبحت ثابتة بمرور الوقت تقاوم أي تغيير، مما يستوجب ضرورة التغيير أو الثورة عليه.
ما هو المنهج الاستقرائي؟
منهج الاستقراء يعني مشابهة الظواهر التي جربناها بالظواهر التي لم نجربها، وأن الطبيعة تستمر بشكل منظم.
ما هو المنهج الاستدلالي؟
المنهج الاستدلالي: يعني إمكانية تكذيب القضية أو التحقق من صدقها بالفحص (Fallsifiability) أو القابلية للتخطيء.
بحث مقدّم للمشاركة به في ندوة الفكر الظاهراتي التي نظّمت في نادي نزهة لألباب بغرداية يوم 2017/04/01 تحت إشراف الأستاذ محمد عبدالنور.
————————————
(*) – السنة الثالثة الطور الثاني، المدرسة الوطنية العليا للري البليدة، تخصص هندسة المياه.
(**) – السنة الثانية ماستر هندسة كيميائية، جامعة ورقلة.